خطبةُ بعنوان (فضائلُ العشرِ من ذي الحجةِ ) لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف
الحمد لله مدبر الليالي والأيام ، ومصرف الشهور والأعوام ، الملك القدوس السلام ، المتفرد بالعظمة والبقاء والدوام واشهد أن لا إله إلا الله إله رحيم كثير الإنعام ، ورب قدير شديد الانتقام ، يعلم ما في بواطن العروق وداخل العظام ، ويسمع خفي الصوت ولطيف الكلام ، أحمده على جليل الصفات وجميل الإنعام ، وأشكره شكر من طلب المزيد ورام ، واشهد أن سيدنا محمد خير خلق الله الداعي إلى الإسلام ..وبعد :
أَيُّها الأحباب الكرام، يدور الزمان وتمر الشهور و الأيام ، ونعيش فى خير أيام العام ( العشر الأوائل من شهر ذى الحجة )
وفيه أفضل أيام الدنيا ، فالله عز وجل قد اختار الزمان واختار منه الأشهر الحرم ، واختار من الأشهر الحرم ذي الحجة ، واختار من ذي الحجة العشر الأوائل التي هي في آخر العام لنختم عامنا الهجري بخير الأعمال ..
وإن في الحياة ميدان فسيح ، ومجال رحب للتنافس على الأهداف والغايات بخيرها وشرها ، شريفها ووضيعها، قريبها وبعيدها، صغيرها وكبيرها .
لكن التنافس المطلوب الذي أمرنا به الحق تبارك وتعالى هو التنافس في الخيرات وعمل الصالحات من أجل رضا الله ودخول الجنات قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:22-26] ..
إن الخيرات ميدانٌ واسعٌ متنوعٌ؛ صلواتٌ وزكَوات، وصِيامٌ وصدَقات، وقراءةٌ قرآن ، وذكر للرحمن ، وصلةُ رحمٍ ، وبرُّ الوالدين، ومساعدةُ المحتاجين ، وإغاثَةُ الملهُوفين ، وزِيارةُ المرضى ، وتشييع الجنائز ، وكفالة الأيتام ، و طالب علم فقير ، والإحسانٌ للجار، وطلَبٌ العلمِ، والدعوةٌ إلى الله تعالى على بصيرة ، والأمرٌ بالمعروفٍ والنهيٌ عن المُنكر..
قال ابن القيِّم -رحمه الله-: “السَّابِقُونَ في الدُّنْيا إلى الخَيْراتِ هُمْ السَّابِقُونَ يومَ القَيامةِ إلى الجنَّات”..
العنصر الأول : حديث القرآن الكريم والسنة عن العشر الأوائل.
الأيام العشر فضلها الله تعالى على سائرِ أيام الدنيا ، و أقسم المولى جلّ فى علاه بشرفها وفضلها.
قال تعالى : (وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)
سورة الفجر٣/١..
والله -تعالى- لا يُقسم إلّا بعظيمٍ .
والليالي العشر اختُلف في تعيينها، فقيل هى العشر الآواخر من رمضان ، وقيل العشر الأول من المحرم ، وذهب ابن عباس ومعه طائفة من الصحابة إلى أن المراد بالليالي العشر هي العشر الأوائل من ذي الحجة، وهو القول الراجح الذى عليه جمهور المفسرين ؛ لأن الليالى تابعة للأيام ، والشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة .
والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لنا في حديث رواه الإمام البخاري فضل العشر الأوائل من ذي الحجة؛ فقال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ ، قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ”.
والمراد بالجهاد هنا جهاد النافلة ؛ لأن جهاد الفرض لا يعدله شيء من الأعمال الصالحات ..
قال ابن المبارك :
يا عابدَ الحَرَمينِ لوْ أبصرْتَنا لَعلمْتَ أنّك في العبادةِ تَلْعبُ
مَنْ كان يَخْضِبُ خدَّهُ بدموعِهِ فَنُحُورُنا بِدِمَائِنا تَتَخَضَّبُ
أو كان يُتْعِبُ خيلَهُ في باطلٍ فخيولُنا يومَ الصَّبِيْحَةِ تَتْعبُ
رِيْحُ العَبِيْرِ لكمْ ونحنُ عبيرُنا رَهْجُ السَّنابكِ والغبارُ الأطْيبُ ولقد أتانا مِنْ مَقالِ نبيِّنا قَوْلٌ صحيحٌ صادقٌ لا يُكْذَبُ
لا يَسْتَوِي وغُبارُ خَيْلِ اللهِ في أَنْفِ امرئٍ ودُخَانُ نارٍ تَلْهَبُ
هذا كتابُ اللهِ ينطِقُ بَيْنَنا ليس الشَّهيدُ بميِّتٍ لا يُكْذَبُ.. وفيات الأعيان.
وتمثِّل الأبيات السابقة دَرْساً تطبيقيَّاً لنا في ضرورة ربط الدِّين بالحَياة، وبالجِهَادِ حَيَاةٌ، وأيَّةُ حياة! حياة للأمة بأسرها ، وفي تاريخنا الماضي المُشْرِق نماذجُ غيرُ قليلة مِن جِهاد العلماء باللِّسان والسِّنَان، وحَسْبُنا قراءةُ سيرة سلفنا الصالح رحمهم الله. (أكاديمية مكة للعلوم )..
وقد بين النبي ﷺ أن من أسباب أمراض الأمة تركها لأحكام الإسلام ، وأعمال الصالحات بمفهومها الشامل
قال ﷺ: “إذا تبايعتُم بالعينةِ ، وأخذتم أذنابَ البقرِ ، ورضيتُم بالزَّرعِ ، وترَكتمُ الجِهادَ سلَّطَ اللَّهُ عليْكم ذلاًّ لاَ ينزعُهُ حتَّى ترجعوا إلى دينِكُم “. أخرجه أبو داود وسنده صحيح..والمعنى : ترجعوا إلى دينكم بمفهومه الشامل وليس الجهاد فقط ..
وهذا من فقه الأولويات في الإسلام الدعوة للعمل الصالح وبيان أولوياته ودرجاته ، وفق فقه
ومفهوم العمل الصالح يشمل أعمال اللسان والأبدان ، وأعمال القلوب ويتفرع منها المعتقدات والنيات ، كما يشمل الأعمال النافعة للفرد والمجتمع ، كما بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث ما للعشر الأوائل الأولى من ذي الحجة من فضلٍ عظيم عند الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، حتى قال بعض أهل العلم: “إنها أفضل عند الله من العشر الأواخر من رمضان، في قول”..
وبالتحقيق فإن العشر الآواخر من رمضان لياليها أفضل ليالي العام ؛ لما فيها من ليلة القدر وعشر ذي الحجة أيامها خير الأيام ؛ لأن فيها يوم عرفة ، وأعمال الحج ..
فأفضل هذه الأيام المباركة يوم عرفة، وهو اليوم الذي أكمل الله به لأمة محمد عليه الصلاة والسلام الدين وأتم به النعمة على العالمين، قال تعالى: ( اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)..المائدة /٣.
وفي هذه الأيام المباركة يوم النحر وهو يوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم فضيل، بل هو أعظم الأيام عند الله -تعالى-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر ثم يوم القر”(رواه أبو داود بسند صحيح).
وهو يوم الحج الأكبر-أي: الذي تحصل فيه أعظم أعمال الحج وأكثرها- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها وقال: “هذا يوم الحج الأكبر ” (أخرجه الإمام البخاري) .
وفي تفسير الحافظ ابن كثير:” الوتر يوم عرفة ، لكونه التاسع ، وأن الشفع يوم النحر لكونه العاشر . وفي تفسير الإمام الطبري: “عن ابن عباس، قال: الوتر: يوم عرفة، والشفع: يوم الذبح … وعن الضحاك ( وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: أقسم الله بهنّ لما يعلم من فضلهنّ على سائر الأيام، وخير هذين اليومين لما يُعلَم من فضلهما على سائر هذه الليالي …( وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ )
الصلاة منها: شفع ، ومنها : وتر ، كما جاء في الأثر . وعن مجاهد ( وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) قال: كلّ خلق الله شفع، السماء والأرض والبرّ والبحر والجنّ والإنس والشمس والقمر، والزوج والزوجة .. والله الوَتر وحده ..عن مجاهد أيضا في قوله: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ قال: الكفر والإيمان، والسعادة والشقاوة، والهدى والضلالة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والجنّ والإنس، والوَتْر: الله “. ينظر تفسير الطبري.
فَيا عَجَباً كَيفَ يُعصى الإِلَهُ
أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ
وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ
وَتَسكينَةٍ أَبَداً شاهِدُ
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ
تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ .
من ديوان لبيد بن ربيعة .
العنصر الثاني : فضل العمل الصالح في هذه الأيام ..
لقد مَيّز الله هذه الأيام عن العديد من الأوقاتٍ بكثير من الفضائل والميّزات . ففيها تتضاعف الحسنات ، وتُمْحَى بها الذنوب والسيئات ، وترفع بها الدرجات . وتكون سببا في الخيرات والبركات في الحياة وبعد الممات.. ومن هذه الأعمال ما يلي:
١- المبادرة بالتوبة والاستغفار ..
على المسلم أن يتوب إلى الله عزّ وجل من جميع الذنوب، من الصغائر ومن الكبائر، وأن يقلع عن المعصية، وأن يندم على ما اقترفته يداه، وأن يعزم ألا يعود إلى الذنوب مرةً أخرى، قبل أن يدخل العشر الأوائل من ذي الحجة .
فيا إخوة الإسلام في هذه الأيام المباركات لا ندري هل نعيش للعام القادم أم لا، فالموت يحصد الأرواح، دون سابق إنذار ، بسبب أو بغير سبب ، لا يفرق بين صغير ولا كبير ، ولا صحيح ولا مريض .
بادروا بالتوبة والإستغفار والإقلاع عن الذنوب و المعاصي والتقرُّب إلى الله بالطاعات . ( المبادرة المبادرة بالعمل ، والعجل العجل قبل هجوم الأجل ، وقبل أن يندم المفرِّط على مافعل ، وقبل أن يسأل الرجعة فلا يجاب إلى ماسأل ، وقبل أن يصير الميت مرتهناً فى حضرتهِ بما قدم من عمل .
وصدق القائل :ليس للميت فى قـبـره…فـطـرٌ ولا أضـحـىٰ ولا عـشـرُ ناءٍ عن الأهل على قربه…كذٰلك من مسكنه القبرُ )
ينظر لطائف المعارف . ص٤٥٨ ..
٢- استحباب الصيام في الأيام العشر .
لاريب أن من جملة العمل الصالح استحباب الصيام فى هذه الأيام ؛ لأن الصيام على رأس الأعمال الصالحة صيام تسع ذي الحجة .
يستحب صيام الأيام التسعة الأولى من ذي الحجة، وعلى ذلك جماهير أهل العلم؛ لما جاء في الحديث الشريف السابق قوله صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ …
ولا شك أن الصيام من أفضل الأعمال وأبرّها؛ فهو داخل في العمل الصالح المستحب في هذه الأيام المباركة بنص هذا الحديث.
وأما عن عائشة رضى الله عنها: “أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصُمِ الْعَشْرَ” أخرجه مسلم (2847). فقد عارضه ما رواه أبو داود (2437) عن هُنَيْدَةَ بن خالد رضي الله عنه عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عن الجميع قالت: ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ” رواه أبو داود في سننه وسنده صحيح .
قال الإمام النووي: هُوَ مُتَأَوِّلٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَرْكُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكُونُ عِنْدَهَا فِي يَوْمٍ مِنْ تِسْعَةِ أَيَّامٍ؛ وَالْبَاقِي عِنْدَ بَاقِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهن، أَوْ لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ بَعْضَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكُلَّهُ فِي بَعْضِهَا ، وَيَتْرُكُهُ فِي بَعْضِهَا لِعَارِضِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ” ينظر:”المجموع”(6/441).
فعدم رؤيتها لا ينافى صيامه، وأن ترك الصيام بعض الأيام خشية أن تفرض على أمته ، رحمة بهم ، وجمهور العلماء على سنية الصيام .
وإن هذه الأيام ، ميزها الله عز وجل تحفيزا للهمم والعزائم ؛ لأن فيها تجتمع أمهات العبادات من صلاة ، وصيام ،و حج ، وصدقة ، وغير ذلك . كما ذكر ابن حجر في فتح الباري .
كما أن صيام يوم عرفة ؛ أكثر استحبابا لما ورد في فَضْل صيامه قَوْل النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتي بَعْدَهُ) صحيح مسلم برقم ١١٦٠.
٣-الإكثار من الذكر والتكبير
العشر الأوائل هي الأيام المعلومات التي يسن فيها الاكثار من التكبير والتهليل والتحميد ، كما يسن الجهر بذكر الله ، دون التقيد بالمساجد و أوقات الصلاة .
عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – ما مِن أيَّامٍ أعظَمُ عِندَ اللهِ ولا أحَبُّ إليه مِن العَمَلِ فيهنَّ مِن هذه الأيَّامِ العَشرِ، فأكثِروا فيهنَّ مِن التَّهليلِ والتَّكبيرِ والتَّحميدِ. أخرجه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح .
الإكثار من التهليل : قولك: لا إله إلا الله .
والتحميد: الإكثار من قول: الحمد لله.
والتسبيح: الإكثار من قولك: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله .
كما يسن الإكثار من تلاوة القرآن الكريم ؛ لأنه أفضل الذكر ، والتوبة ، والاستغفار والدعاء ، والتكبير جهرا كما كان يفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من الآثار
– عن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنه: (أنَّه كان يُكبِّرُ في قُبَّتِه بمنًى، فيَسمَعُه أهلُ المسجدِ، فيُكبِّرونَ، فيكبِّرُ أهلُ الأسواقِ، حتى تَرتجَّ مِنًى تكبيرًا).
عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: (أنَّه كان يُكبِّرُ بمنًى تلك الأيَّامَ، وخَلْفَ الصَّلواتِ، وعلى فِراشِه، وفي فُسطاطِه ومجلسِه، وممشاه تلك الأيَّامَ جميعًا).
أنَّ أبا هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه كان يُكبِّرُ في أيَّام العشر .
عَملُ السَّلَف
عن مَيمونَ بنِ مِهْرانَ، قال: (أدركتُ الناسَ وإنَّهم ليُكبِّرون في العَشر، حتى كنتُ أُشبِّهه بالأمواجِ مِن كثرتِها، ويقول: إنَّ الناسَ قد نقَصُوا في تركِهم التكبيرَ). وغيرها من الآثار ينظر الموسوعة الفقهية الدرر السنية .
قال الأوزاعي : كما رواه البيهقي : بلغني أن العمل في اليوم كقدر غزوة في سبيل الله، يُصام نهارها ويُحرس ليلها، إلا أن يختصَّ امرؤ بشهادة.
وعن الحافظ ابن حجر العسقلاني – رَحِمَهُ اللَّهُ – أن من العبادات التي تقرب الإنسان من الله -جلَّ وعلا- في العشر الأوائل من ذي الحجة من أولها الصيام، وذكر منها المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة، وذكر منها الإكثار من ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ..
٤-أداء شعائر الحَجّ والعُمرة
أداء مناسك الحج والعمرة أفضل ما يُؤدّى من العبادات في ذي الحِجّة لمن استطاع إليه سبيلا، وتيسر له ذلك ببلوغ الزاد ونفقة الحج .
ففي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بيْنَهُمَا، والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّة ) .
٥-إحياء يوم عرفة بالعبادة.
من أفضل أيّام عشر ذي الحجة يوم عرفة ، وهو يوم الحَجّ قال عليه الصلاة والسلام :”الحجُّ عرفةُ”
أخرجه الإمام النسائي وسنده صحيح .
وهو اليوم المشهود الذي تُغفَر فيه الخطايا والذنوب ، تُعتَق من النار فيه الرِّقاب .
قال صلى الله عليه وسلم “ما من يومٍ أكثرُ من أن يعتِقَ اللهُ فيه عبيدًا من النَّارِ من يومِ عرفةَ ، وأنه لَيدنو ، ثم يباهي بهم الملائكةَ فيقول : ما أراد هؤلاءِ ؟ اشهَدوا يا ملائكتي أني قد غفرتُ لهم” أخرجه الإمام مسلم عن أمنا عائشة رضي الله عنها باختلاف يسير في لفظه .
٦- ختام الأيام العشر بيوم النحر .
يوم النَّحر من أفضل أيام العشر ؛ لقَوْل النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (إنَّ أعظمَ الأيَّامِ عندَ اللَّهِ تبارَكَ وتعالَى يومُ النَّحرِ ثمَّ يومُ القُرِّ). وهو اليوم التالي ليوم النحر .
العنصر الرابع : الأضحية من أفضل أعمال هذه الأيام المباركة .
ومن الأعمال الصالحة كذلك في هذه الأيام الفاضلة: الحرص على الأضحية ممن كان قادراً عليها؛ فإنها عبادة من أجلّ العبادات التي يتقرب بها المسلم في هذه الأيام إذا صلحت نية صاحبها .
ومن مقاصد الأُضحية الاقتداء بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم -.
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (ضَحَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بكَبْشينِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُما بيَدِهِ، وسَمَّى وكَبَّرَ، ووَضَعَ رِجْلَهُ علَى صِفَاحِهِمَا).
والأضحية كما تعلمون أَيُّها المسلمون سُنَّة مؤكدة على القول الراجح عند أهل العلم، بينما يرى فقهاء الأحناف أن الأضحية واجبة على كل مستطيع والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في فضل الأضحية: “من آتاه الله -جلَّ وعلا- مالاً وسعةً فلم يضحِ فلا يقربن مُصلانا”، يقصد: مصلى العيد أخرجه الإمام ابن ماجه في سننه.
وفي هذه الشعيرة المباركة بعض الوصايا النبوية:
منها: من أراد أن يضحِّيَ يُسنُّ له عدم قصِّ الشعر والظفر، تشبُّهًّا بمن أحرم بالحج ، حتى يذبح أضحيته، وهذا في حق رب الأسرة فقط وليس على جميع أفرادها ؛ فعن أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحى فليمسك عن شعره وأظفاره”.( أخرجه الإمام مسلم).
وإذا نوى الأضحية أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نوى .
وكذلك عليه أن يتخير ما يضحي به ، فيبحث عن الأحسن والأجود ؛ لأن المقصود الأعظم هو التقرب إلى الله -تعالى- تعظيماً له. ويحذر الأضحية بالمعيبة عيبا واضحا يؤثر في اللحم مثل : العوراء البين عورها والعرجاء والعمياء .
وختاما:
بعد هذه الجولة السريعة في بيان فضل هذه الأيام والعمل الصالح فيها ، وكثرة خيرها لم يبق إلا الاجتهاد في أعمال الصالحات ، والمسارعة إلى عمل الخيرات في هذه الأيام المشرقة ،و البذل من الأوقات ، والهمم الصادقة المشتاقة إلى هذا الخير؛ لتسمو الروح، وتنشرح الصدور، وتبتهج النفوس، وتحيا القلوب، وتستنير العقول، وتصلح الدنيا والآخرة ؛ فقد كان دأب السلف في هذه الأيام الاجتهاد والجد؛ فسيدنا سعيد بن جبير -رحمه الله- كان إذا دخلت عليه العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وكان يقول لأهله: “لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر”. كناية عن كثرة القيام والقراءة ..
قال ابن رجب -رحمه الله-: “لما كان الله -سبحانه وتعالى- قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادراً على مشاهدته في كل عام فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين”. (لطائف المعارف) .
كل أعمال الصالحات لها أفضلية كبيرة في هذه الأيام .
فصلاة الفجر فيها أفضل من صلاتها في وقت آخر ، وكذا تلاوة القرآن الكريم ، وذكر الله ، والاستغفار ، وصلة الأرحام، وينبغي على المسلم أن يستثمر لا نقول كل ساعة فيها ، بل كل دقيقة وثانية، وأن يكثر من أعمال الصالحات .
فالكيِّسُ من ينتهز فرصة العمل الصالح فى هذه الأيام ، ويغتنم هذه الأوقات ، وأصاب من النفحات ، والسعيد آخر الدهر من يفوز بالأجر .
تزود للذي لا بد منه فإن الموت ميقات العباد، وتب مما جنيت وأنت حي ، وكن منتبها قبل الرقاد ، أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد .
والعمل الصالح هو تعبيرٌ عن الشكر على نعم الله ، والاستغفار قبل العمل ، وبعد الانتهاء منه من هدي الصالحين ، والدعاء و حسن المناجاة لربنا تبارك وتعالى أنْ يكشف همنا ، ويفرج كربنا ، ويصلح أحوالنا .
وفقنا الله وإياكم إلى عمل الصالحات ، وبلغنا الله وإياكم يوم عرفة ، ويوم النحر ، وقد كشف الله كربنا ، وفرج همنا ، ونصر أمتنا ، وشفىٰ أمراضنا ، ورحم أمواتنا، وتقبل الله صيام الصائمين ، واجتهاد الصالحين.. وحفظ الله مصرنا وسائر بلاد المسلمين..