
بقلم الشيخ / أحمد عزت
من القصص القرآني الذي رسّخ أمور العقيدة، ورسم للمسلم طريق التسليم لكل أوامر الله عز وجل والسير وفق مشيئته وإرادته جلا وعلا.
ففي هذه القصة فيها تعليم الله لعباده أن له أسرارًا خفية في هذه الحياة وأن لا يحكم على الظاهر دومًا فإن من حكمة الله ما يخفى على مقربيه أحيانًا وفي الحياة أسرار لا نستطيع أن نعلمها كلها حتى على المقربين والرسل. وأن الله تعالى قد يعلم بعضًا من عباده ما يخفى على الآخرين وإن كانوا أفضل منه (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)) يوسف.
وفي هذه القصة التي ذكرها ربنا قصة سيدنا موسى مع الرجل الصالح فيها الكثير والكثير من الدروس المستفادة في حياتنا اليومية، نقف عندها في آخر المقالة إن شاء الله.
أصل القصة كما تذكرها الأحاديث الصحيحة أن موسى (عليه السلام) سُئل عن أعلم من في الأرض أو عن العلم فقال أنا فقيل له أنت لا تعلم كل شيء، أوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن علمك جزء من العلم وليس كل العلم فأراد أن يربّيه التربية الإلهية بالتطبيق أن يعلم أن هناك حيّزاً من العلم لم يُمنَحه وهو علم الغيب. أنت تعلم العلم الظاهر، علم الشرع. فوعده في مكان خذ معك سمكة أو حوتًا في مِكتل وتذهب به إلى مجمع البحرين وهناك سيذهب الحوت، في المكان الذي سيذهب فيه الحوت ستجد الرجل الذي وعدتك به.
هذه هي القصة، وقد ورد في سورة الكهف عرض لهذه القصة في آيات من سورة الكهف، قال الله تبارك وتعالی: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا. فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا . فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا . قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا . قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا . فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا . قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا . قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا . قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا . قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا . فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا . فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا . فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا . قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا . أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا . وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا . فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا . وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٦٠ – ٨٢].
وقد سيقت هذه القصة ببيان أكمل، وتفاصيل أوفى في أحاديث رسول الله ﷺ؛ لأن السنة هي المبينة للقرآن، والمفصلة لمجمله.
ونريد أن نقف أمامها مليًا ونأخذ منها الدروس والفوائد.
روى الإمام البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى أنه قال: “إنا لعند ابن عباس في بيته، إذ قال سلوني؟
قلت: أي أبا عباس جعلني الله فدائك بالكوفة رجل قاص يقال له: نوف، يزعم أنه ليس بموسى بنى إسرائيل”، وفي رواية: “أن سعيد بن جبير قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن نوفًا البكالي يزعم: أن موسى صاحب بني إسرائيل ليس هو صاحب الخضر”.
فقال ابن عباس: لما سمع هذا الخبر أن نوفًا البكالي -وهو أحد القصاص الذين كانوا يحدثون الناس بأخبار الأمم السابقة- لما سمع هذا الكلام عنه “قال: كذب عدو الله”، وقد تتساءلون عن هذه الكلمة عدو الله كيف يكون ذلك؟
وذكر العلماء تعليلًا لهذه الشدة الواردة من ابن عباس، فقالوا: أن هذه الكلمة إنما أطلقها ابن عباس، ولم يرد معناها الحقيقي، وإنما وردت مورد التغليظ والزجر على ذلك الرجل الذي أخبر بشيء خلاف الثابت عن النبي -ﷺ- زعم أن موسى الذي كان مع الخضر ليس هو صاحب بني إسرائيل موسى آخر، فقال في معرض الزجر، والتغليظ، وفي حالة غضب، وفي حالة الغضب يعذر الغاضب في بعض ألفاظه التي تخرج منه.
وكما يقال: قاتله الله، ..
٢- قال ابن عباس: سمعت أبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله ﷺ: بينما موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله، -وأيام الله نعماؤه وبلاؤه- امتثالًا لقوله تعالى: “وذكرهم بأيام الله” وفي رواية: قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل.
وفي رواية: موسى رسول الله ﷺ ذكر الناس يومًا حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب. ولّى -يعني موسى-، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله: هل في الأرض أحد أعلم منك؟
قال: لا. وفي رواية: فسُئل أي الناس أعلم؟
فقال: أنا أعلم،
قال: فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى إليه إن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك،
قال موسى: أي ربي كيف لي به؟ كيف أصل إليه؟
فقيل له: احمل حوتًا في مكتل. وفي رواية: خذ حوتًا حتى تنفخ فيه الروح يعني: خذ معك نونًا، وفي رواية: خذ نونًا ميتًا. حيث ينفخ في الروح، فإذا بلغت في الطريق في مكان وأعيدت الروح لهذا الحوت فاعلم بأن الخضر في ذلك المكان الذي فقدت فيه الحوت، فقيل له احمل حوتًا في مكتل
والمكتل هو الزنبيل فحيث تفقد الحوت فهو ثم يعني: فهو هناك الخضر، فانطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون [وهذا يوشع نبي من الأنبياء، – فهو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام فجده يوسف عليه السلام- الذي قام في بني إسرائيل بعد موت موسى، قام بها وقام بأمورهم، وكان نبيًا من أنبيائهم، وهو الذي حبست له الشمس].
فقال -موسى- لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت يعني: ما أكلفك بشيء إلا فقط تخبرني متى نفقد الحوت، هذا الذي نأخذه معنا الآن، فقال له يوشع: ما كلفت كبيرًا، ما شققت عليّ بأمر كبير. وتبدأ الآيات بقوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)
فانطلق هو وفتاه يمشيان حتى أتيا الصخرة، فبينما هو في ظل الصخرة، فرقد موسى -نام- وفتاه وفي أصل الصخرة عين يقال لها: عين الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيا، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، فتحرك فاضطرب الحوت في المكتل، وانسل من المكتل حتى خرج من المكتل، فسقط في البحر قال: وأمسك الله عنه جريه الماء، حتى كان مثل الطاق، يعني: هذا الحوت وهو في الزنبيل أصابه شيء من ماء هذه العين التي تسمى عين الحياة، فلما أصابه هذا الماء رجعت إليه الحياة بإذن الله تعالى، فاضطرب في المكتل، ثم انقلب فدخل في البحر؛ لأنه كان على الساحل، فلما دخل في البحر اضطرب مرة أخرى، ثم سلك سبيله في البحر، فأمسك الله جريه الماء، حتى صارت على الحوت مثل الطاق، يعني: صار منفذ الحوت في البحر كأنه في حجر، يعني: محفور السرب هذا الذي دخل فيه الحوت كأنه محفور في الحجر، يعني: لما دخل الحوت ما رجع الماء مرة أخرى، وإنما بقي مثل لما ضرب موسى البحر فانفلق فصار فيه طريقًا يبسًا، أمسك الله عن الماء خاصية الرجوع مرة أخرى.
فقال: حتى إذا كان مثل الطاق فقال: فتاه لا أوقظه كان موسى نائمًا فقال: لا أوقظه حتى إذا استيقظ يعني: لما استيقظ موسى، نسي أن يخبره فكان للحوت سربًا، وكان لموسى وفتاه عجبًا، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما ونسي صاحب موسى أن يخبره فلما أصبح موسى عليه السلام “قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا”
قال ابن حجر رحمه الله: ليلتِهما بالكسر مضاف إليه، ويومهمَا بالنصب على إرادة سير جميع.
يعني: سير جميع اليوم، لما نقول في الرواية: فانطلق بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح قال بعض الحذاق: فلما أصبح هنا تدل على أن في الرواية قلبًا، وعلى أن المفروض تصير الرواية يومهما وليلتهما، لأن الإصباح لا يكون إلا من ليل. [فتح الباري لابن حجر: ١ /٢٢٠].
يعني: بعد الليل، ونسي صاحب موسى أن يخبره، فلما أصبح موسى عليه السلام
* أولاً لِمَ قال (فتاه)؟ ما المقصود بالفتى؟
كان في هذا بيان لفتاه أنه قد يمضون زمناً طويلاً في رحلتهما.
الآية لا تقول لنا إن الفتى وافق لكن المفهوم ضمنًا من قوله تعالى (فلما بلغا مجمع بينهما) أنه كان معه. أولاً كلمة (فتاه) هذه لمسة من القرآن الكريم في الوقت الذي كان هناك عبودية وتبعية الإنسان يكون تابعًا لغيره. الرسول -ﷺ- ينهى أن يقول المرء عبدي أو أمتي وإنما يقول فتاي وفتاتي الفتى كأنه ابن. فكأن هذه لمسة إنسانية من رسول الله -ﷺ- الذي هو رسول البشرية ورسول الإنسانية جميعًا. لا يقال خادمتي، عبدتي، عبدي، أمتي وإنما فتاي وفتاتي حتى هو الشخص العامل يحس بقيمته الإنسانية عند ذلك. فالقرآن يذكر هذا الكلام حتى يؤدّب قُرّاء القرآن كيف يتعامل مع الناس.
(لا أبرح حتى) هذه كلمة تقال لبيان الإصرار على الشيء: لا أبرح حتى أفعل كذا أي سأستمر على جهدي إلى أن أفعل هذا الأمر.
٣- (مجمع البحرين) هو مكان يجتمع فيه بحران مع مراعاة أن العرب تسمي النهر الكبير بحرًا: النيل في لسان العرب بحر، والفرات في لسان العرب بحر ودجلة في لسان العرب بحر. لكن لما يأتي إلى الأنهار الصغيرة يقول نهر. قد يسميه نهرًا أو قد يسميه اليمّ وقد يطلق اليم على البحر أو على النهر الكبير.
هناك إذن نقطة إلتقاء أو قد تكون نقطة افتراق؛ لأن المكان الذي يجتمع فيه فرعان. الإنسان يمكن أن يتخيل ما شاء الله مع مراعاة المكان الذي عاش فيه موسى (عليه السلام): هو عاش في في مصر، فلسطين وسيناء. لكن ليس فيه فائدة وما عندنا دليل على وجه التحديد أنه هذا لكن هناك مؤشرات لما يقول مثلاً: السفينة وجاء عصفور فنقر نقرة في الماء معناه أن الماء حلو لأن العصفور لا ينقر من ماء مالح فهو إذن ماء حلو أو في الأقل ماء مخلوط لا نطيل أين هذان البحران؟ لا فائدة من ذلك.
(أو أمضي حقبا) الحقب جمع حِقبة والحقبة هي مدة من الوقت قسم يقول سنة وقسم يقول ليس لها وقت محدود كأنه يقول سأمضي إلى ما لا نهاية أى أوقاتًا أو دهورًا أو زمانًا مفتوح.
(لا بثين فيها أحقابًا) أي أزمنة طويلة قد لا تكون محسوبة. هذا حتى يُعلِم الفتى بما ينتظره حتى لا يُغش أنه المكان قريب وتأتي معي.
لا، وإنما هناك مرحلة طويلة سأسلكها، فيه نوع من التخيير إن شئت أن تمضي معي وإن شئت فلا. هذا الإصرار ينبغي أن يعلمه المصاحِب له. لا ينبغي أن يخدعه أو أن يغشّه، هو معه يخدمه، إذن ينبغي أن يعلم من معك أين تريد.
* لماذا قال بينِهما وما قال بينَهما؟ (مجمع بينِهما):
كلمة بين بكسر النون تشير إلى المساحة التي اجتمع فيها البحران، لكن هذه المساحة تابعة لكلا البحرين لأن يكون هناك اختلاط بين مياه البحرين، فهو بينٌ لهذا وبينٌ لهذا فجمعه بكلمة بينِهما، لما نرجع إلى أصل كلمة البين هي بمعنى البِعاد والمفارقة ومنه قول الشاعر في مدح الرسول -ﷺ- (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول).
معنى الفصل أن يكون فاصلاً. هذا الفاصل جعله للبحرين لأن كل واحد منهما له جزء منه لأن هذا ماء والماء يختلط حتى إذا كان ملح وحلو يكون هناك منطقة مختلطة سماها القرآن الكريم (برزخ) هذا البرزخ منطقة الاجتماع بينهما، هناك فاصل منطقة مختلطة (بينهما برزخ لا يبغيان) لا يكون هناك خلطٌ كامل.
(مجمع بينهما) جعل البين واحدًا وفي مكان آخر جعله بينين (هذا فراق بيني وبينك) جعل لكلٍ بينًا لكن هنا جعل بينًا واحدًا ليس من السهل أن تفصل بين هذا عن بين ولذلك جاءت على هذه الصيغة. لهذا نقول كل كلمة في القرآن هي في موضعها في كتاب الله عز وجل.
(نسيا) لماذا استعمل التثنية في النسيان؟ ممكن إذا جاء اثنان تابع ومتبوع أن المتبوع يتكلم باسم الاثنين: ذهبنا أنا وهذا، هو يتكلم باسمه لكن يبدو هنا أن النسيان بمعنيين: موسى (عليه السلام) نسي والفتى نسي لكن نسيان موسى (عليه السلام) غير نسيان الفتى.
موسى عليه السلام يعلم أن لُقياه لهذا الرجل يكون عن طريق ذهاب الحوت فلما أمضيا الليل في هذا المكان عند الصخرة ويُفترض أنه في الصباح قبل أن يغادر أن يسأل عن الحوت هل بقي أو ذهب لأن علامة لقياه أن يذهب الحوت في البحر مع أن الحوت كان مشويًا وأكلا منه في الطريق، هذه معجزة. فنسيان موسى عليه السلام نسي ليس بمعنى حدث شيء ولم يتذكره وإنما غفل عن ذكره أو أهمله، نوع من إهمال الشيء كما قيل في القرآن الكريم (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى) أي أهملتها. أما نسيان الفتى أنه وموسى عليه السلام نائم، هو رأى عجبًا رأى هذا الحوت يقفز من المِكتل وهو مشوي ومأكول منه يقفز إلى الماء ويمضي في الماء بشكل سريع بحيث يكوّن (سربا).
الرسول -ﷺ- حلّق بين أصابعه يعني صنع نفقًا من الماء بسرعة بحيث صار الماء نتيجة سرعته كأنه نفق وهذا معنى سرب نفق الماء، وهذا لا يُنسى. فإذن هذا الحادث وقع وكان ينبغي لما يستيقظ موسى (عليه السلام) أن يحدّثه الغلام بما حدث لأنه أمر عظيم لكنه نسي وغاب عنه. فنسيان موسى (عليه السلام) غير نسيان الفتى لكن كلاهما نسي وكلٌ نسي بما يناسبه من النسيان. (فلما جاوزا) مضيا ويبدو أنهم مشيا مسافة وظهر عليهما التعب في أوائل شروق الشمس لأن الغداة في اللغة هو غير ما نستعمله نحن الآن (وقت الظهيرة) ولكن ما بين الفجر وشروق الشمس الغداء أول وجبة يتناولها العربي في وقت الغدوة بين الفجر وشروق الشمس (بالغدو والآصال).
الغداء قبل أو مع شروق الشمس.
الإفطار يكون بعد الصيام. فقال (آتنا غداءنا) معناه هو خرج بعد الفجر أو قبيل الفجر لا ندري المهم ناما وقتًا أو بعضًا من الليل ثم سارا إلى أن أُنهِكا فقال نأكل هذا الأكل. “قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا”، قال: ولم ينصب موسى وما أصابه التعب من طول السفر حتى جاوز المكان، وقد ورد في الحديث أن موسى تعب لما فقد الحوت وسار بعدما فقد الحوت جاءه النصب والتعب.
قال: ولم ينصب حتى جاوز المكان الذي أمر به، “قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا”. قال موسى: “ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا”، يعني: نحن نريد أن نفقد الحوت حتى نعرف المكان الذي نفقد فيه الحوت، فنعرف مكان الرجل الصالح الخضر عليه السلام
نلاحظ أن الشيطان قد ينسي العبد ما فيه مصلحة له (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) ليزداد نصبًا وتعبًا وليترك ما سعى إليه من خير، يُتعبه لعلّه ينصرف عن هذا الخير، لعلّه يتعب أو لعله يملّ أو يرجع فالشيطان قد يُنسي (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ). والنسيان يقع لعباد الله عمومًا حتى الرسل فقال: (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ).
٤- “فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا”.
يعني: يقُصّان آثارهما حتى أتيا الصخرة، فرأى رجلًا مسجى عليه بثوب، وفي رواية: فوجدا خضرًا على طنفسة يعني: فراش صغير، خضراء على كبد البحر
وكأنه أراد هنا ساحل البحر، فسلم عليه موسى، وكان هذا الرجل الخضر عليه السلام جعل هذا الثوب وغطى به نفسه جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه،
والخَضِر (بفتح الخاء، وكسر الضاد -وهو الأفصح-) من خَضِرًا نسبة إلى اللون الأخضر، وسُمّي بهذا الاسم؛ لأنه -كما ورد في الحديث الصحيح- أنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء [رواه البخاري: ٣٤٠٢].
والفروة هي الأرض اليابسة، جلس الخضر مرة من المرات على أرض يابسة بيضاء ليس فيها نبات، فإذا هي تهتز تحته بقدرة الله تعالى خضراء، معجزة وكرامة للخضر، فمن هذا الحادث سمي الخضر خضرًا.
فسلم عليه موسى، فقال له الخضر: أنى بأرضك السلام؟
الخضر يتعجبك من هذا السلام. يعني: قال من أين السلام في هذه الأرض التي لا يعرف فيها السلام؟ استغرب الخضر واحد يسلم عليه، والخضر يعرف أن هذه الأرض التي يوجد فيها ليس فيها السلام؛ لأن هذه التحية غير معروفة.
قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى احتمال أن يكون أهل تلك الأرض كفار، وفيه إيماء أيضًا إلى أن الخضر عليه السلام لا يعلم من الغيب إلا ما يعلمه الله، إذ لو كان يعلم كل الغيب لما قال: موسى بني إسرائيل؟ [فتح الباري لابن حجر: ١ /٢٢٠]. يعني: لما استفهم من أنت؟
قال: أنا موسى،
قال: موسى بني إسرائيل؟
قال: نعم،
قال: فما شأنك؟
قال جئتُ لتعلمني مما عُلّمتَ رشدًا،
قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك؟ وأن الوحي يأتيك يا موسى؟، ثم قال له الخضر: إنك على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه”. يعني: كل واحد فينا يا موسى اختص بشيء من العلم لا يعلمه الآخر.
قال بعض أهل العلم: وهذا لا يعني أنه لم يكن هناك بينهما قدر مشترك من العلم؛ لأن هذا ضروري مثل العلم بالتوحيد هذا ضروري بالنسبة لموسى وبالنسبة للخضر، ولكن هناك علم آخر بجانب الأشياء الضرورية شيء عند الخضر وما يعرفه موسى، وشيء عند موسى لا يعرفه الخضر،
قال له الخضر: “فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا”،
قال: نعم، يعني: وافق موسى على الشرط،
ثم الطاعة في المعروف للمعلِّم (وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) طاعة في المعروف.
“فانطلقا” موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فكلموهم أن يحملوهما. كلم موسى والخضر أصحاب السفينة أن يحملوهما إلى الجانب الآخر، فأصحاب السفينة عرفوا الخضر فقالوا: عبد الله الصالح لا نحمله بأجر فحملوها بغير نول يعني: بغير أجر فلم يفجأ موسى إذ عمد الخضر إلى قدوم فخرق السفينة، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه، فخرقها ووتد فيها وتدًا، خرق السفينة وجعل مكان اللوح المقلوع جعله مكانه وتدًا،
فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول -أجر- عمدت إلى سفينتهم فخرقتها، “لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا”.
يعني: أمرًا منكرًا فظيعًا،
قال له الخضر: “أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا”،
هذا أول حادثة!! ألم نتفق قبل قليل على ألا تسألني عن شيء، ولا تعترض علي حتى أحدث لك منه
فقال: وكانت هذه المرة نسيانًا، “لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا”.