
إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة ١٧ من رجب لعام ١٤٤٦هـ. الموافق ١٧ من يناير لعام ٢٠٢٥
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد
إنَّ التكفير باب خطير، ومزَلَّة أقدام، ومضَلَّة أفهام؛ ولذلك اهتمّ العلماء بتوضيحه غاية التوضيح؛ وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منه كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أيما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما”، وفي لفظ مسلم: “إذا كفَّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما”.
والدينَ الإسلامي دين يُوازِن القضايَا بميزانِه العادل، دونَ غلوٍّ أو إفراط فهناك مسائلُ في هذا الدّين خطيرٌ أمرُها؛ عظيمٌ شأنها؛ دقيقٌ فهمُها، زلّت فيها فئام من الناس، ومِن أخطر هذه القضايا قضيّةٌ يتعثّر في ساحتِها مَن ليس بمحقِّقٍ فقيهٍ دقيق، قضيّة غلا فيها أقوامٌ وفرّط في فهمِها آخرون
قضيةٌ لا يهتدِي إلى ما هو الصّواب فيها إلاّ من استنار بهديِ الوحيَين ونهَج منهجَ السلف من الصّحابة والتّابعين. ولعظمة هذه القضية وأهميتها أحكمَ علماءُ الإسلام المحقِّقون قواعدَها، وأرسَوا أقسامَها وشُعبَها، وأصّلوا أصولَها وضوابطَها، وبيّنوا شروطَها وموانعَها. تلكم هي قضيّة التّكفير والحكمِ به على آحادِ المسلمين أو مجتمعاتِهم.، ومذهب أهل السنة وسط بين الفرق في باب التكفير، فلا يكفرون المسلم حتى تتوفر شروط التكفير وتنتفي موانعه، ولا يكفرون مرتكب الكبيرة.
نَعَم، إنّها قضيّة مهمّة ومسألةٌ عظيمة، لا يجوز لكلّ أحدٍ اقتحامُها ولا التنصُّب لها؛ ذلكم أنّ التّسارع في التكفِير والوقوعَ فيه أو الخلطَ في أحكامِه والكلامِ عنه بلا ضابطٍ قرآنيّ ولا فهمٍ محمديّ ولا إجماع من أهلِ الحلّ والعقد كلُّ ذلك ينجُم عنه شرور عُظمى وفتنٌ كبرى، فكم مِن فتنٍ وقعَت فيها الأمّة الإسلاميّة بسبَب اعتقادٍ خاطئ في تكفير المسلمين، وعدم الرجوع إلى العلماء المحقّقين؛ وسؤالهم والأخذ عنهم. فإنّ التّسارعَ في التّكفير والوقوعَ فيه -بدون القواعد التي قعّدها العلماء المحقِّقون، وبدون النّظر إلى الشّروط وانتفاءِ الموانع المرعيّة في النّصوص-، كلّ ذلك خطرٌ عظيم وشرّ مستبين، عانت الأمّة منه منذ عصرِ الصحابة رضي الله عنهم، عانَت منه محنًا كُبرى.
ظهر ذلك جليًّا في تتابع المواقف السيئة في فكر الخوارج الذين يتبنون التكفير بالكبيرة والتسارع في التكفير. ويبنون على ذلك سفك دماء مسلمين.
وتكفير المسلمين من الأمور الخطيرة، التي إذا أساء بعض طلاب العلم فهمها فترتب على ذلك مفاسد كبيرة في الدِّين والدنيا معًا داخل المجتمع المسلم.
وإن شريعة الإسلام التي تعتمِد على إقامةِ الحجّة وقطعِ المعذِرة لم تكتفِ نصوصُها بتلك التّوجيهات العامّة، بل جاءت الأدلّة الخاصّةُ الصّريحةُ في توجيهاتها تُحَذِّر من التعجُّل في التكفير والتسارع في ذلك بلا تأصيل شرعيٍّ ولا منهج نبويّ، يقول صلى الله عليه وسلم : (من حَلف بملّة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال، ومن قتل نفسَه بشيء عُذِّب به في نار جهنّم، ولعنُ المؤمن كقتلِه، ومَن رمى مؤمنًا بكُفر فهو كقتلِه) رواه البخاري.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله (فالواجبُ في النّظر أن لا يكفَّر إلاّ من اتّفق الجميعُ على تكفيرِه، أو قامَ على تكفيره دليلٌ لا مدفعَ له من كتابٍ أو سنّة) انتهى.
هذا التكفير ليس بوابة يدخلها كل أحد، وليس كلمة يوصم بها أي أحد، وليس إطلاقًا يطلقه أي أحد؛ لأن هذا التكفير لو ما انضبط؛ وما كان له قواعد؛ وما كان يتعلق به أحكام ستصبح القضية فوضى، ويطلق على من هب ودب، ويبنى عليه استحلال الدم، والمال، والعرض…الخ.
ومِن هنا – عبادَ الله – مضى العلماءُ من السّلف والخلف يحذّرون من التعجّل في التكفير والمسارعةِ في الوقوع في حكمٍ بذلك على أحدٍ من المسلمين،
قال أبو حامدٍ الغزاليّ رحمه الله: (والذي ينبغي الاحترازُ منه التكفيرُ ما وُجد إليه سبيلاً، فإنّ استباحةَ الدماء والأموالِ من المصلّين إلى القبلة المصرِّحين بقول: لا إله إلا الله محمّد رسول الله، كلّ ذلك خطأ، والخطأ في تركِ ألفِ كافر في الحياةِ أهونُ من الخطأ في دمٍ لمسلم).
وقال ابن ناصر الدّين الدِّمَشقيّ رحمه الله: (فلَعنُ المسلم المعيَّن حرام، وأشدّ منه رميُه بالكفرِ وخروجِه عن الإسلام ).
ويقول ابن الوزير رحمه الله: (وقد عُوقِبَتِ الخوارجُ أشدَّ العقوبةِ وذُمَّت أقبحَ الذمّ على تكفيرهم لعصاةِ المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصِي الله وتعظيمهم لله تعالى بتكفير عاصيه، فلا يأمَن المكفِّرُ أن يقعَ في مثلِ ذنبِهم، وهذا خطرٌ في الدين جليل) .
معنى التكفير:
التكفير: هو الحكم على أحد المسلمين بالكفر؛ (معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية جـ١ صـ ٤٨٧). وهو نسبة أحد من أهل القبلة إلى الكفر،
حكمه
يُحرّم في الدين الإسلامي تكفير مسلمًا يقرُ بالشهادتين وغير منكر لأمر من ضروريات الدين
نشأة فتنة تكفير المسلمين:
إن أصل فتنة تكفير المسلمين ونشأتها وبداية ظهورها يرجع إلى الخوارج، الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكفَّروه هو ومن معه من الصحابة والتابعين،
أنواع التكفير:
إنّ المقرّر عندَ أهل السنّة والجماعة أنّ الكفرَ شعَبٌ متعدِّدة، وله مراتبُ، منها ما يخرِج من الملّة، ومنها ما لا يخرِج من الملّة، ولا يلزَم من قيام شعبةٍ من شعبِ الكفرِ بالعبدِ أن يصيرَ كافرًا الكفرَ المطلَق الأكبر المخرج من الملة، حتّى تقومَ به حقيقةُ الكفر. وعليه فينقسم التكفير إلى نوعين، هما:
التكفير المطلَق، والتكفير المعيَّن أولًا: التكفير المطلق: هو الحُكم بالكفر على القول أو الفعل أو الاعتقاد، الذي ينافي أصل الإسلام ويناقضه، وعلى فاعليها على سبيل الإطلاق، بدون تحديد أحد بعينه.
ثانيًا: التكفير المعيَّن: هو الحكم على شخص معيَّن بالكفر؛ لإتيانه بأمر يناقض الإسلام بعد استيفاء شروط التكفير فيه، وانتفاء موانعه.
اعلَمْ – أخي الكريم – أن إطلاق حكم التكفير على الفعل شيء، وإطلاقه على الأشخاص المعينين شيء آخر؛ فقد يكون الفعل كفرًا، ولا يكون صاحبه كافرًا؛ لانتفاء أحد شروط التكفير؛ كقيام الحجة مثلًا، أو لوجود شيء من موانع التكفير، كالجهل مثلًا.
التحذير من تكفير المسلمين:
روى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يرمي رجلٌ رجلًا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدَّتْ عليه، إن لم يكُنْ صاحبه كذلك) (٦٠٤٥).
فإنَّ التّكفير حكمٌ شرعيّ وحقٌّ محضٌ لله ولرسوله صى الله عليه وسلم وعلى هذا تواتَر كلام أهل العلم وتناقله الخلفُ عن السّلف، وإذا ثبَت في الشّرع أمرٌ ما وأنّه مكفِّر، ففرق بين الحكم على الفعل وبين الحكم على الفاعل، ولذا فلا بدّ عند الحكم على الفاعِل المعيَّن بالكفر أن تتمّ شروطُ التّكفير في حقِّه وتنتفي موانعُه، وفقَ نظرٍ دقيق من عالمٍ محقِّق.
وقد حذر جميع علماء الإسلام قديمًا وحديثًا، المسلمين من فتنة التكفير وخطورتها ودعوا المتصدين لذلك من الفقهاء والقضاة إلى الاحتياط في إصدار حكم التكفير، ومما ورد في ذلك:
سأل الفقيه عبد الحق الإمام أبا المعالي عن مسألة التكفير فأجاب: «إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم منها عظيمة في الدين».
الآثار الخطيرة للتكفير
منع الإسلام تكفير المسلم وإخراجه من الملّة الإسلامية دون ثبوت الدليل الشرعي على ذلك، لما يترتب عليه من مفاسد ومخاطر كثيرة فردية واجتماعية، من آثارها التي تعود على الشخص المُكفَّر، ومايستتبع ذلك الحكم من أحكام شرعية كإباحة إهدار دمه وماله، والحكم بنجاسته، وما يستلزم ذلك من عدم تعامل المسلمين معه في الزواج والميراث، تحريم زوجته عليه وانتفاء ولايته على أبنائه، ومعاملته كالكفار في عدم تغسيله والصلاة عليه بعد موته وعدم دفنه في مقابر المسلمين وغيرها؛
كما له آثار تعود على شخص المُكَفِر؛ جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: (من قذف مؤمنًا بكفر فهو كقاتله، ومن قتل نفسًا بشيء عذّبه الله بما قتل)،
ومن آثارها الاجتماعية، تفكيك المجتمع، وبث الحقد والكراهية بين صفوف المجتمع الواحد،
كما يأجج التعصب الطائفي وتمزيق وحدة الإمة الإسلامية.
أتدري ما معنى قولك لأخيك المسلم: “يا كافر” اسمع ما يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: “الذي ينبغي أن نؤصله هنا هو أن الحكم بالكفر على إنسان ما، حكم جد خطير، لما يترتب عليه من آثار هي غاية في الخطر، منها:
١ـ لا يحل لزوجته البقاء معه، ويجب أن يفرق بينها وبينه؛ لأن المسلمة لا يصح أن تكون زوجة لكافر بالإجماع المتيقن.
٢ـ أن أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت سلطانه؛ لأنه لا يؤتمن عليهم ويخشى أن يؤثر عليهم بكفره، وبخاصة أن عودهم طري. وهم أمانة في عنق المجتمع الإسلامي كله.
٣ـ أنه فقد حق الولاية والنصرة على المجتمع الإسلامي، بعد أن مرق منه وخرج عليه بالكفر الصريح، والردة البواح، ولهذا يجب أن يقاطع، ويفرض عليه حصار أدبي من المجتمع حتى يفيق لنفسه، ويثوب إلى رشده.
٤ـ أنه يجب أن يحاكم أمام القضاء الإسلامي، لينفذ فيه حكم المرتد، بعد أن يستتيبه ويزيل من ذهنه الشبهات، ويقيم عليه الحجة.
٥ـ أنه إذا مات لا تجرى عليه أحكام المسلمين، فلا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يورث، كما أنه لا يرث إذا مات مورث له.
٦ـ أنه إذا مات على حاله من الكفر يستوجب لعنة الله وطرده من رحمته، والخلود الأبدي في النار.
فهذه الأحكام الخطيرة توجب على من يتصدى للحكم بتكفير خلق الله أن يتريث مرات ومرات قبل أن يقول ما يقول.
فلعلك تلاحظ أخي الكريم أن إطلاق كلمة الكفر على شخص بعينه مسألة خطيرة؛ ولذا يجب على أهل العلم التأكد أولًا من كفر الشخص كفرًا صريحًا يخرجه عن دائرة الإسلام، وذلك قبل إطلاق لفظ الكفر عليه، وعليه فيشترط لتكفير شخص بعينه شرطان، وسوف نتحدث عنهما بإيجاز شديد:
الشرط الأول: أن يقصد الشخص بقوله الكفرَ صراحة:
فمن المعلوم عند أهل العلم باللغة العربية: أن بعض الألفاظ لها معانٍ متعددة، فربما قال الإنسان كلمة وقصد معنى غير المعنى الكفري لها،
أو قال قولًا يستلزم أمورًا مكفِّرة لم يقصدها ولم يلتزمها، فمثل هذا الشخص لا يجوز إطلاق كلمة الكفر عليه؛فالنيةُ لها أثر كبير في مسألة تكفير شخص بعينه. روى البخاريُّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى).
الشرط الثاني: قيام الحجة الواضحة:
المقصود بقيام الحجة على الشخص المسلم المراد تكفيره: هو إخباره بما جاء في القرآن الكريم، وبما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلمفي سنَّته الشريفة، ويجب أن نراعيَ اختلاف أحوال الناس، من حيث قُربُ عهدهم بالإسلام أو قِدَمهم فيه، ومن حيث انتشارُ العلم في الأماكن التي يسكنون فيها، أو قصوره عنها، كما يجب أن نراعيَ كذلك حال السنَّة التي جحدها الجاحد من حيث ظهورُها وخَفاؤها،فإن كانت السنَّة خافية، أو كان المكان الذي يسكنون فيه ينتشر فيه الجهل، أو كان الشخص قريبَ عهدٍ بإسلام أو لم يبلغه العلمُ بالسنَّة – اشترط قيام الحجة، في هذه الحالة.
ويشترط في قيام الحجة أن توضَّح إيضاحًا تامًّا؛ حتى تظهر معاندةُ مَن خالفها بعد ذلك لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا تكون لهذا الشخص الذي قامت عليه الحجةُ حجَّةٌ بعد ذلك.
ويُشترط أيضًا عند قيام الحجَّةِ على شخص معيَّن، إن كان صاحبَ شُبهةٍ: إزالةُ هذه الشُّبهةِ عنه.
موانعُ تكفير شخص بعينِه:
موانع تكفير شخص بعينه أربعة، سوف نتحدث عنها بإيجاز:
أولًا: الخطأ:
إن الخطأ غيرَ المعتمَّد الذي يقع فيه المسلم، سواء في مسائل العقيدة أو الأمور الفقهية – خطأٌ مغفور لصاحبه، ما لم تقُمْ عليه الحجة الواضحة ويعتبر أحدَ الأعذار التي تمنع إطلاق لفظ الكفر عليه. روى الإمام مسلم عن ابن عباسٍ قال: لَمَّا نزلت هذه الآية: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ [البقرة: ٢٨٤]، قال: دخَل قلوبهم منها شيءٌ لم يدخل قلوبهم من شيءٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: سمِعْنا وأطعنا وسلَّمنا)، قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ قال: قد فعلتُ، ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ قال: قد فعلتُ، ﴿وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ [البقرة: ٢٨٦] قال: قد فعلتُ”.
ومن الشروط: أن يكون عالماً بمخالفته التي أوجبت أن يكون كافراً أو فاسقاً .
ومن الموانع أن يكون متأولا أو عنده بعض الشُّبَه التي يظنها أدلة، أو كان بحيث لا يستطيع فهم الحجة الشرعية على وجهها ، فالتكفير لا يكون إلا بتحقق تعمد المخالفة وارتفاع الجهالة .
الخطأ في الاجتهاد:
قال ابن تيمية -رحمه الله-: “أجمع الصحابةُ وسائر أئمة المسلمين على أنه ليس كلُّ مَن قال قولًا أخطأ فيه أنه يكفُر بذلك، وإن كان قوله مخالفًا للسنَّة؛ فتكفيرُ كل مخطئٍ خلافُ الإجماع” [٧ : ٦٨٥].
إن خطأَ العالم المجتهد، الذي لا يُعاقَب على خطئه، وله أجرٌ واحد عند الله تعالى، يشترط له ثلاثة شروط، هي:
١- أن قَصْدَه متابعةُ النبي صلى الل عليه وسلم
٢- أن يبذل قصارى جهده للوصول إلى الحق والصواب.
٣- أن يكون متبعًا في اجتهاده دليلًا شرعيًا، إلا أن هذا الدليل تخلَّف فيه شرطُ قَبوله في الاستدلال – والعالم لا يعلم ذلك – كالصحة، وعدم النسخ، وعدم التخصيص، ونحو ذلك، أو أخطأ في فهم المقصود من هذا الدليل؛ (السابق جـ ٢٠ صـ ٣٠: ٣١).
ثانيًا: الجهل:
ومن موانع تكفيرالمعين -وأعذار المخالف أيا ما كانت مخالفته: الجهل فمن عمل عملا -وهو يجهل أن الله حرم ذلك العمل عليه- لم يؤاخذ بما عمله ولم تترتب عليه آثار ذلك العمل حتى يُعَرَّف وتقام عليه الحجة، وتتبين له المحجة. قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) التوبة: ١١٥.، ولقد جاءت أحاديث كثيرة في السنة النبوية المطهرة تدل على قبول العذر بالجهل، سواء كان ذلك في مسائل العقيدة أو في الأحكام الشرعية.
أيضًا هناك نقطة هامة يجب الانتباهه إليها وهي: ذات الألفاظ المكفرة أيضًا لا بد من التعامل الصحيح معها، فقد يقول الكفر شخص يجهل أنه كفر، ليس كل الناس عندهم علم أحكام كل العبارات، ومؤداها، ليس كل الناس يفكرون في معنى الكلام الذي يقولونه، أو ماذا يترتب عليه؟ وماذا يؤدي إليه؟ كثير من الناس عنده جهل باللغة جهل، سطحية في التفكير، ولذلك من القواعد -العقدية- لا يحكم بالكفر من الألفاظ المحتملة،
ثالثًا: العجز:
إن الشريعةَ الإسلامية الغرَّاء تناسب أحوالَ الناس في كل مكان وزمان، وتراعي اختلافَ قدراتهم البشرية؛ ولذا كانت الأحكامُ الشرعية في حال الضرورة مختلفةً عن الأحكام في حال اليُسرِ والرَّخاء، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦].
ولذا فإن عجز المسلم عن أداء ما شرعه الله تعالى يعتبر من الموانع التي تمنع تكفيرَ شخص بعينه،مثل أن تصِلَ دعوة الإسلام إلى بعض الناس في دار الكفر، فيؤمنوا بها ويدخلوا في دين الله سرًّا، ولم يتمكنوا من ترك بلاد الكفر والهجرة إلى دار الإسلام، ولم يتمكنوا أيضًا من إظهار شعائر الإسلام الظاهرة، وليس عندهم من أهل العلم مَن يعلِّمهم جميع أحكام الشريعة الإسلامية، فمثل هؤلاء يُعذَرون بعجزهم.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: ٩٧-٩٩]،
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم . قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.
أيها الإخوة المؤمنين
لقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنّنى فيه بملائكته وثلّث فيهِ بكم فقال عَزَّ قَائِلًا عَلِيمًا: (إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الْأَحْزَابِ: ٥٦].
فاللهم صل وسلم وزد بارك عليك سيدي يا رسول الله وآلك وصحبك قادة الحق، وسادة الخلق إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين، وبعد أيها الإخوة المؤمنين
فمن موانع التكفير أيضًا
رابعًا: الإكراه:
الإكراه: كل ما أدَّى بشخص، لو لم يفعل المأمور به، إلى ضرب، أو أخذ مال، أو قطع رزقه يستحقه، ونحو ذلك، والإكراه يعتبر من موانع تكفير المعيَّن. قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بالله مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ١٠٦]. قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: “أجمع أهلُ العلم على أن مَن أُكرِهَ على الكفر حتى خَشِيَ على نفسه القتل، أنه لا إثمَ عليه إن كفَر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تَبِينُ منه زوجته، ولا يُحكَمُ عليه بحُكم الكفر” (تفسير القرطبي جـ ١٠ صـ ١٩٠).
وقال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: “اتفق العلماء على أنه يجوز أن يوالَى المُكرَهُ على الكفر (أي الذي أُكْرِهَ على الكفر)، إبقاءً لمُهجته، ويجوز له أن يستقتل (أي: يطلب من الذي يريد أن يجعله يكفُرُ أن يقتله)، كما كان بلالٌ رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم لَيضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه أن يُشرِكَ بالله، فيأبى عليهم وهو يقول: أحد، أحد،ويقول: والله لو أعلم كلمةً هي أغيظُ لكم منها لقلتها، رضي الله عنه وأرضاه،
وكذلك حبيب بن زيدٍ الأنصاري لما قال له مسيلِمة الكذَّاب: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم،فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع،فلم يزل يقطعه إِرْبًا إِرْبًا وهو ثابتٌ على ذلك” (تفسير ابن كثير جـ٨ صـ٣٥٩).
ولهذا الإكراه شروط أربعة، وهي:
الأول: أن يكون فاعله قادرًا على إيقاع ما يهدِّدُ به، والمأمور عاجزًا عن الدَّفع، ولو بالفرار.
الثاني: أن يغلِبَ على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك.
الثالث: أن يكون ما هدَّده به فوريًّا، فلو قال: إن لم تفعل كذا ضربتك غدًا، لا يُعَدُّ مكرَهًا، ويستثنى ما إذا ذكر زمنًا قريبًا جدًّا، أو جرَتِ العادة بأنه لا يخلف.
الرابع: ألا يظهَرَ مِن المأمور ما يدلُّ على اختياره، ويستثنى من الفعل ما هو محرَّمٌ على التأبيد؛ كقتلِ النفس بغير حق؛ (فتح الباري جـ١٢ صـ٣٢٦).
التوبة تمحو الكفرَ بعد ثبوته على المعيَّن:
أجمع أهل العِلم على أن التوبةَ النَّصُوحَ هي المانع الوحيد الذي يمنَع تكفير المعيَّنِ إذا رجع عن الكفر الذي قد ثبت عليه. قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣].
وقد فتح الله تعالى باب التوبة للذين نسبوا له الصاحبة والولد فقال جلا وعلا بعد أن ذكر كفرهم: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٧٣-٧٤].،
قال الإمام ابن حزم: اتفق العلماء على أن التوبة مِن الكفر مقبولةٌ؛ (مراتب الإجماع ـ لابن حزم ـ صـ ٢٧٢).