خطبةُ بعنوان (فضائلُ العشرِ من ذي الحجةِ ) لفضيلة الشيخ ياسر عبدالبديع

خطبة الجمعة بعنوان (فضل العشر من ذى الحجة)
لفضيلة الشيخ / ياسر عبدالبديع

بتاريخ 3 من ذى الحجة 1446 هجرية 30من مايو 2025 م

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ

فضل العشر من ذى الحجة
العُنْصُرُ الْأَوَّلِ : إلَّا وَأَنْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ لِنَفَحَات

فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَنَا مَوَاسِمَ لِلْبَرَكَات، فَالسَّعِيدُ مَنْ اغْتَنَمَهَا بِالطَّاعَات وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ؛ لِيَرْفَعَ رَصِيدَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ حَرَّمَهُ اللَّهُ خَيَّرَهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْمَوَاسِمِ الْمُبَارَكَة الْعُشْر الْأَوَائِلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ الَّتِي لَهَا مَنْزِلَةَ كَبِيرَةً فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ حَرِيصٌ عَلَى التَّقَرُّبِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَحْبَبْت أَنْ أَذْكُرَ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِفَضْل الْعُشْر الْأَوَائِلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ،

ذُو الْحِجَّةِ أَحَد الْأَشْهُر الْحَرَمِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ أَنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدَّيْنِ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التَّوْبَة: 36].

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إنْ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ))؛ (الْبُخَارِىُّ، حَدِيثَ 5550/ مُسْلِمٍ، حَدِيثَ 1679).

فَضْلِ الْعُشْر الْأَوَائِلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قُسِّمَ لِذِي حِجْرٍ ﴾ [الْفَجْرِ: 1 – 5].

قَالَ مُجَاهِدٌ بْنِ جَبْرٍ: الْمُرَادُ بِهِ فَجْرَ يَوْمٍ النَّحْرِ خَاصَّةً، وَهُوَ خَاتِمَةُ اللَّيَالِي الْعُشْرِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ الْمُرَادُ بِهَا عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعِبَدِاللَّه بْن الزُّبَيْر وَغَيْرِهِمَا؛ (تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ، جـ 14، صـ338:337).

قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الْحَجِّ: 28]، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامِ مَعْلُومَاتٍ: أَيَّامِ الْعَشْرِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ؛ (الْبُخَارِىّ، كِتَابِ الْعِيدَيْنِ، بَابٍ 11).

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ أَيَّامِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا أَحَبُّ إلَيَّ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ)) يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))؛ (الْبُخَارِيُّ )

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ كَالْأَمْكِنَة، وَفَضَل أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِيمَنْ نَذَرَ الصِّيَامَ أَوْ عَلَّقَ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ بِأَفْضَلَ الأَيَّامِ، فَلَوْ أَفْرَدَ يَوْمًا مِنْهَا تَعَيَّنَ يَوْمُ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الصَّحِيحِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَشْرِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ أَرَادَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ تَعَيَّنَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى فَضْلِ صِيَامَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِانْدِرَاج الصَّوْمِ فِي الْعَمَلِ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَان اجْتِمَاع أُمَّهَات الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجِّ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ؛ (فَتْحٌ الْبَارِي )

وَمَنْ أَعْظَم مَأْفُي أَيَّامٍ الْعُشْرِ يَوْمَ عَرَفَة

تَسْمِيَة يَوْم عَرَفَةَ:
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَتْ عَرَفَاتُ لِمَا رَوَاهُ عَبْدِالرَّزَّاق: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: قَالَ عَلَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ: بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحَجَّ بِهِ، حَتَّى إذَا أَتَى عَرَفَةَ قَالَ: عَرَفْت، وَكَانَ قَدْ أَتَاهَا مَرَّةً قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَرَفَةَ؛ (تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ، جـ1، صـ255).

وَمِنْ فَضَائِلِ يَوْم عَرَفَةَ:

يَوْمَ عَرَفَةَ: يَوْمَ إكْمَالُ الدِّينِ وَإِتْمَام النِّعْمَةِ:

قَالَ تَعَالَى: ﴿ الْيَوْمُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [الْمَائِدَةِ: 3]، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ أَكْبَرُ نِعَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ حَيْثُ أَكْمَل تَعَالَى لَهُمْ دِينُهُمْ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى دِينِ غَيْرِهِ، وَلَا إلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهُ اللَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَعَثَهُ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَا حَلَالٌ إلَّا مَا أَحَلَّهُ، وَلَا حَرَامٌ إلَّا مَا حَرَّمَهُ، وَلَا دَيْنَ إلَّا مَا شَرَعَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ وَلَا خَلْفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الْأَنْعَام: 115]؛ أَيْ: صِدْقًا فِي الْإِخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَلَمَّا أَكْمَلَ الدِّينَ لَهُمْ تَمَّتْ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ الْيَوْمُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [الْمَائِدَةِ: 3]؛ أَيْ: فَأَرَضوه أَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّه الدَّيْنِ الَّذِي رَضِيَهُ اللَّهُ وَأَحَبَّهُ، وَبَعَثَ بِهِ أَفْضَلُ رُسُلَهُ الكِرَامَ، وَأَنْزَلَ بِهِ أَشْرَفَ كَتَبَه؛ (تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ )
قَالَ السُّدِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْايَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَاتَ؛

رُوِيَ مُسْلِم عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ايَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ؛ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمِ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ ايَةٍ؟ قَالَ: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾، فَقَالَ عُمَرُ: إنِّي لَأَعْلَمُ اليَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِى نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ؛ (مُسْلِم، حَدِيثِ 3017).

يَوْمِ عَرَفَةَ: يَوْمَ مَغْفِرَة الذُّنُوب:

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّ يُعْتِقُ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مَنْ يَؤُمُّ عَرَفَةَ، وَأَنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؛ (مُسْلِم، حَدِيثٍ 1348).

قَالَ ابْنُ عَبْدِالْبَرّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاهِى بِأَهْلِ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ إلَّا مِنْ بَعْدِ التَّوْبَة وَالْغُفْرَان؛

يَوْمَ عَرَفَةَ: يَوْمَ تَقْرِير حُقُوقِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّة:

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِاللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ (بَعِير النَّبِيّ) فَرُحِلَتْ (وُضِعَ عَلَيْهَا الرَّحْل) فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي (وَادِي عَرَفَةَ) فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: ((إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إلَّا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدِ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ إلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟))، قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَغَتْ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلَى النَّاسِ: ((اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَذِنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا؛ (مُسْلِمٌ، حَدِيثِ 1218).

يَوْمِ عَرَفَةَ: يَوْمَ الدُّعَاء:

رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))؛ (حَدِيثٌ حَسَنٌ) (صَحِيحٌ التِّرْمِذِيّ )

حَثَّنَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ ايَاتِ الْقُرْانِ وَكَذَلِك نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ الدُّعَاءِ.

قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [الْبَقَرَةِ: 186].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذْكُرُونَ ﴾ [النَّمْل: 62].
رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِى مِنَ عَبْدِهِ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إلَيْهِ إنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا))؛ (حَدِيثٌ صَحِيحٌ)، (صَحِيحِ أَبِي دَاوُد لِلْإِلْبَانِيّ، حَدِيثٍ 1323).

رُوِيَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبِ غَافِلٍ لَاهٍ))؛ (حَدِيث صَحِيحٌ)

يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنَّ يَنْتَهِزَ فُرْصَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ الْمُبَارَك فَيُكْثِرُ مِنْ الدُّعَاء.

صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ أَفْضَلُ صِيَامِ النَّوَافِل:

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ إِنَّ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ))؛ (مُسْلِمٌ، حَدِيث 1162).
اُنْظُرْ أَخِي الْكَرِيمُ إِلَى هَذَا الْفَضْلَ الْعَظِيمَ، كَيْفَ أَنَّ أَصُومَ عَرَفَة يَمْحُو اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ، فَالسَّعِيدُ مَنْ اغْتَنِمْ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، وَصَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَحَفِظَ فِيهِ لِسَانَهُ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَجَمِيعَ جَوَارِحِهِ عَمَّا يَغْضَب اللَّهُ.
وَيَنْبَغِي عَلَيكَ أَخِي الْمُسْلِمَ أَنْ تَدْعُوَ أَهْلِ بَيْتِكَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَكَذَلِك أَقَارِبِك وَأَصْدِقَاءك لِصَوْمٍ يَوْمَ عَرَفَةَ الْمُبَارَكِ، رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ))؛ (مُسْلِمٌ، حَدِيثَ 1893).

وَمَنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ يَوْمُ النَّحْرِ
فَضْلِ يَوْمِ النَّحْرِ:

يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ مُبَارَك, يُغْفَلُ عَنْهُ الْكَثِيرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.

رُوِيَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ قُرْطٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إنْ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمَ الْقَرِّ))؛ (حَدِيث صَحِيحٌ)

وَيَوْمُ الْقُرِّ: هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُقِرُّونَ فِيهِ بِمِنًى بَعْدَ أَنْ فَرَغُوا مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالنَّحْر وَاسْتَرَاحُوا؛

فَضَل أَيَّام التَّشْرِيق:

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ))؛ (مُسْلِم، حَدِيثٍ 1141).

قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ بَعْدَ يَوْمٍ النَّحْرِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَشْرِيقِ النَّاس لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فِيهَا وَهُوَ تَقْدِيدِهِا وَنَشْرِهَا فِي الشَّمْسِ. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابِ الْإِكْثَارِ مِنْ الذَّكَرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ التَّكْبِيرِ وَغَيْرُهُ؛

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَجْتَمِعُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ نُعَيْم أَبْدَانِهِمْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَنُعَيْم قُلُوبِهِمْ بِالذِّكْرِ وَالشُّكْرِ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ النَّعَم، وَكُلَّمَا أَحْدَثُوا شُكْرًا عَلَى النِّعْمَةِ كَانَ شُكْرَهُمْ نِعْمَةً أُخْرَى إلَى شُكْرِ اخَرَ، وَلَا يَنْتَهِي الشُّكْر أَبَدًا؛

العُنْصُرُ الثَّانِي : أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ

الرُّجُوعُ إلَى اللَّهُ
وَلِهَذَا؛ فَتْح – بِجَوْدَة وَكَرَمِه – بَابَ التَّوْبَةِ لِعِبَادِه، وَأَمَرَهُمْ بِهَا، وَحَضَّهُمْ عَلَيْهَا؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزُّمَر: 54]، وَوَعَدَهُمْ بِقَبُولِهَا مِنْهُمْ مَهْمَا عَظُمَتْ الذُّنُوبِ: ﴿ وَمِنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النِّسَاءِ: 110].

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ: ﴿ أَنْ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا ﴾ [النِّسَاءِ: 145، 146]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي شَأْنِ النَّصَارَى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ الَةِ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ثُمَّ دَعَاهُمْ إلَى التَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَه وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الْمَائِدَة: 73-74].

وَقَالَ فِي شَأْنِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، الَّذِينَ عُذِّبُوا الْمُؤْمِنِين بِحَرْقِهِمْ بِالنَّارِ: ﴿ إنْ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ الْحَرِيق ﴾ [الْبُرُوج: 10]، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرْمِ وَالْجُود؛ قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ). فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ – بَعْدَ ذَلِكَ – أَنَّ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَا أَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى «يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ»؛ رَوَاهُ مُسْلِم.
عِبَادِ اللَّهِ، لِلتَّوْبَة فَضَائِلُ جَمَّةٌ، وَإِسْرَار بَدِيعَة، وَفَوَائِد مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْ أَعْظَمِهَا: أَنَّ التَّوْبَةَ سَبَب لِلْفَلَاح؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النُّور: 31]، فَمَنْ أَرَادَ الْفَوْزَ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ؛ فَلْيَتُبْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَمَنْ أَعْظَم الْبِشَارَات لِلتَّائِبِين: أَنَّ التَّائِبَ تَبَدَّل سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَكَرْمًا، قَالَ تَعَالَى: ﴿ إلَّا مِنْ تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الْفُرْقَان: 70]. وَبِالتَّوْبَة تُكَفَّر جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَات: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ [التَّحْرِيم: 8].

وَالتَّوْبَة سَبَبٌ لِنُزُولِ الْأَمْطَار، وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ، وَالْإِمْدَاد بِالأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ: قَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِه: ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [هُود: 25]، وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِه: ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ نُوح: 10-12].

وَاَللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ التَّوْبَة وَالتَّوَّابِين: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [الْبَقَرَةِ: 222]. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَوْ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ، لِمَا اُبْتُلِيَ بِالذَّنْبِ أَكْرَمَ الخَلْقِ عَلَيْهِ؛ فَلَمْحَبَتِه لِتَوْبَةِ عَبْدِه، ابْتَلَاه بِالذَّنْبِ الَّذِي يُوجِبُ وُقُوعَ مَحْبُوبِهِ مِنْ التَّوْبَةِ، وَزِيَادَة مَحَبَّتِه لِعَبْدِه؛ فَإِنْ لِلتَّائِبِين عِنْدَه مَحَبَّة خَاصَّةً).
وَهُوَ – تَبَارَكَ وَتَعَالَى – يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِين: كَمَا مَثَّلَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «لِلَّهِ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِه مَهْلَكَة، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحُرُّ وَالْعَطَشِ، قَالَ: ارْجِعْ إلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْفَرَحِ فِي شَيْءٍ مِنْ الطَّاعَاتِ سِوَى التَّوْبَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذَا الْفَرَح تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي حَالِ التَّائِبِ وَقَلْبُهُ، وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ تَقْدِير الذُّنُوبِ عَلَى الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَنَال بِالتَّوْبَة دَرَجَة الْمَحْبُوبِيَّة، فَيَصِير حَبِيبًا لِلَّهِ؛ فَإِنْ اللَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْعَبْد التَّوَّاب).

وَمِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَة
الصِّيَامِ

لَا شَكَّ أَنَّ الصِّيَامَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَعَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ” رَوَاهُ أَحْمَدُ  وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : ( أَرْبَعَ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ ﷺ صِيَامِ عَاشُورَاءَ وَالْعَشْرَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ( مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ) وَهَذَا الْحَدِيثُ بِعُمُومِه يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ صَوْمِ التِّسْع الْأَوَائِلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَدْ قِيلَ هَلْ وَرَدَ عَنْ الرَّسُولِ ﷺ صِيَامَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ كَامِلَة؟ فَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنَّ يَصُومُهَا، فَقَدْ حَثَّ عَلَى صِيَامِهَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (مَا مِنْ أَيَّامِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلَيَّ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصِّيَامَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

وَمَنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ
الصَّدَقَة

لِلصَّدَقَة شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي الْإِسْلَامِ، فَهِيَ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَالَاتِ، وَأَصْدَق الْعَلَامَاتِ عَلَى صِدْقِ إِيمَان الْمُتَصَدِّق؛ وَذَلِكَ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ حَبٍّ الْمَال وَالسَّعْيِ إلَى كَنْزِه، فَمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ وَخَالَفَ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ، كَانَ ذَلِكَ بُرْهَانٌ إيمَانِه وَصِحَّة يَقِينِه، وَفِي ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ) أَيْ: بُرْهَانُ عَلَى صِحَّةِ إيمَانِ الْعَبْدِ، هَذَا إذَا نَوَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا رِيَاءً وَلَا سَمِعَه.

لِأَجْلِ هَذَا جَاءَتْ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي تَبَيَّنَ فَضَائِلِ الصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَحُثّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ ابْتِغَاءَ الأَجْرِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْإِنْفَاقِ عَلَى السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُحْسِنِين، فَقَال عَنْهُمْ: {أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذَّارِيَات:16-19)، وَوَعَد سُبْحَانَهُ -وَهُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ- بِالْإِخْلَاف عَلَى مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سَبَأ:39)، وَوَعَد بِمُضَاعَفَة الْعَطِيَّة لِلْمُنْفِقِين بِأَعْظَم مِمَّا أَنْفَقُوا أَضْعَافًا كَثِيرَةً، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {مِنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (الْبَقَرَة:245).

وَالصَّدَقَة بِالْأَمْوَالِ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ الْمُتَعَدِّدَة، بَلْ إنْ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَرَد مُقَدَّمًا عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي جَمِيعِ الْايَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا ذِكْرُ الْجِهَادِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

وَفِي السَّنَةِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُرَغِّبَةِ فِي الصَّدَقَةِ، وَالْمُبَيِّنَة لِثَوَابِهَا وَاجَرَهَا، مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُ الْمُؤْمِنِين، وَتَهْنَأ بِه نُفُوس الْمُتَصَدِّقِين، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (وَإِنْ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُؤْمِنٍ، تَكْشِفُ عَنْهُ كَرْبًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدَ عَنْهُ جُوعًا)، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَحَسَّنَه الأَلبَانيّ.

وَالصَّدَقَة تَرْفَع صَاحِبِهَا، حَتَّى تُوَصِّلُه أَعْلَى الْمَنَازِلِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدُ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ) رَوَاه التِّرْمِذِيِّ.

وَهِيَ تَدْفَعُ عَنْ صَاحِبِهَا الْمَصَائِبِ وَالْبَلَايَا، وَتُنْجِيهِ مِنْ الْكُرُوبِ وَالشَّدَائِد، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ وَالْأفَات وَالْهَلَكَات، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْاخِرَةِ) رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيّ.

وَجَاءَ فِي السَّنَةِ عِظَمَ أَجْرِ الصَّدَقَةِ، وَمُضَاعَفَة ثَوَابُهَا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طِيبِ -وَلَا يُقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ- إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ تَمْرُهُ، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ) رَوَاه مُسْلِم.

وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطَايَا، وَتُكَفِّر الذُّنُوب وَالسَّيِّئَات، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيِّ.

وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ بَرَكَة الْمَالِ، وَزِيَادَةِ الرِّزْق، وَإِخْلَاف اللَّهُ عَلَى صَاحِبِهَا بِمَا هُوَ أَحْسَنُ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: (يَا ابْنَ ادَمَ! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك) رَوَاهُ مُسْلِمٍ.

كَمَا أَنَّهَا وِقَايَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) رَوَاه الْبُخَارِيِّ.

وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْإِيمَانِ، وَقُوَّةِ اليَقِينَ، وَحُسْنَ الظَّنِّ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَضَائِلِ الْكَثِيرَةِ، الَّتِي تُجْعَلُ الْمُؤْمِن يَتَطَلَّعُ إِلَى الْأَجْر وَالثَّوَاب مِنْ اللَّهِ، وَيَسْتَعْلِى عَلَى نَزَغَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يُخَوِّفُه الْفَقْر، وَيُزَيِّنُ لَهُ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ، وَصَدَقَ اللَّهُ إذْ يَقُولُ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (الْبَقَرَة:268)

وَمَنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ صِلَة الرَّحِمَ:

صِلَةٌ الْأَرْحَامِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ جَلَّ جَلَالُه:

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْاخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْاخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْاخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ))
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى أَنْ الْقَاطِع لِلْأَرْحَام كَأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَنْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْاخِرِ؛ لِعَدَمِ خَوْفِهِ مِنْ شِدَّةِ الْعُقُوبَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْقَطِيعَةِ

صِلَةُ الرَّحِمِ سَبَب لِلْبَرَكَةِ فِي الرِّزْقِ وَالْعُمْر:

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَبْسُطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَه”

وَبَسَط الرِّزْق تَوْسِيعِه وَكَثْرَتِهِ، وَقِيلَ: الْبَرَكَة فِيهِ، وَأَمَّا التَّأْخِيرُ فِي الْأَجَلِ، فَمَعْنَاه: الزِّيَادَةَ بِالْبَرَكَةِ فِي الْعُمْرِ، وَالتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَاتِ، وَعِمَارَة الْأَوْقَاتِ بِمَا يَنْفَعُ فِي الْاخِرَةِ، وَصِيَانَتِهَا عَنْ الضَّيَاعِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْعُمْرِ مَشْرُوطَة بِصِلَة الْعَبْد لِلْأَرْحَام، فَإِنْ وَصَلَ أَرْحَامِه زَيْدٍ لَهُ فِي عُمْرَةٍ، فَيَظْهَر لِلْمَلَائِكَةِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّ عَمْرَةَ سِتُّونَ سَنَةً، إلَّا أَنْ يَصِلَ رَحِمَهُ، فَإِنْ وَصَلَهَا زَيْدٍ لَهُ أَرْبَعُونَ، وَقَدْ عُلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا سَيَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ [الرَّعْد: 39].

وَلِأَجْلِ هَذَا عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْرِفَ أَرْحَامِه لِيَصِلهم؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ؛ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ))، فَتَعَلَّم النَّسَب مَنْدُوب لِمِثْلِ هَذَا، وَقَدْ يَجِبُ أَنْ تُوقَفَ عَلَيْه وَاجِب.

صِلَةُ الرَّحِمِ طَرِيقٌ إلَى الْجَنَّة:

فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ((أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، أَوْ بِزِمَامِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ – أَوْ يَا مُحَمَّدُ – أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ؟ قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ وُفِّقَ – أَوْ لَقَدْ هُدِيَ – قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: فَأَعَادَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، دَعِ النَّاقَةَ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَتَصِلُ ذَا رَحِمِك، فَلَمَّا أَدْبَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ تُمْسِكَ بِمَا أَمَرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةِ))

وَاصِلٌ الرَّحِم مَوْصُول مِنْ اللَّهِ بِالرَّحْمَة:

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ، حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِك مِنْ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَك؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكَ لَك؛ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [مُحَمَّدٍ: 22، 23]

قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَحَقِيقَة الصِّلَة الْعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ، عِبَارَةٌ عَنْ لُطْفِه بِهِمْ، وَرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَعَطْفُه بِإِحْسَانِه وَنِعْمَة
وَمَا ارْقَ هَذِهِ الْحَدِيثَ فِي الْحَثِّ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ! وَفِيهِ بَيَانُ كَيْفَ تَسْتَجير الرَّحِمُ الْمَقْطُوعَة؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ الرَّحِمَ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ تَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنِّي قُطِعْتُ، يَا رَبِّ، إِنِّي أُسِيءَ إِلَيَّ، يَا رَبِّ، إِنِّي ظَلَمْتُ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، فَيُجِيبُهَا: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَك؟))

خُطُورِه قَطِيعَة الْأَرْحَام:

قَاطِعُ الرَّحِمِ مَطْرُود مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ:

قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [مُحَمَّدٍ: 22، 23]، فَفِي هَذِهِ الْايَةِ نَهْيٌ عَنْ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ عُمُومًا، وَعَنْ قَطْعِ الْأَرْحَامِ خُصُوصًا، بَلْ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ؛ وَهُوَ الْإِحْسَانُ إلَى الْأَقَارِبِ فِي الْمَقَالِ وَالْأَفْعَال وَبَذْل الْأَمْوَال

تَعَجَّل لِقَاطِعِ الرَّحِمِ عُقُوبَةً فِي الدُّنْيَا:

فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا – مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْاخِرَةِ – مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ))

وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّ الْبَغْيَ مَنْ الْكِبْر، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ مِنْ الِاقْتِطَاعِ مِنْ الرَّحْمَةِ، وَالرَّحِمُ القَرَابَةُ، وَلَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ، بِنَحْوِ إيذَاءٍ، أَوْ صُدَّ، أَوْ هَجَرَ، فَإِنَّهُ كَبِيرُ كَمَا يُفِيدُهُ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْبَلَاءُ بِسَبَبِ الْقَطِيعَةِ فِي الدُّنْيَا، لَا يَدْفَعُ بَلَاءَ الْاخِرَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا حِرْمَان مَرْتَبَة الْوَاصِلِين

لَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ الرَّحِم:

وَلَك أَنْ تُتَخَيَّل هَذَا التَّرْهِيبُ الشَّدِيدُ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، أَتُحِبُّ أَنْ تَعْمَلَ وَتَجْتَهِدُ فِي الْعَمَلِ، ثُمَّ فِي النِّهَايَةِ لَا يُقْبَلُ عَمَلُك؟! لِأَجْلِ مَاذَا تَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ؟ أَسْمَعْ مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا حَدِيثٌ شَدِيدٌ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إنْ أَعْمَالَ بَنِي ادَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ)) فَاَللَّهُمّ ارْحَمْنَا بِرَحْمَتِك، وَأَعِنَّا عَلَى صِلَةِ أَرْحَامَنَا.

العُنْصُرُ الثَّالِث : التَّكْبِيرُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّد

فَإِنَّهُ يُسَنُّ التَّكْبِيرُ فِي لَيْلَتَيْ الْعِيدِ: عِيدِ الْفِطْرِ وَعِيدِ الْأَضْحَى، وَصِيغَتُه: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَهَذَا التَّكْبِيرُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالصَّلَوَاتِ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَنَازِلِ وَالطُّرُقَات وَالْأَسْوَاق، وَيَبْدَأ التَّكْبِيرِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْعِيدِ، وَيَنْتَهِي بِخُرُوجِ الْإِمَامِ إلَى مُصَلَّى الْعِيدِ لِلصَّلَاةِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَيُظْهِرُون التَّكْبِيرِ فِي لَيَالِي الْعِيدَيْنِ وَهُوَ فِي الْفِطْرِ اكَدُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ إظْهَار التَّكْبِيرِ فِي لَيْلَتَيْ الْعِيدِ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ وَطُرُقِهِمْ مُسَافِرِينَ أَوْ مُقِيمِينَ لِظَاهِرِ الْايَةِ الْمَذْكُورَةِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُكَبِّر النَّاسِ فِي الْفِطْرِ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فُرَادَى وَجَمَاعَةً فِي كُلِّ حَالٍ، حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، ثُمَّ يَقْطَعُون التَّكْبِيرِ.

وَأَمَّا التَّكْبِيرُ الَّذِي يُقَالُ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ التَّكْبِيرُ الْمُقَيَّدُ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِعِيدِ الْأَضْحَى، وَيَبْدَأُ مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى عَصْرِ اخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

أَمَّا التَّكْبِيرُ الْمُطْلَقُ فِيهِ فَيُبْدَأُ مِنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ إلَى اخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: التَّكْبِيرِ فِي الْأَضْحَى مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَالْمُقَيَّد عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ. وَالْمُطْلَقُ فِي كُلِّ حَالٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ. وَأَمَّا الْفِطْرُ فَمَسْنُونٌة مُطْلَقُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ، عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُكَبِّرُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ إلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ إلَى الصَّلَاةِ.

وَأَمَّا صِيغَةُ التَّكْبِيرِ فَمَنْ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ يَرَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا تِبَاعًا فَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَجْمُوعِ: صِيغَة التَّكْبِير الْمُسْتَحَبَّة: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيُّ.

وَقَالَ فِي مِنْهَاجِ الطَّالِبِين: وَصِيغَتُهُ الْمَحْبُوبَةُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَجْمُوعِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَحَسَنٌ.

وَقَالَ فِي الْأُمِّ: أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ زِيَادَتُهُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ،لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدَّيْنُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَاحْتَجُّوا لَهُ بِأَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ عَلَى الصَّفَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِى صَحِيحَة

وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنْ الْأَفْضَل التَّكْبِيرَ مَرَّتَيْنِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدِ.
لَا شَكَّ أَنَّ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَطْلُوبَة وَمُرَغَّبٌ فِيهَا فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ الْأُولَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ؛ إلَّا أَنْ الذَّكَرَ لَهُ أَهَمِّيَّةٌ خَاصَّة، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: “وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامِ مَعْلُومَاتٍ: أَيَّامِ الْعَشْرِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ” رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى صَحِيحَةً، ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ مُعَلَّقَةً: “كَأَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَكَبَّر مُحَمَّدُ بْنُ عَلِىٍّ خَلْف النَّافِلَةِ”.

وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ مَعْلُومَاتٍ} (الْحَجّ: 28)، وَفَسَّرَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِأَنَّهَا الْأَيَّامِ الْعَشْرِ الْأُولَى مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَفَسَّر الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ الْوَارِدَةِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامِ مَعْدُودَات} (الْبَقَرَة: 203) بِأَنَّهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ – الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ وَالثَّالِثُ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ -، وَكَانَ الْعَمَلُ الأَسَاسِيّ الَّذِي طَلَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عِبَادِهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ – الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ – هُو الذَّكَرِ.

وَفِي تَطْبِيقٌ عَمَلِيٌّ لِهَذَا التَّفْسِيرِ يَذْكُرْ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ مُعَلَّقَةً: أَنَّ الصَّحَابِيَّيْن الْجَلِيلَيْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ فَيَكُبْرَان، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، فَاخْتَارَا التَّكْبِير تَحْدِيدًا لِيَحْثا النَّاسُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ، وَلَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ إلَّا لِعِلْمِهِمَا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.

فَصَارَ التَّكْبِيرِ سُنَّةٌ نَبَوِيَّة مُهِمَّةٌ فِي الْعَشْرِ الْأُولَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ بِشَكْلٍ عَامٍّ أَمْرًا مَطْلُوبًا فِي هَذَا التَّوْقِيتَ لِعُمُومِ الْايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَقَدْ وَرَدَتْ رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ تَوَسَّع دَائِرَة أَنْوَاعِ الذِّكْرِ فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ أَيَّامِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أُحِبُّ إلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

الدُّعَاءِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ

وَأَقُمْ الصَّلَاةُ

اترك تعليقاً