ما بين الهجرة والأخرى… عشرات الهجرات
26 يونيو، 2025
منبر الدعاة

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
ما بين الهجرة الأولى التي قادها النبي ﷺ وصحبه الكرام، وبين هجرات اليوم الموجعة التي تشهدها أوطان المسلمين، هناك تاريخ طويل من الألم والمجد، من السيوف والدموع، من البشارة والابتلاء.
بدأت الدعوة المحمدية في جوٍّ مشحون بالعصبية والوثنية والجهل، حيث وقف النبي ﷺ وحده بين قومه، يدعوهم إلى كلمة التوحيد، فلا يجد منهم إلا الصد والإنكار، حتى تحولت مكة، مسقط رأسه، إلى سجن كبير يضيق عليه وعلى أصحابه. فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، هروبًا من بطش قريش، وكانت أولى الهجرات في الإسلام… لم تكن هجرة طلبًا للمال أو جاهًا أو أرضًا خصبة، بل كانت هروبًا بالدين، وبما تبقى من كرامة إنسانية.
ثم اشتد الأذى، وبلغ الكرب مداه، حتى أوحى الله إلى نبيه بالهجرة الكبرى إلى المدينة المنورة، تلك الهجرة التي لم تكن مجرد انتقال من مدينة إلى أخرى، بل كانت ميلادًا لحضارة ومجتمع وعقيدة. فقد استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين بحبٍّ لم يعرف له التاريخ مثيلًا، وتقاسموا معهم البيوت والثمار والقلوب، لتُقام أول دولة إسلامية في التاريخ تقوم على العدل، والإخاء، والتكافل.
لكن بعد هذا النور، عادت سحب الابتلاء. فما إن توفي النبي ﷺ، حتى بدأت محن المسلمين تتوالى، من الردة إلى الفتن الكبرى، ومن اغتيال الخلفاء الراشدين إلى صراع الحكم، ومن انقسام الصفوف إلى ضياع الهيبة. وهاجر المسلمون في كل مرة، مرغمين لا مختارين… فها هو الحسين بن علي رضي الله عنه، يخرج من المدينة مهاجرًا إلى الكوفة، وهو يحمل الحق في قلبه، فيُستشهد في كربلاء وتُهاجر معه الكرامة من صدور الأمة.
وفي العصر العباسي، اضطُهد العلماء فهاجر بعضهم، وسُجِن آخرون، وطُرد أئمة الفكر من ديارهم، فسُفك العلم تحت أقدام السياسة. ثم جاءت الحروب الصليبية، لتشهد الأمة موجات جديدة من التهجير، من الشام إلى القدس، ومن بيت المقدس إلى حلب، ومن الساحل إلى الداخل… هجرات خلفها الاحتلال، ومجازر تئن لها الجبال.
ثم اجتاح التتار أرض المسلمين، فقتلوا في بغداد وحدها مئات الآلاف، وأغرقوا نهر دجلة بالدماء والكتب، وأُجبر العلماء والفارون من السيف على الهرب، فكانت هجرات جديدة لا تحمل إلا الرعب والخوف والموت.
وتمر القرون، وتنتقل الأمة من نكبة إلى أخرى، حتى جاء الاستعمار الغربي، فهجّر الملايين، وقسم الأوطان، وصنع الحدود، وغرس فينا بذور الفرقة، لنستفيق على مشهدٍ جديد من الشتات.
وفي العصر الحديث، وقعت الكارثة الكبرى: فلسطين. الهجرة الجماعية الأولى عام 1948 حين طُرد مئات الآلاف من أهلها من ديارهم تحت وابل الرصاص والمذابح، فتشردوا في الخيام، ومات من مات، وبقي من بقي يحمل مفاتيح المنازل المغتصبة، وينظر إلى الأفق منتظرًا العودة. تلتها هجرات أخرى في نكسة 1967، ثم في اجتياح بيروت، ثم في انتفاضات الغضب، ثم في قصف غزة المستمر حتى اليوم.
وفي العراق، ما بين الاحتلال الأمريكي والنزاعات الطائفية، هاجر ملايين العراقيين من مدنهم إلى الخارج، أو إلى مناطق أكثر أمنًا داخل وطنهم الذي تفكك بين الطوائف، وفقد سيادته أمام الغزاة والعملاء.
وفي سوريا، تحولت الثورة الشعبية إلى نكبة إنسانية، فغرق السوريون في البحار، وامتلأت بهم خيام اللجوء في تركيا والأردن ولبنان، وهاجر الأطباء، والعلماء، والشيوخ، والنساء، والأطفال، حتى صار الحديث عن سوريا كأنه حديث عن وطنٍ كان ذات يوم.
وفي اليمن، تعصف الحرب بالفقراء، وتفترس الألغام الأطفال، وتنهار البنية التحتية، ويفر المواطن من قريته إلى أخرى، ومن جوعٍ إلى عطش، ومن موتٍ إلى موت، حتى صارت الهجرة من الموت إلى الموت نمط حياة.
وفي ميانمار، وفي إفريقيا الوسطى، وفي كشمير، وفي أفغانستان، تُهجَّر الأقليات المسلمة قسرًا، يُحرقون أحياءً، تُغتصب نساؤهم، وتُذبح أسر بأكملها، والضمير العالمي صامت، أو ساخر، أو شريك في الجريمة.
وفي غزة، آخر قلاع الصمود، لم تعد الهجرة ممكنة، لأن البحر مغلق، والحدود محاصرة، فصارت الهجرة هناك من الحياة إلى الشهادة، ومن الأحلام إلى الأنقاض، ومن الطفولة إلى قبور الأطفال… لكن رغم كل ذلك، لم تهاجر الكرامة، ولم تغادر البطولة، بل ظلت غزة شامخة، كأنها ترفض الرحيل.
ووسط كل هذا، تجري هجرات أخرى لا يراها الإعلام، ولا تكتب عنها التقارير… هجرات في الضمير، وفي الفكر، وفي العقيدة، وفي الأخلاق. نرى بعض المسلمين يهجرون المساجد، والقرآن، والدين، ويهاجرون إلى حياة مادية جافة لا طعم فيها ولا روح. نرى هجرة من الصدق إلى الكذب، ومن الأمانة إلى الخيانة، ومن العدل إلى الجور، ومن الإخلاص إلى التلون.
وما بين كل هجرة وأخرى، تبقى الأمة مثقلة بالذكريات، محاصَرة بالدموع، لكنها لا تموت… ففيها من الأمل ما يكفي لصنع فجر جديد، وفيها من الإيمان ما يقدر على تحويل كل نكبة إلى معجزة، وكل شتات إلى وحدة، وكل هجرة إلى فتح قريب.
إن التأمل في تاريخ الهجرة الإسلامية، وما تلاها من هجرات قسرية أو اضطرارية، يجعلنا نعيد النظر في فهمنا للصبر والمحنة والتمكين. فالهجرة النبوية كانت بداية الخلاص رغم أنها بدأت كفرار، لكنها تحولت إلى تأسيس لدولة عظيمة، ورسالة خالدة، ومدنية راقية، بفضل الإيمان والإصرار والتوكل على الله. أما الهجرات المعاصرة، فهي جراح تنزف، ودموع تسيل، ولكنها لا تقتل روح الأمة ما