الهجرة والتخطيط بين وحي السماء وحكمة البشر

بقلم الدكتور : سيد نجم
من علماء الأزهر الشريف

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله، وبعد :

فليست الهجرة مجرّد انتقال من مكان إلى آخر، بل هي ميثاق حياة، ومدرسة خالدة، ترسم ملامح النجاح على صفحات الزمان. لقد كانت الهجرة النبوية نموذجًا بديعًا للتخطيط المحكم، وحسن التوكل على الله، وتناغم الأسباب الأرضية مع العناية السماوية.

خرج النبي ﷺ من مكة يحمل رسالة الحق، وقلبًا مملوءًا باليقين، وخطة محكمة تكتب للحياة سطرًا من سطور العز. اختار الرفيق الأمين، أبا بكر، ليكون السند والمرافق، واختار الطريق غير المعتاد، مموّهًا على عيون القوم، مؤمِنًا ظهر الدعوة من مكر المتربصين. رتّب الموارد، وكلف بالأدوار من هم على قدرها، من عبد الله بن أبي بكر الذي يحمل الأخبار، إلى أسماء التي تحمل الزاد، إلى عامر بن فهيرة الذي يمحو بآثاره كل أثر.

لكنها لم تكن رحلة أسباب مادية وحسب، بل كانت قبل كل شيء رحلة توكل على الله، رحلة عنوانها كلمة النبي ﷺ لصاحبه، إذ أحاط بهما الخطر، وضاقت بهما الأرض: «لا تحزن، إن الله معنا». هنا تتجسد الرسالة الخالدة، فلا نجاح إلا بربط القلب بخالق الأسباب، ولا عزة إلا بالسعي على طريق الحق موقنًا بنصر الله.

الهجرة درس عابر للأزمنة، رسالة للأجيال، بأن كل نجاح عظيم يحتاج إلى تخطيط محكم، وصبر على الطريق، وإخلاص للغاية، وتوكل على مَن بيده ملكوت كل شيء. إنها تذكرنا بأن حياة الفرد، كما حياة الأمة، لا تنهض إلا بصدق العزائم، وحسن التدبير، وصفاء القلب، واستحضار عون الله قبل كل خطوة وبعدها.

الهجرة، إذن، ليست حدثًا ماضيًا، بل منهج حياة، ومدرسة تخطيط، ومشعل توكل، تبقى قبسًا من نور يهتدي به كل ساعٍ نحو الحق، وكل راغب ببناء حياة كريمة على أرض الله.