
إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة ١٧ من رجب لعام ١٤٤٦هـ. الموافق ١٧ من يناير لعام ٢٠٢٥
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد
فلخطورة هذه المسألة وضع العلماء ضوابط وقواعد في مسألة التكفير ومنها:
أولًا: التكفير حكم شرعي، وحق خالص لله تعالى، فلا تملكه هيئات، ولا جماعات، ولا أفراد، فهذا التكفير حق لله، هو الذي يكفر سبحانه، ويبين من الذي يكفر ومن الذي لا يكفر، ونحن علينا أن نتبعه فيما أنزل علينا، وسمعنا وأطعنا، فنكفر من كفره، ونمتنع عن تكفير لم يكفره سبحانه، وحكم له بالإسلام أو بالإيمان، إذا التكفير لا بد أن يكون بنص شرعي، فهذي قضية مهمة جدا: التكفير حق لله، ولا يمكن إعماله وإطلاقه إلا بنص من صاحب الحق.
ثانيًا: الأصل في أهل القبلة الإسلام والتوحيد حتى يثبت خلاف ذلك، فمن ثبت إسلامه بيقين لم يخرج منه إلا بيقين، أو لا يخرج منه إلا بيقين، فمن صار مسلمًا بالنطق بالشهادتين فلا يجوز إخراجه من دائرة الإسلام إلا إذا جاء بكفر صريح بوحي، لنا فيه برهان من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واليقين لا ينقضه الشك، والإسلام الصريح لا ينقضه الكفر المحتمل والكلام المتشابه.
قال الله -تعالى-: “وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا” [النساء: ٩٤]، لا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدينكم ودعوتكم، وقال: لا إله إلا الله، أو سلم عليكم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله لا تقولوا له: هذا تظاهر، ولست مؤمنًا في الباطن، وهذا مجرد ادعاء، بل اقبلوا ظاهره، وعاملوه بناء عليه، واحكموا له بالإسلام حتى يثبت العكس.
نأتي إلى حديث عظيم في هذا الباب حديث أسامة بن زيد، قال أسامة رضي الله عنه: “بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة -قوم-، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري، -الأنصاري هذه الكلمة أحدثت عنده امتناع، سمع كلمة التوحيد التي يحكم للرجل بها بالإسلام- فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أسامة أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله، فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة، قلت: كان متعوذاً، يعني قالها خوفا من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم قالها متعوذاً، فمازال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم” [رواه البخاري: ٤٢٦٩، ومسلم: ٩٦].
هذا التمني معناه أن أسامة من شدة الشعور بالذنب والإثم تمنى أن يكون إسلامه تأخر بعد الحادثة، لأن الإسلام يجب ما قبله. قال الحافظ بن حجر -رحمه الله-: “إظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر” [فتح الباري: ١٢/٢٧٣].
إذًا المختصر منهج السلف لا يمكن أن يطعن في إسلام مسلم، أو أن يتهمه بالكفر، أو الفسق، أو البدعة بلا برهان، ولا بينة. وقد جاءت النصوص المتكاثرة الدالة على ثبوت الإسلام بالشهادتين، قوله ﷺ: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه، وماله، إلا بحقه وحسابه على الله” [رواه البخاري: ٢٥، ومسلم: ٢٠].
فإذا من قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه ما لم ينقضها بناقض بين، فعند ذلك يحكم بالكفر وردته، إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع، توافرت الشروط وانتفت الموانع، والإسلام أمر سهل، يعني: ليس أمرا معقدا، الدخول في الدين أمر سهل، وعندما نقول: أصل الحكم بالإسلام مثلا لمن قال: لا إله إلا الله، إلا إذا أتى بناقض بين وكفر صريح، فالإسلام يثبت بالشهادتين، وبالصلاة، وبالتبعية للأبوين، وللدار، يعني: أنت الآن لو رأيت شخصا ما عندك عنه أي خلفية يصلي تحكم له بالإٍسلام، لو سمعت واحد نطق الشهادتين ما عندك عنه أي خلفية تحكم له بالإسلام، لو رأيت ابنًا لوالدين مسلمين ما عندك عنه أي خلفية تحكم له بالإسلام تبعا لوالديه، لو رأيت شخصًا في مجتمع مسلم الأصل أنه واحد منهم، “من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا” [البخاري: ٣٩١]
ثالثًا: من القواعد أحكام الكفر والإسلام تبنى على الظاهر، فنحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر، فالمرء يحكم عليه بالكفر أو الإيمان بناء على ظاهره، فإن أظهر الكفر حكم عليه بالكفر، وإن أظهر الإيمان حكم عليه بالإيمان، فالأحكام مبناها على الظاهر، ولا يجوز الحكم على النوايا؛ لأنا لا نعلمها، أنا شققت عن قلبه، ما يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب، فلا يجوز الحكم على النوايا، والتكفير والتفسيق بالظنون بلا دليل ظاهر؛ فعن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته” [البخاري: ٣٩١].
هذا دخل في حماية الشرع، خلص هذا الآن في جوار الله، في ذمة الله، لا تعتدوا عليه، لا تخفروا الله في ذمته، هذا ظاهره الإسلام، الاعتداء الآن عليه في دمه وماله يعتبر خفر ذمة الله، الله أعطاه حرمة أنت تنتهكها، فلا تخفروا الله في ذمته.
لاحظ هذه الأشياء الصلاة شيء ظاهر، واستقبل قبلتنا شيء ظاهر، وأكل ذبيحتنا شيء ظاهر، هذه ليست أشياء خفية، هذه أشياء ظاهرة بنى عليها حكما، قال: فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فواضح أن الأحكام في الشرع بناء على الظاهر: صلى صلاتنا، استقبل قبلتنا، أكل ذبيحتنا، أشياء ظاهرة، الشرع حكم بناء عليها، فلا يجوز أن تخفروا الله في ذمته، وتنتهك الحرمة التي أعطاها الله لهذا الإنسان. قال الشافعي: “وإنما كلف العباد الحكم على الظاهر من القول والفعل، وتولى الله الثواب على السرائر دون خلقه” [الأم للشافعي:١ /٢٩٦]،
ولذلك الثواب لا دخل لنا فيه أبدا نحكم، فمن دخل هذا المدخل فأنه يعتدي على حقوق الله، لذلك هذه عبارة والله لا يغفر الله لك خطيرة، لأنه من الذي له حق المغفرة عند الله.
قال الشافعي -رحمه الله-: “وأحكام الله ورسوله تدل على أن ليس لأحد أن يحكم على أحد إلا بظاهر، والظاهر ما أقر به، أو قامت به بينة تثبت عليه” [الأم: ٢٩٧]
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.
أيها الإخوة المؤمنين
رابعًا: لا يكفر أحد من أهل القبلة بكل ذنب وقع فيه ما لم يستحله؛
إذ الذنوب لا يُكفّر بها أحدًا من أهل القبلة مالم يستحلها. فالأصل في المسلمِ الظاهرِ العدالةِ: بقاءُ إسلامِه، وبقاءُ عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي فلا يُصار إلى التكفير بمجرد الظن والهوى، فهو من أعظم القول على الله بلا علم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بالله مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٣].
هذا الأصل هذا الظاهر إذا ما عندك شيء ناقل ينقل عن الأصل لابد أن تجري على الأصل، ولا بد أن تحكم بإسلامه، وتعامله على هذا الأساس، وتسلم عليه …الخ، حتى يثبت العكس، هذا الكلام الذي نقوله قد يبدوا بدهيًا، لكن هناك للأسف الشديد من الفرق التي تنتسب للدين تقول: الأصل الكفر حتى يثبت الإٍسلام، ومنهم من ابتدع بدعة أخرى وقالوا: الأصل التوقف، أنا إذا دخلت مسجد ورأيت إمامًا يصلي أتوقف في أمره لا أحكم بإسلامه، ولا أحكم بكفره، وما أصلي وراه حتى يثبت لي أنه مسلم، وإذا سمعت واحدا يقول الشهادتين أتوقف لا أحكم بإسلامه ولا أحكم بكفره حتى يتبين لي هذا أو هذا، أنا إذا رأيت جزارًا يذبح ذبيحة في بلاد المسلمين ما أكل من ذبيحته حتى أتأكد أنه مسلم، هذه بدعة كبيرة، ومن تأمل في مترتباتها سيتبني عليها قضايا خطيرة، لا يجوز التوقف في إسلام المسلم، بل لا بد أن نحكم بإسلامه، ثم بعد ذلك يأتي بكفر صراح، يسب الله، يسب الرسول، يسب الدين، ينتقد الأحكام الشرعية، مثلاً أنا يعجبني الربا، التعدد ظلم، قطع اليد وحشية، إذا أتى بكفر صريح ذاك الوقت سنتخذ موقفًا أخر، لكن قبل هذا نحكم بإسلامه، لا نتوقف فضلا أن نحكم بكفره، أو نقول: الأصل في الناس الكفر حتى يثبت الإسلام، مثل هذا لو قال قائل: الأصل في الأشياء النجاسة حتى تثبت الطهارة، هذا الأصل أنه نجس حتى يثبت أنه طاهر، نغسله وبعدين ألمسه، هذا فعل المجانين، فعل الموسوسين.
فالحكم على إنسان ما بالكفر حكم شرعي، مضبوط بضوابط معلومة من الكتاب والسنة، فلا يُصار إليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة عليه بالكفر، فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: “باب النهي عن البغي” وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم – يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدُهما يُذنب، والآخرُ مجتهدٌ في العبادة، فكان لا يزال المجتهدُ يرى الآخر على الذنب فيقول: أَقْصِر، [أي كُفَّ عن الذنب، وتوقف عن فعله] فوجده يومًا على ذنب فقال له: أَقْصِر، فقال: خلّني وربي، أَبُعِثْتَ عليّ رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًاً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار) قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته”.
فلا يُتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، ولا يُخرج إنسان من الإسلام بمجرد الفهم واستحسان العقل، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين، وما تنازع العلماء في كونه كفرًا، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام ما لم يكن في المسألة نصّ صريح من الكتاب أو السنة، فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر عظيم، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد”.
بل إنّ عقوبة الكافر المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه، منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعتمد له ذمة، بخلاف الكافر الأصلي، ومنها: أنه يقتل وإن كان عاجزًا عن القتال، بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال، فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء، ومنها: أن المرتد لا يُزوّج ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي، فهو -أي المرتد- شرّ من اليهود والنصارى.