الوهابية السلفية قنطرة الإلحاد
15 يناير، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
تعد الوهابية واحدة من الحركات الإسلامية السياسية التي نشأت في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبد الوهاب، وقد أثرت بشكل كبير على العالمين العربي والإسلامي. تمثل هذه الحركة أحد التيارات الفكرية المتشددة التي تبنت رؤية أحادية للإسلام، قائمة على التفسير الحرفي للنصوص الدينية، وتمثلت مواقفها في تكفير المسلمين المخالفين لآرائها. بدأت الوهابية بشن هجوم على المذاهب الإسلامية الأخرى، بما في ذلك المذاهب السنية والشيعية، ورفعت شعار “إعادة الإسلام إلى ما كان عليه في عهد الصحابة”. هذا التكفير الواسع كان بمثابة القاعدة الأساسية التي اعتمدت عليها الحركة في تبرير أفعالها السياسية والعسكرية، إذ مارست الوهابية العنف ضد كل من يُعتبر مخالفًا لتفسيرها الضيق والشديد للإسلام.
التكفير كأيديولوجية محورية
يتبنى الفكر الوهابي “السلفي” مفهومًا موسعًا للتكفير، الذي يستند إلى تفسير ضيق للنصوص الدينية، ويشمل أي فرد أو مجموعة لا توافق على أفكارهم المتزمتة. يُنظر إلى غير المؤمنين بمذهبهم كـ “خارجين عن الملة”، حتى وإن كانوا ينتمون إلى نفس الدين. هذه النظرة ضيقة الأفق تخلق جواً من الصراع الدائم بين المسلمين، حيث يتم تكفير حتى من يختلف في آراءه الفقهية أو ممارساته الدينية، مما يؤدي إلى فوضى فكرية دائمة.
المفكرون والعلماء الذين انتقدوا هذا الفكر، مثل المفكر المصري طه حسين أو سيد قطب، أكدوا أن التكفير لا يرتبط فقط بالتفسير الحرفي للنصوص، بل يتعدى ذلك إلى مصادرة الحق في الاجتهاد والتفسير الفقهي، مما يؤدي إلى تراجع الفكر الديني والعلمي داخل المجتمعات الإسلامية. كما أشار الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إلى أن الحركات الفكرية التي تقوم على إقصاء الآخر وتكفيره تسهم في تعزيز العنف والدمار، وهو ما يمكن ملاحظته في المجتمعات التي تهيمن عليها الأفكار الوهابية.
التأثير النفسي: التشدد والتكفير كآلية دفاعية
في علم النفس، يمكن تفسير التشدد الفكري والتكفير من خلال عدة نظريات نفسية. يعتمد الأفراد المتبنون لأيديولوجيات متشددة على هذه الأفكار كآلية دفاعية لدرء التهديدات النفسية الداخلية والخارجية. في المجتمعات الوهابية، يتم التعامل مع التفكير النقدي أو التساؤلات حول الدين على أنها تهديدات وجودية تضعف الهوية الذاتية. بناءً على ذلك، يشير العديد من علماء النفس مثل إريك إريكسون و كارل يونغ إلى أن الشخص الذي يشعر بالتهديد النفسي قد يلجأ إلى الأفكار المتطرفة كآلية للحفاظ على شعوره بالاستقرار النفسي.
علاوة على ذلك، نجد أن التشدد الوهابي يمكن أن يُفسر من خلال نظرية الإغلاق المعرفي، التي طورها سيمون فينك. هذه النظرية توضح أن الأفراد الذين يشعرون بعدم الأمان النفسي يلجؤون إلى أفكار ثابتة ومغلوطة لإغلاق الباب أمام أي تساؤلات قد تهدد استقرارهم الداخلي. يشير فكر التكفير هنا إلى رفض أي نوع من الحوار الفكري مع الآخرين، سواء كان من أفراد المجتمع الديني نفسه أو من غيرهم. هذا يعزز من معاناة الأفراد النفسية ويعزلهم عن الواقع المتعدد الأبعاد.
التأثير العلمي: الانغلاق الفكري والتهميش المعرفي
في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع، يمكننا النظر إلى الفكر الوهابي باعتباره نموذجًا بارزًا للتصلب الفكري والانغلاق المعرفي. يعارض الفكر الوهابي أي شكل من أشكال التفاعل مع الحضارات والعلوم الحديثة، ويعتبرها تهديدًا لمفهومه الضيق عن الإسلام. بناءً على ذلك، فإن المجتمعات التي تتبنى هذه الأيديولوجية تشهد تدهورًا فكريًا ملحوظًا، حيث يُحظر على الأفراد التفكير النقدي أو الانفتاح على المعرفة.
الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط كان قد أشار إلى أهمية “التنوير” والقدرة على استخدام العقل النقدي للتحرر من الجهل. ويُعد الفكر الوهابي مضادًا لهذا المبدأ، حيث يُحرم الأفراد من هذه الفرصة لتطوير أنفسهم على الصعيد الفكري والعلمي. لذا نجد أن كثيرًا من الشباب في المجتمعات التي هيمنت عليها الوهابية يعانون من غياب فرص التعليم والتفكير النقدي، مما يعزز من تراجعهم في التقدم العلمي.
يُظهر البحث العلمي في هذا الصدد أن المجتمعات التي تتبنى الفكر الوهابي عادة ما تكون أقل انفتاحًا على التقدم المعرفي. دراسة حديثة في علم الاجتماع من جامعة هارفارد أظهرت أن إغلاق الحوار مع الفكر العلمي والفلسفي يؤدي إلى تراجع إنتاجية الأفراد والمجتمعات بشكل عام.
التأثير الاجتماعي: التفكك الاجتماعي والتطرف
من الناحية الاجتماعية، يؤدي الفكر الوهابي التكفيري إلى تفكك الروابط الاجتماعية داخل المجتمع. المجتمعات التي تعتمد على الفكر الوهابي تخلق بيئة مشحونة بالصراعات الداخلية بسبب التكفير الواسع والتشدد. في هذه المجتمعات، يتحول الاختلاف الفكري إلى عائق أمام بناء التفاهم والتعاون بين الأفراد، مما يعزز من الانقسامات الاجتماعية.
من خلال نظرية الانسحاب الاجتماعي لـ هربرت ماركوز، يمكننا فهم كيفية تأثير الفكر الوهابي في تدهور العلاقات الاجتماعية. تشير هذه النظرية إلى أن الأشخاص الذين يواجهون ضغوطًا اجتماعية شديدة ينسحبون من التفاعل الاجتماعي ويعيشون في عزلة نفسية. هذا الانسحاب الاجتماعي يعزز من الجمود الاجتماعي ويقلل من فرص التفاهم بين الأفراد من مختلف الخلفيات الفكرية والدينية.
علاوة على ذلك، تسهم الوهابية في نشر ظاهرة التطرف، حيث يُعتبر العنف الأداة الأساسية لإقصاء “الكفار” والمخالفين، مما يؤدي إلى تصاعد حدة النزاعات. هذه البيئة تجعل من المجتمع أرضًا خصبة لانتشار أفكار الإرهاب والتطرف. ووفقًا لـ نظرية العنف السياسي التي وضعتها جينيفر توبس، يتصاعد العنف في المجتمعات التي تحكمها أفكار متشددة حيث يُبرر العنف ضد “الآخر” باعتباره واجبًا دينيًا.
الوهابية التكفيرية كقنطرة للإلحاد
عندما ندمج التحليل النفسي، الاجتماعي، والفلسفي، نجد أن الفكر الوهابي التكفيري قد يكون العامل المحوري في دفع العديد من الأفراد نحو الإلحاد. يتضح من العديد من الدراسات الاجتماعية والنفسية أن الأفراد الذين نشأوا في بيئات دينية متشددة قد يعانون من نوبات من الانفصال الداخلي بسبب القمع الفكري والنفسي المستمر.
يُظهر دراسة نظرية الحرية لـ إيزابيل دوفو أن الأفراد الذين يعانون من قيود فكرية شديدة قد يبدأون في البحث عن بدائل، ومنها الإلحاد، كوسيلة للهروب من الضغوط الفكرية التي يواجهونها. عندما يُمنع الأفراد من التعبير عن أنفسهم أو التفكير بحرية، فإنهم في بعض الأحيان يلجؤون إلى التمرد الفكري الذي يؤدي إلى ترك الدين بالكامل. يمكن أن يُنظر إلى الإلحاد هنا كنوع من الاستجابة الدفاعية للهروب من البيئة القمعية التي تفرضها الوهابية.
يُظهر التحليل الفلسفي، النفسي، الاجتماعي والعلمي أن الفكر الوهابي التكفيري يمثل بيئة فكرية مشوهة تؤدي إلى تطرف الأفراد وتحولهم إلى أشخاص منغلقين فكريًا واجتماعيًا. هذا الفكر لا يقف عند حد إقصاء الآخرين، بل يمكن أن يكون عاملًا رئيسيًا في تحول البعض إلى الإلحاد كوسيلة للهروب من الضغوط النفسية والتشدد الفكري. وبالتالي، فإن معالجة الفكر التكفيري تتطلب تحليلًا متعدد الأبعاد يشمل الأبعاد الدينية، النفسية، والاجتماعية، بهدف تحقيق بيئة أكثر انفتاحًا وتسامحًا، وتجنب التحول نحو العنف والإلحاد.