«فضائل العشر من ذي الحجة »
إعداد الشيخ : أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة ٣ من ذي الحجة ١٤٤٦هـ الموافق ٣٠ من مايو ٢٠٢٥م
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد
وسيكون الحديث إن شاء الله حول النقاط التالية:
١- بأي شيء نستقبل عشر ذي الحجة؟
٢- فضل عشر ذي الحجة.
٣- فضل العمل في عشر ذي الحجة
٤- مفهوم العمل الصالح.
فنقول وبالله التوفيق:
إن من فضل الله تعالى على عباده أن جعل لهم مواسم للطاعات، يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيها فيما يقربهم إلى ربهم، والسعيد من اغتنم تلك المواسم، ولم يجعلها تمر عليه مروراً عابراً.
وقد شاءت إرادة الله تعالى يفضل بعض الأيام على بعض، وتفضيله بعض الأشهر على بعض، قال سبحانه وتعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص:٦٨
فخلق الله تعالى الأيام وجعل هذا اليوم وما بعده مِنْ أيامٍ هي أفضلها؛ ففي حديثٍ رواه البزار عن جابر -رضي الله تعالى عنه- أن النبي ﷺ قال: “أفضل الأيام عند الله أيام العشر”، وهي أيام شهد لها الرسول ﷺ بأنها أفضل أيام الدنيا، وحث على العمل الصالح فيها، وحري بالمسلم أن يستقبل مواسم الطاعات عامة، ومنها عشر ذي الحجة بأمور:
١ – التوبة الصادقة:
فعلى المسلم أن يستقبل مواسم الطاعات عامة بالتوبة الصادقة والعزم الأكيد على الرجوع إلى الله، ففي التوبة فلاح للعبد في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) النور:٣١
٢ – العزم الجاد على اغتنام هذه الأيام :
فينبغي على المسلم أن يحرص حرصًا شديدًا على عمارة هذه الأيام بالأعمال والأقوال الصالحة، ومن عزم على شيء أعانه الله وهيأ له الأسباب التي تعينه على إكمال العمل، ومن صدق الله صدقه الله، قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) العنكبوت ٦٩
٣ – البعد عن المعاصي:
فكما أن الطاعات أسباب للقرب من الله تعالى، فالمعاصي أسباب للبعد عن الله والطرد من رحمته، وقد يحرم الإنسان رحمة الله بسبب ذنب يرتكبه، فإن كنت تطمع في مغفرة الذنوب والعتق من النار فاحذر الوقوع في المعاصي في هذه الأيام وفي غيرها؟ ومن عرف ما يطلب هان عليه كل ما يبذل.
ثانيًا: عشر ذي الحجة
١- أن الله تعالى أقسم بها: وإذا أقسم الله بشيء دل هذا على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بالعظيم، قال تعالى (وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ). والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين
٢- أنها الأيام المعلومات التي شرع فيها ذكره:
قال تعالى: (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) [الحج:٢٨]، وجمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة.
٣- أن رسول الله ﷺ شهد لها بأنها أفضل أيام الدنيا: فعن جابر رضي الله عنه عن النبيﷺقال: (فضل أيام الدنيا أيام العشر ـ يعني عشر ذي الحجة ـ قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب) رواه البزار وابن حبان
٤- أن فيها يوم عرفة:
ويوم عرفة يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلاً، وليوم عرفة العديد من الفضائل
إن يوم عرفه من أفضل الأيام عند الله؛ فقد خصه الله –-عز وجل- بفضائل وخصائص دون غيره من الأيام؛ وقد تضافرت الأدلة من القرآن والسنة على فضائل هذا اليوم والتي تتمثل فيما يلي:-
أولًا: يوم عرفة أحد أيام الأشهر الحرم: وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب ويوم عرفه من أيام ذي الحجة، وهو أحد أيام أشهر الحج، وأحد الأيام المعلومات التي أثنى الله عليها في كتابه، قال ابن عباس -رضي الله عنهما: الأيام المعلومات: عشر ذي الحجة.
وهو اليوم أكمل الله فيه الملة: وأتم به النعمة، فعن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: أن رجلا من اليهود قال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: ٥]. قال عمر -رضي الله عنه- : قد عرفنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه على النبي ﷺ وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
* صيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين: فقد قال الرسول ﷺ عندما سئل عن صيام يوم عرفة؟: ”يكفر السنة الماضية والسنة القابلة” (مسلم)؛ وهذا لغير الحاج وأما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة لأنه يوم عيد لأهل الموق
* وهو يوم العيد لأهل الموقف: قال النبي ﷺ: ”يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام.” أبو داود.
* وأعظم دعاء يوم عرفة: قال النبي ﷺ: “خير الدعاء دعاء يوم عرفة ”. قال ابن عبد البر -رحمه الله-: وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره.
* كثرة العتق من النار في يوم عرفة: قال النبي ﷺ: ”ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة” (مسلم).
* مباهاة الله بأهل عرفة أهل السماء: قال النبي ﷺ:” إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء” أحمد
* وفي يوم عرفه التكبير؛ فقد ذكر العلماء أن التكبير ينقسم إلى قسمين : التكبير المقيد الذي يكون عقب الصلوات المفروضة ويبدأ من فجر يوم عرفة قال ابن حجر –رحمه الله- : ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي ﷺ حديث وأصح ما ورد عن الصحابة قول علي وابن مسعود -رضي الله عنهم- أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى.
وأما التكبير المطلق فهو الذي يكون في عموم الأوقات ويبدأ من أول ذي الحجة حيث كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم يخرجون إلى السوق يكبرون ويكبر الناس بتكبيرهما؛ والمقصود تذكير الناس ليكبروا فرادى لا جماعة .
* يوم عرفه فيه ركن الحج الأعظم: قال النبيﷺ: ”الحج عرفة” (متفق عليه).
٥- أن فيها يوم النحر:
وهو أفضل أيام السنة عند بعض العلماء، قال ﷺ (أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر (رواه أبو داود والنسائي)
٦- اجتماع أمهات العبادة فيها:
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره.
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان..
ثالثًا: فضل العمل في عشر ذي الحجة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) [رواه البخاري]
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنت عند رسول الله ﷺ قال: فذكرت له الأعمال فقال: ما من أيام العمل فيهن أفضل من هذه العشرـ قالوا: يا رسول الله، الجهاد في سبيل الله؟ فأكبره. فقال: ولا الجهاد إلا أن يخرج رجل بنفسه وماله في سبيل الله، ثم تكون مهجة نفسه فيه) [رواه أحمد ]
فدل هذان الحديثان وغيرهما على أن كل عمل صالح يقع في أيام عشر ذي الحجة أحب إلى الله تعالى من نفسه إذا وقع في غيرها، العمل الصالح عموما، من ذكر لله تعالى، أو صدقة على الفقراء والمساكين، أو بِرٍّ للوالدين، أو صلةٍ للأرحام، أو صلاةٍ، أو صيامٍ، أو قيامٍ، أو جهادٍ، أو حجٍّ، أو عمرةٍ، إلى غير ذلك من أنواعه.
وإذا كان العمل فيهن أحب إلى الله فهو أفضل عنده. ودل الحديثان أيضاً على أن العامل في هذه العشر أفضل من المجاهد في سبيل الله الذي رجع بنفسه وماله، وأن الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة تضاعف من غير استثناء شيء منها. قال الصحابة: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟.
وقد كان متقررا عندهم، كما هو متقرر عندنا، أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وأنه ما تقرب عبد إلى الله تعالى بعد تلفظه بالشهادتين بأفضل من أن يتقرب إلى الله تعالى بإراقة دمه في سبيل الله، قال الصحابة: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل؟ فهم كانوا يسمعون الأحاديث والآيات في فضل الجهاد، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: “ولا الجهاد في سبيل الله”، يعني أن العمل الصالح في هذه الأيام لا يعدله حتى لو خرج إنسان مجاهدا، فأيام ذلك المجاهد هي أقلُّ أجراً، وهي أنزل فضلا من المتعبد في هذه العشر.
ثم اشترط النبي ﷺ شرطا، واستثنى حالة، فقال ﷺ : “ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله”، خرج بنفسه، وأخذ ماله، خرج بنفسه وماله، “ثم لم يرجع من ذلك بشيء”، بذَلَ نفسَهُ وبذَلَ ماله لله -عز وجل-، وقلةٌ من المجاهدين مَن يأخذ أمواله معه، فإنهم في الغالب يخرجون بأجسادهم للجهاد في سبيل الله، وهناك من يتولى نفقتهم، أو أنهم ربما تركوا أموالهم وأخذوا بعضها نفقة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: لا يفضل المجاهد الخارج في سبيل الله، لا يفضل في عمله، عمل الذي هو قاعدٌ لكنه يتعبد في العشر، إلا إذا خرج المجاهد بنفسه واستشهد وخرج بماله كله في سبيل الله.
قال الإمام ابن حجر -رحمه الله تعالى-، لما تكلم في فقه حديث ابن عباس، لما قال -عليه الصلاة والسلام-: “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من العشر”، قال الإمام ابن حجر: “وذلك لاجتماع رؤوس العبادات، أو قال أمهات العبادات في هذه العشر”، فإنه يجتمع فيها الصدقة، ويجتمع فيها الصلاة، ويجتمع فيها الحج، ويجتمع فيها الصوم، وهذه الأربعة يستطيع أن يعملها الإنسان خلال هذه العشر؛ أما في رمضان فإنه يستطيع أن يعمل الصلاة، والزكاة، والصيام، لكنه لا يستطيع أن يعمل الحج في رمضان.
وكذلك قُل غير ذلك في غيره من الأيام التي لها فضل، أما في هذه العشر فإن الله -جل وعلا- فضَّلَها فجعلها -سبحانه وتعالى- عشرا ولم يجعلها خمسا، فلو كانت تنتهي في الخامس من ذي الحجة فكان ليس فيها حج، لكنه لما مدها ربنا -جل وعلا- وضمنها يوم عرفة، وهو اليوم العظيم الذي يباهي الله تعالى بعباده يباهي ملائكته، وينظر الله تعالى إلى عباده وهم ما بين متعبد وداعٍ وباكٍ ومنكسر في أرض عرفات، والله -جل وعلا- يباهي ملائكته بهم.
فدخول يوم عرفة في هذه العشر زاد من فضلها، ثم دخول يوم النحر، يوم الحج الأكبر الذي أكمل الله تعالى فيه الدين، وأنزل الشريعة، وجعل النبي ﷺ فيه من الفضائل ما فيه اجتماع هذه الأيام الفاضلات على تنوعها وتنوع العبادات فيها وتفاوتها في الفضل، اجتماعها في هذه العشر يدل على فضلها.
الدعاء