خطبة بعنوان”إنَّ ما أتخوف عليكم رجلٌ آتاه اللهُ القرآنَ فغيّر معناه” لفضيلة الشيخ عادل توني

 

موضوع خطبة الجمعة القادمة: تحت عنوان:”إنَّ ما أتخوف عليكم رجلٌ آتاه اللهُ القرآنَ فغيّر معناه”

إعداد : عادل توني عبدالكريم إبراهيم

إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف

الجمعة 11 من ذي القعـــدة 1446هـ – الموافق 9 من مـــــــايو 2025م

عناصر الخطبة

١- أَهَمِّيَّةُ فَهْمِ الْقُرْآنِ الكريم وتدبره وَالْعَمَلُ بِهِ .

٢- القَول علَى اللهِ بِلا عِلمٍ مِن أَكبَرِالذُّنوبِ .

٣- مناظرة ابن عباس- رضي الله عنهما – للخوارج .

الخطبة الأولي :

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا. ، وبعد:

(١)- يقول الله تعالي : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوالْأَلْبَابِ} [ص:29] .

عباد الله .…. إن تلاوة القرآن وتدبره هي أعظم أبواب الهداية ؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم ، ويدل ويقود إلى فعل الصالحات وترك المنكرات ، ويملأ القلب إيماناً ومعرفة بالله ، ويرغِّب في الفوز والظفر بدار الكرامة ، ويخوِّف ويحذِّر من الخسارة والحرمان في دار الخزي والندامة ، وهو مشتمل على كثير من العبر والأمثال التي يضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ، والتالي للقرآن بتدبر وتعقل يدفعه ذلك للاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيُعَظِّم الله ويُوَحِّده ويؤدِّي صلاته وزكاته ويحج فرضه ويصوم شهره إضافة إلى مسابقته ومنافسته بالنوافل والقربات يرجو رحمة الله ورضوانه ، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9] ، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ . لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29-30] .

وأخبر الله سبحانه عن القرآن الكريم أنه يزيد المؤمنين إيماناً إذا قرءوه وتدبروا آياته فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] .

وتلاوة القرآن وتدبره والعمل به هو ديدن المؤمنين ووصْف أولياء الله الصالحين ، وترك تدبره والعمل به هو وصْف العصاة المعرضين وسبب ضلال الضالين والمستكبرين ؛ قال الله تعالي منكراً عليهم ذلك: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد: 24] ، وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ . مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ .أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 66-68] أي: أنهم لو تدبروا القرآن لأوجب لهم الإيمان ولَمَنَعَهم من الكفر والعصيان، فدل ذلك على أن تدبر القرآن يدعو إلى كل خير ويعصم من كل شر .

(٢)- أيها المسلمون : اعلموا أن القَول علَى اللهِ بِلا عِلمٍ مِن أَشَدِّ الذُّنوبِ وأَكبَرِ السَّيئاتِ؛ قَالَ الله تعَالَى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾..

قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحمه اللهُ مفسراً لهذِه الآيةِ: “رَتَّبَ (سبحانَهُ) الْمُحَرَّمَاتِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، وَبَدَأَ بِأَسْهَلِهَا وَهُوَ الْفَوَاحِشُ، ثُمَّ ثَنَّى بِمَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ وَهُوَ الْإِثْمُ وَالظُّلْمُ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنْهُمَا وَهُوَ الشِّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ رَبَّعَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، وَهَذَا يَعُمُّ الْقَوْلَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِلَا عِلْمٍ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَفِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ بِالْوَعِيدِ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ، وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ إلَّا بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَلَّهُ وَحَرَّمَهُ” انتَهَى كلامُهُ.

إنَّ الكلامَ في دِينِ اللهِ إنَّمَا يَكونُ بضَوابِطَ شَرعِيَّةٍ لا يجوزُ للمُسلمِ أنْ يَتَجَاوَزَهَا، إنَّ كِبارَ الصَّحابةِ والسلف تَورَّعُوا عَنِ الفُتْيَا في دِينِ اللهِ خَوفاً مِنَ الوقُوعِ فيمَا حَذَّرَ اللهُ مِنهُ مِنَ القَولِ بِلا عِلمٍ، عن إبراهيم التَّيْمِي؛ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سُئل عن قوله: ﴿ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴾[سورة عبس: الآية/ ٣١ ] ، فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني؟ إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.

وروى الطَّبَرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيُ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: ﴿ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴾ فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: لَعَمْرُكَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ”.

وفي مُسنَدِ ابنِ المُبَارَكِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: اخْتَلَفْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي اللهُ عنه سَنَةً، مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ فِيهَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا أَنَّهُ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ فذَكَرَ فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَعَلاَهُ كَرْبٌ شَدِيدٌ حَتَّى رَأَيْتُ الْعَرَقَ يَحْدِرُ عَنْ جَبْهَتِهِ..عَرَقٌ وخَوفٌ وهُو يُحدِّثُ عَن رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَشيةَ أَنْ يُخطِئَ عَليهِ.

وعن ابن أبي مُلَيْكَة: أن ابن عباس رضي الله عنه سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها.

وقال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، قال: سأل رجلُ عبد الله بن عباس عن ﴿ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾[سورة المعارج: الآية/4] ، فقال له عبد الله بن عباس: فما ﴿ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾؟، فقال له الرجل: إنما سألتك لتحدثني. فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه، الله أعلم بهما. فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم.

وروى مالك عن سعيد بن المسيب: إنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن، قال: إنا لا نقول في القرآن شيئًا.

وقال الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: إنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن.

وعن يزيد بن أبي يزيد، قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت، كأن لم يسمع.

وقال هشام بن عُرْوَة: ما سمعت أبي تَأوَّل آية من كتاب الله قط.

وقال مسروق: اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله.

قال ابن كثير رحمه الله: فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها، الواردة عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به؛ فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغةً وشرعًا، فلا حرج عليه؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه “.

فعلي المسلم أن يقتدي بهم في تعظيم كلام الله تعالي وعدم التقول علي الله تعالي بغير علم ، يقول ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: “مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا، وَأَحْسَنَهَا حَالاً، قَوْم اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ”.

وقد أحسن من قال:

وليس في الأمة كالصحابة ***

في الفضل والمعروف والإصابة

فإنهم قد شاهدوا المختارا ***

وعاينوا الأسرار والأنوارا

وجاهدوا في الله حتى بانا ***

دين الهدي وقد سمي الأديانا

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، جَلَّ شَأْنُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْماؤُهُ وَلَا إلَهَ غَيْرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم..

أَمَّا بَعْدُ: أيها الأحبة الكرام:

(٣)- إن سوء الفهم لكتاب الله ولسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كان سببًا رئيسًا لظهور الفرق والطوائف والمذاهب المنحرفة، وكان سببًا رئيسًا لانحراف المفاهيم ، روى ابن حبان (81) ، والبخاري في “التاريخ الكبير” (2907) ، والبزار (2793) عن حذيفة رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ رِدْئًا لِلْإِسْلَامِ ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ ” ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قَالَ: ( بَلِ الرَّامِي )” . قال ابن كثير رحمه الله :” إِسْنَادٌ جَيِّدٌ “

والمعني : أي من أكثر الأشياء التي يتخوفها النبي صلى الله عليه وسلم على أمته رجل قرأ القرآن ورأى الناسُ عليه نور القرآن وحسنه وأثره الطيب، وكان عونًا للإسلام وأهله ومدافعًا عنهم، ثم إذا به يغير ذلك ويفارق الإسلام ويترك القرآن ويقتل جاره ويتهمه بالشرك، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم : من أحق بالشرك، هذا الرجل الذي قتل جاره واتهمه بالشرك أم الجار؟ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل الذي اتهم جاره بالشرك وقتله هو أحق بالشرك وأولى به.

فيجب الحذر الشديد من تكفير المسلم ، فإن من الذنوب العظيمة أن يكفر المسلم أخاه المسلم وهو بريء من ذلك ، ويشهد لهذا المعنى ما رواه البخاري (6104) ، ومسلم (60) – واللفظ له – عن ابْن عُمَرَ رضي الله عنهما ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ ) .

وأول طائفة نشأت في هذه الأمة هي طائفة الخوارج التي استباحت دماء المسلمين وكفرتهم لمجرد الوقوع في المعاصي التي لا تخرج الإنسان من دين الله -عز وجل-

كان سبب انحرافهم سوء فهمهم لكتاب الله -عز وجل-، وقد أخبر عنهم النبي صلي الله عليه وسلم في الحديث ، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه ، أن النبي-صلي الله عليه وسلم قال : “يخرُجُ في آخرِ الزَّمانِ قومٌ أحداثُ الأسنانِ سُفَهاءُ الأحلامِ يقولونَ مِن خيرِ قَولِ النَّاسِ يقرءونَ القرآنَ لا يجاوزُ تراقيَهُم يمرُقونَ منَ الإسلامِ كما يَمرُقُ السَّهمُ منَ الرَّميَّةِ فمَن لقيَهُم فليقتُلهم فإنَّ قتلَهُم أجرٌ عندَ اللَّهِ لمن قتلَهُم “أخرجه الترمذي (2188)، وابن ماجه (168) واللفظ له، وأحمد (3831)

وقد جرت بينهم وبين ابن عباس -رضي الله عنه وأرضاه- مناظرة مشهورة تبيِّن هذا بجلاء، تبيِّن أن سبب انحرافهم سوء الفهم لكتاب الله.

هذه المناظرة ذكرها كثير من أئمة الحديث ورواها الإمام النسائي والحاكم وغيرهما،

” لما خرجت الخوارج اجتمعوا في منطقة، وكانوا ستة آلاف فجاءهم ابن عباس -رضي الله عنه وأرضاه- ليناظرهم فدخل عليهم وقال لهم: ماذا تنقمون على ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصهره والمهاجرين والأنصار؟

كان الخوارج قد كفروا علي رضي الله عنه وأرضاه وكفروا عامة المهاجرين والأنصار، فيقول لهم ابن عباس ماذا تنقمون عليهم؟ وما الذي تنتقدونه عليهم؟

فقالوا: نَنْقِمُ عَلَيْهِ ثَلاثًا، قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالُوا:

أَوَّلُهُنَّ أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ)[الأنعام: 57]، قَالَ: قُلْتُ: وَمَاذَا؟

قَالُوا: وَقَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، لَئِنْ كَانُوا كُفَّارًا لَقَدْ حَلَّتْ لَهُ أَمْوَالُهُمْ، وَلَئِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ.

قَالَ: قُلْتُ: وَمَاذَا؟ قَالُوا: وَمَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ.

قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْمُحْكَمِ، وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لا تُنْكِرُونَ، أَتَرْجِعُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة آية 95] إِلَى قَوْلِهِ: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) [المائدة آية 95] ، وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنَهُمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [النساء آية 35].

أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَحُكْمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبْعُ دِرْهَمٍ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ. قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ، أَمْ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا؟ فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأُمِّكُمْ فَقَدْ كَفَرْتُمْ وَخَرَجْتُمْ مِنَ الإِسْلامِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب آية 6] ، فَأَنْتُمْ تَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ ضَلالَتَيْنِ، فَاخْتَارُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ؟

علي -رضي الله عنه- وقع بينه وبين بعض الصحابة خلاف، وحصلت موقعة الجمل التي كان طرفها الثاني في قيادته الزبير وطلحة، ومعهم عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها وأرضاها-، فعلي لم يسبِ منهم أحدًا، أتريدون أن تسبَى أمكم فتكون لكم أمَة تستحلون منها ما تستحلون من غيرها، قال: إن فعلتم ذلك كفرتم، وإن قلتم ليست بأمنا كفرتم؛ لأن الله -عز وجل- يقول: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، فهي أمكم بنص القرآن، فأنتم بين ضلالتين، فماذا تفعلون تختارون هذا أم هذا؟ أم أن الصواب هو فعل علي -رضي الله عنه وأرضاه-؟ فنظر بعضهم إلى بعض، فقال ابن عباس: أخرجت من هذه؟ قالوا : نعم. أي: غلبهم بالحجة الثانية.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: “إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَقَالَ: اكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ، وَلا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بن عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لِرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: مُحَمَّدَ بن عَبْدِ اللَّهِ، فَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ، أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَبَقِيَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلافٍ، فَقُتِلُوا.

فانظروا يا رعاكم الله هذه الفئة هؤلاء الخوارج استدلوا بأدلة من القرآن، لكن ما فهموها حق الفهم ولم يفقهوها حق الفقه، حتى جاءهم ابن عباس فبيَّن لهم معناها، وبيَّن لهم المراد منها، وبيَّن لهم الأدلة الأخرى التي أغفلوها، ولم ينظروا إليها، ولم يلتفتوا إليها، وأعطاهم الطريقة الصحيحة في فهم كلام الله -عز وجل- وصدق ابن القيم -رحمه الله- حين قال: “سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديمًا وحديثًا”.

فالمفاهيم الصحيحة لا تُؤخَذ إلا من كتاب الله ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والمفاهيم الصحيحة لا تُؤخَذ إلا بفهم صحيح لكتاب الله ولسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- ومن صار على طريقتهم، وقد أحسن من قال:

فَكُنْ كَمَا كَانَ خِيَارُ الخَلْقِ ***

حَلِيفَ عِلْمٍ تَابِعاً لِلْحَقِّ

وَكُلُ خَيْرٍ فِي إِتِّبَاعِ مَنْ سَلَفْ ***

وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في الدين..

اللَّهُمَّ انْصُرِ الإِسْلامَ وأَعِزَّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْلِ بِفَضْلِكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ والدِّينِ، وَمَكِّنْ لِعِبَادِكَ الْمُوَحِّدِينَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِمَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والأَمْوَاتِ.

اللهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا فِي مَشَارِقِ الأَرضِ ومَغَارِبِهَا، اللهُمَّ انْصُرْهُمْ علَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، وَرُدَّهُمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وبالإِجَابَةِ جَدِيرٌ، وأَنْتَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْزِيَ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ.. اللَّهُمَّ اجْزِهِمْ عَنَّا رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ.. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ وَعَافِهِمْ واعْفُ عَنْهُم.

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *