خطبة بعنوان ( التحذيرُ مِن خطورةِ التكفيرِ ) لفضيلة الشيخ ايمن حمدى الحداد

جمع وترتيب فضيلة الشيخ : أيمن حمدي الحداد

نص الخطبة: 

الحمد لله رب العالمين أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: 

إن من أبرز خصائص الشريعة الإسلامية التوسط والإعتدال؛ فالوسطية اختيار من الله عز وجل لهذه الأمة لتحقيق السلام، والأمن، والعدل، والرحمة، والإخاء؛ قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(البقرة: ١٤٣)، والوسطية استواء واستقامة في الاعتقاد والسلوك والمعاملة والأخلاق وهذا يعني أن يكون المسلم معتدل غير جانح ولا مفرط في شيء فليس فى ديننا الحنيف مغالاة ولا تطرف ولا شذوذ ولا تهاون ولا تقصير، فديننا الحنيف مبنى على السماحة واليسر؛ قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(البقرة: ١٨٥)، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾(الحج: ٧٨)، لقد جاء الإسلام لينظم العلاقة بين الجانب الروحى، والجانب المادى لدى الإنسان لأن الخالق العظيم جل جلاله خلق الإنسان خلقاً مزدوجاً فخلقه من المادة – الطين – ونفخ فيه الروح؛ قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(ص: ٧١-٧٢)، ولقد أعتنى ديننا الحنيف بالتوازن بين ما هو مادة وروح فى جميع تشريعاته، بيد أن المذاهب الأخرى غلب عليها الشطط فنجد من أهمل الجانب الروحى وغلب الجانب المادى – أطلق الحبل على الغارب للشهوات والنزوات – فصارت الحياة عندهم أشبه ما يكون بالتشهى الحيوانى، وفى المقابل نجد من أهمل الجانب المادى – الرهابنية – وهؤلاء يُهملون حق الجسد ولا يتزوحون زعماً منهم أن ذلك يقربهم من الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾(الحديد: ٢٧)، ولقد ذم الإسلام كلا المسلكين فجاءت دعوته إلى التوازن والإعتدال بين المادة والروح؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ ﷺ، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ ﷺ؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي» رواه البخارى.

أيها المسلمون: لما كان التوسط والإعتدال هو من أهم ما تميزت به شريعة الله رب العالمين، كان تكفير الناس بلا دليل من أخطر الأمور التى تدل على الشطط والخروج من دائرة الإعتدال، فإن الحكم على إنسان مسلم بالكفر ليس أمراً سهلاً هيناً كما يتصور البعض بل إن له ضوابط تحكمه. 

أهم القواعد العامة فى قضية التكفير. 

– القاعدة الأولى: دخول الإنسان فى الإسلام بالشهادتين؛ فمتى أقر بلسانه بالشهادتين دخل الإسلام وأجريت عليه أحكامه وإن مات على ذلك دخل الجنة بحسب الظاهر قال ﷺ: «مَن قالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، وأنَّ عِيسَى عبدُ اللهِ، وابنُ أمَتِهِ، وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ منه، وأنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وأنَّ النَّارَ حَقٌّ، أدْخَلَهُ اللَّهُ مِن أيِّ أبْوابِ الجَنَّةِ الثَّمانِيَةِ شاءَ. وفي روايةٍ: أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ علَى ما كانَ مِن عَمَلٍ، ولَمْ يَذْكُرْ مِن أيِّ أبْوابِ الجَنَّةِ الثَّمانِيَةِ شاءَ» رواه البخارى ومسلم. 

– القاعدة الثانية: كبائر المعاصى تُفسق ولا تُكفر 

فمرتكب الكبيرة ينقص إيمانه ولا يكفر ولقد جاءوا بشارب الخمر وجلد فى عهد النبى ﷺ مرات ولما لعنه البعض نهاهم ﷺ؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: «أُتِيَ النبيّ ﷺ بسَكْرَانَ، فأمَرَ بضَرْبِهِ. فَمِنَّا مَن يَضْرِبُهُ بيَدِهِ ومِنَّا مَن يَضْرِبُهُ بنَعْلِهِ ومِنَّا مَن يَضْرِبُهُ بثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: ما له أخْزَاهُ اللَّهُ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: لا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ علَى أخِيكُمْ» رواه البخارى. 

– القاعدة الثالثة: من مات على المعاصي كان تحت المشيئة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا﴾(النساء: ٤٨)، 

القاعدة الرابعة: الكفر نوعان أصغر وأكبر؛ فالجحود والإنكار المتعمد يُخرج من الملة، ويوجب الخلود فى النار، وأما المعاصي فهى لا تخرج من الملة ولا توجب الخلود فى النار.

– القاعدة الرابعة: قد يجتمع بعض شعب الإيمان مع بعض شعب الكفر كقوله ﷺ: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بهما أحدهما» فسماه أخا.

– القاعدة الخامسة: لا بد من التفريق بين النوع والشخص المعين فى قضية التكفير، فلا يجوز تكفير المعين إلا بضوابط معينة كإقامة الحجة وإنتفاء الشبهات.

وعليه فإن تكفير المسلم أو تفسيقه ليس بالأمر الهين؛ ولذلك يجب التثبت فيه غاية التثبت، وليس لآحاد الناس أن يكفر مسلماً، وإنما الحكم على مسلم بكفر أو ردة من إختصاص أهل العلم، ويجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين:

أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق. 

الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين، أو الفاعل المعين، بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه، وتنتفي الموانع.

فمن كفر أحداً؛ فإن كان كما يقول، وإلا فقد افترى إثماً مبيناً، وصار على خطر عظيم ؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله ﷺ: «أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا» رواه البخاري، ومسلم.

فاتقوا عباد الله: واعلموا أن سباب المسلم فسوق فما بالكم بتكفيره؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتَالُهُ كُفْرٌ» رواه البخارى. 

أقول قولي هذا واستغفر الله لى ولكم. 

الخطبة الثانية 

الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا عباد الله: إن قضية تكفير المسلمين ورميهم بالكفر من أخطر القضايا التى ينبغى التصدى لها من خلال تبصير الأجيال الصاعدة بصحيح الدين، وتعريفهم بسماحة الإسلام، ولقد كان للتكفير أسباب متعددة. 

أهم الأسباب المؤدية لظاهرة التكفير قديماً وحديثاً. 

– الجهل المركب بظاهرة التكفير فالجهل وقلة العلم من أخطر أسباب التكفير. 

– التقليد الأعمى واعتماد المذاهب الشاذة بالهوى، فليغى الإنسان عقله ويقلد البعض فى تفكير المسلمين بدون علم.

– التعصب المقيت للجماعة أو المذهب أو الطائفة فنجد أن المتعصب للأفكار التكفرية لا يقبل من العلم ولا الدين ولا الاجتهاد أو الرأى إلا وجهة نظره.

– ضعف المخزون المعرفى الشرعي مع حداثة السن لدى بعض الشباب فاخذوا بالمتشبهات دون المحكمات ويأخذون بالجزئيات ويتركون القواعد الكلية، لذا يفهمون النصوص فهماً سطحياً 

– التكفير هو الحكم على الإنسان المسلم بالردة، ولقد وسع التكفيريون السبيل إلى الحكم به بينما ضيق الشرع الحكم به؛ فمن الأصول المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الحكم على المسلم بالردة أو الكفر ما دام هناك احتمال لبقاءه مؤمناً، لكن الفكر التكفيري يذهب إلى أنه لا يجوز الحكم ببقاء الإيمان ما دام هناك احتمال واحد لتحوله إلى الكفر موجوداً.

– ثم إن الغلو التكفيري يسرى إلى غلو آخر شر منه وهو الحكم بالكفر ومن ثم القتل على من تورط فخرج عن حكم الكتاب والسنة؛ وفي قصة حاطب بن أبي بلتعة نقيض ذلك فقد نقل أخبار الرسول ﷺ وتحركات الجيش إلى المشركين وهذا خطأ عظيم ورغماً من ذلك قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾(الممتحنة: ١)، 

فوصفه بالإيمان. 

ولخطورة آثار التكفير فقد نهى الإسلام عن التعجل به أو إقراره إلا بعد التأكد من أسبابه دون أدنى شبهة؛ وعندما قتل أسامة بن زيد الرجل الذي ألقى إليه السلام؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾(النساء: ٩٤)،

– كما أثبت القرآن الإيمان للطائفتبن المتقاتلتين؛ قال تعالى: ﴿وإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(الحجرات: ٩)، لذلك تورع العلماء عن المسارعة إلى التكفير. 

– قال الغزالى: إن استباحة الدماء والأموال من المصليين إلى القبلة المصرحين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، وترك وصف ألف كافر بالكفر أهون بكثير من تكفير من لا ينطبق عليه الكفر.

– سوء الظن بالناس؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾(الحجرات: ١٢)، وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «إيَّاكُمْ والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَباغَضُوا، وكُونُوا إخْوانًا» رواه البخارى. 

اللهم اجعلنا من الذين يتبعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

وأقم الصلاة. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *