الهجرة.. عبورٌ إلى الله لا إلى الجغرافيا

بقلم د : مصطفى طاهر رضوان
مدرس العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر الشريف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ورحمة الله للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإنه لحق أن الهجرةَ من مكة إلى المدينة قد طُويت صفحتها بفتح مكة المكرمة، فقد صحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: «لا هجرة، ولكن جهادٌ ونيَّة، وإذا استُنفرتم فانفروا». (صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير. باب لا هجرة بعد الفتح).

نعم لقد أُغلقت صفحة من صفحات الهجرة التي كُتبت بالدموع والدماء، لكنها لم تُغلق صفحة الهجرة في معناها الأوسع وأفقها الأبقى؛ فالهجرة من دار الخوف إلى دار الأمان، من وهدة الضياع إلى قمة الرسالة، من ضيق المعصية إلى فسحة الطاعة… هذه لم تزل مفتوحة، ولن يملك أحد أن يغلقها.

لقد كانت الهجرة مبدأً سبق بعثة النبي الخاتم ﷺ، فهاجر الأنبياء قبل سيدنا رسول الله، هاجر إبراهيم عليه السلام، وهاجر لوطٌ وموسى، وهاجر أُولي العزم من الرسل، وما زال أهل الرسالات في كل عصر يحملون متاعهم القليل، وقلوبهم المطمئنة، ويخرجون من الديار فرارًا بدينهم وبحثًا عن منبرٍ يُعلنون منه كلمة السماء.

ولم تنتهِ الهجرة يوم أغلقت مكة أبوابها على إيمانها، بل انتهى الشكلُ الأول منها، حين تحوّلت مكة من دار شرك إلى دار إسلام، فصار المسلم يأمن فيها على دينه ونفسه وعِرضه وماله، لكن المعنى الكامن وراء الهجرة ظل باقيًا ما بقي الليل والنهار، يُنادي: أن ارحل من مقامٍ تضيق فيها روحك، ولا تجد فيها لله صوتًا ولا للحق موضعًا.

أولًا: الهجرة لله، لا للهوى
إن أول ما تُعلّمه لنا هجرة النبي ﷺ هو أن الهجرة في سبيل الله وحده، لا لهوى النفس، ولا لهرب من مسؤولية، ولا لرغبة عابرة؛ فلقد خرج المصطفى مهاجرًا بدينه، مقيمًا لدولته، مبلّغًا لرسالته، لم يطلب دنيا، ولا راحة، بل أراد أمةً تنهض، ورسالةً تُبلَّغ، وعقيدةً تحفظ كرامة الإنسان، وما أكثر من يهاجر اليوم لأجل الرغيف، أو المتعة، أو المغنم العابر، ناسيًا أن الهجرة عبادة، وأن شرطها: «نيةٌ وجهاد» كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

فالنية رأس الأمر، بها تُوزن الأعمال، وتُكتب الأجور، ويُفصل الصادق من المدّعي، ومن نوى الله ورسوله، فقد وعده الله بوعدٍ لا يخلفه، وعدَ من خرج من بيته مهاجرًا إلى الله، ثم أدركه الموت، أن أجره قد وقع على الله.

قال تعالى: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: 100].

وتأمل هذا التعبير القرآني العجيب: «مراغمًا كثيرًا وسعة»، أي أن الله يفتح لك منافذ لا تتخيلها، ويهيئ لك سُبُل النجاة والعزّة من حيث لا تدري، ويغنيك بعد فقر، ويقويك بعد ضعف، ويجعل لك من كل ضيق مخرجًا.

وقد بيَّن الإمام ابن كثير هذه السعة و«المراغم» بأنّها: التحوّل والتمنّع الذي يُغيظ العدو ويُقوّي قلب المهاجر، وعلّق قتادة قائلًا: «من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى». (تفسير القرآن العظيم: 2/ 390-391. دار طيبة للنشر والتوزيع. الطبعة الثانية 1420هـ – 1999م).

ثانيًا: الثبات على الثوابت.. لا الذوبان في المجتمعات
من المحن التي تواجه المهاجرين اليوم: الذوبان في المجتمع الجديد، فمع طول المكث، ينسلخ بعضهم من شخصيته، ومن دينه، ومن أخلاقه، وتبدأ مرحلة التنازلات… لباس المرأة يتغير، واللغة تتبدل، والصلاة تُؤخَّر، والأبناء ينشؤون على عادات غريبة، فيتحول المسلم إلى غريبٍ عن دينه، وهو بين أهله وولده!

هذا الخطر قد تنبّه له النبي ﷺ، ولذلك كانت الهجرة النبوية مدرسة في الثبات، فما بدّل المهاجرون دينهم، ولا فتروا عن صلاتهم، ولا تراخوا في التزامهم، بل نقلوا معهم الوحي، والسنة، والصلاة، والعقيدة، وغرسوا ذلك في المدينة كما كان في مكة، فما انكسرت هويتهم، ولا غيّرتهم البيئة.

إن الهجرة لا تعني أن تبيع دينك ليُقبلك الآخر، ولا أن تتخلى عن ثوابتك لتُساير الثقافة الجديدة، بل تعني أن تكون منفتحًا في المتغيّرات، ثابتًا في الأصول، مرنًا في العادات، صلبًا في العقائد، فتعيش في غير وطنك ولكنّك لا تعيش بغير دينك.

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: 41–42].

ثالثًا: الأخذُ بالأسبابِ ورفضُ العشوائيةِ والارتجال
من أعظم الدروس البليغة التي تُستقى من الهجرة النبوية المباركة: درسُ الأخذ بالأسباب والعمل وفق السنن الربانية، دون تفريط أو اتكال؛ فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو المؤيَّد بالوحي، والمعصوم من الزلل، والمحفوظ بعناية الله ـ في غنًى عن التخطيط والتدبير، ومع ذلك كان أحرص الناس على استفراغ الوسع وبذل الجهد في اتخاذ الأسباب الممكنة كلها: من إعداد وتدبير، وتقديرٍ وتوقٍ، واستباقٍ واستشراف.

لقد تجلّت عبقرية الأخذ بالأسباب في كل تفاصيل الهجرة، حتى غدت نموذجًا يحتذى في احترام سنن الله في الكون. فقد خطّط رسول الله صلى الله عليه وسلم لخروجه على نحوٍ مدهش: اتجه جنوبًا إلى غار ثور، مع أنه في الأصل كان يريد الشمالَ إلى المدينة، واختار لذلك راحلتين قويتين مستريحتين؛ كي تطيقا وعثاء السفر وطول الطريق. واصطحب دليلًا خبيرًا بالطريق، يعرف مسالك الصحراء ومساربها، ويجيد التواري عن الأعين ومراوغة المتابعة.

ثم إنه رتّب على نحو دقيقٍ دورَ كلّ فردٍ في فريق الهجرة: فها هو عليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه يبيت في فراشه ليضلل الكافرين، وها هو عبد الله بن أبي بكر يتابع أخبار قريش ويتسمّع ما يدور في مجالسهم، ويبلّغ به رسول الله، ثم تمحو أسماء بنت أبي بكر – ذات النطاقين – أثر خطى الطريق بالطعام والزاد، ويقوم عامر بن فهيرة بإمرار أغنامه على آثار الأقدام ليعميَ على المتتبعين.

فهل بقي من الأسباب شيء لم يُتخذ؟
أو من الوسائل ما لم يُستنفد؟
أو من الثغرات ما تُرك مكشوفًا؟
كلا، وألف كلا!. إن الإسلام يُقرِّر بوضوح: أن السنن الكونية لا تُجامل مؤمنًا في تقصيره، ولا تنصر مهملًا في تهاونه، بل تأخذ المفرط كما تأخذ الظالم سواءً بسواء.

فلا مجالَ لانتظار المعونةِ من السماء لمن لم يُعد لها عُدّتها من الأرض. ولا معنى للاتكال والتسويف وانتظار الخوارق دون جهد أو ترتيب؛ غير أن الأخذ بالأسباب في التصور الإسلامي لا يعني الاتكالَ عليها أو نسيان المسبب الحقيقي، بل المسلم يُقدم على الأسباب وكأنها كلّ شيء، ثم يتوكل على الله كأنها لا شيء، وهذا هو ميزان الإيمان الصحيح.

وهنا يتجلى الفرق الجوهري بين المؤمن والكافر في الموقف من الأسباب:
فالمؤمن يعقل السبب ويتّخذه، ثم يعلم أن المسبِّب هو الله، وأن النتيجة بيد الله، لا بيد العقل ولا الخطة.

أما الكافر ـ إن جاز أن يُقال له عقيدة ـ فإنه يؤمن بأن الفعل للأسباب وحدها، ويُقصي عن المعادلة تمامًا أيّ تدخل للقدرة الإلهية.

ومن المؤسف أن الأمة الإسلامية المعاصرة لم تكن على مستوى هذه العقيدة؛ لقد عبّر الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ عن أسفه العميق حين قال: “ومع حرص الإسلام على قانون السببية، وتنفيذ النبي -صلى الله عليه وسلم- له بدقة؛ فأنا لا أعرف أمة استهانت بقانون السببية وخرجت عليه وعبثت بمقدماته ونتائجه كالأمة الإسلامية” (خطب الشيخ محمد الغزالي: 2/33. دار الاعتصام. القاهر)..

رابعًا: الهجرةُ رؤيةٌ واضحةٌ وخطةٌ مدروسة
لم تكن الهجرة النبوية الكريمة حركة عشوائية، ولا فرارًا من الخطر فحسب، بل كانت خطوةً استراتيجية مدروسة، لهدف جلي، وخطة واضحة المعالم؛ لقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو يحمل مشروعًا متكاملًا لإقامة دولةٍ حارسة للدين، وحاضنة للرسالة، وقاعدة لانطلاق الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.

وقد وعده الله بذلك في طريق الهجرة، فأنزل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ﴾ [القصص: 85].

قال الإمام القرطبي في تفسيره: “قوله تعالى: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد. ختم السورة ببشارة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم برده إلى مكة قاهرا لأعدائه… قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالجحفة، ليست مكية ولا مدنية”. (الجامع لأحكام القرآن: 13: 321. دار الكتب المصرية – القاهرة. الطبعة الثانية، 1384هـ – 1964م).

إنها بشارة مؤكدة بردّه صلى الله عليه وسلم إلى مكة عزيزًا منصورًا، وهي تعني أن الهجرة لم تكن تراجعًا عن الدعوة أو انكسارًا أمام الأعداء، بل كانت توطئة للنصر والتمكين. ومن ثم كانت الهجرة فعلاً مقصودًا، بخطوات محسوبة، لم يضع فيها النبي لحظةً، ولم يهدر جهدًا، بل سخّر كل الإمكانات والطاقات لإنجاح المهمة التي خرج من أجلها.

ومع أن الوعد الإلهي بالنصر والتمكين قائم، إلا أن التوجيه الإلهي كان دائمًا نحو الآخرة، حتى لا تستعجل النفوسُ النتيجة، ولا يصيبها الوهن، فجاء قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 41 – 44].

إنها دعوة للاستمرار في الطريق، حتى وإن لم تُر النتائج، فالمهم أن تُؤدى الرسالة، أما النتيجة فبيد الله، وربما يكون المؤمن جسراً تعبر عليه القيم والأفكار إلى جيل يحقق النصر ويشهد التمكين.

خامسًا: جهادٌ متواصلٌ من أجل التمكين
ما إن استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، حتى بدأ مسيرة البناء والجهاد بلا توانٍ ولا توقف، لم تكن الهجرة نهاية الطريق، بل كانت بدايته الحقيقية. فقد أقام النبي دولة الإسلام على أسس متينة: مجتمع متماسك، وعقيدة راسخة، وعلاقات سوية مع المسلمين وغيرهم، عبر وثيقة المدينة التي أرست أول دستور مدني تعددي في التاريخ.

ومن هذا البناء المؤسس انطلقت الأمة نحو العزة والمنعة، فكان رسول الله في خلال عشر سنوات فقط قد أقام دولة مهابة، وفتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُوَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاًفَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ [سورة النصر].

قال الإمام الطبري: “إذا جاءك نصر الله يا محمد على قومك من قريش، والفتح: فتح مكة، (ورأيت الناس) من صنوف العرب وقبائلها يدخلون في دين الله أفواجًا”. (جامع البيان في تأويل آي القرأن: 24/ 705. دار هجر. القاهرة. الطبعة الأولى، 1422هـ – 2001م).

لقد تحقق الهدف، ونُصرت الدعوة، ورفرفت راية الإسلام على أعتى القوى، فهل كان ذلك عشوائيًّا؟ كلا. إنه ثمرة الجهاد المنظم، والرؤية الواضحة، والتخطيط الدقيق.

إنّ الهجرة النبوية ليست ذكرى تاريخية تُروى، ولا حدثًا عابرًا يُحتفى به في المناسبات، بل هي مدرسةٌ متكاملة لبناء الإنسان، وإقامة الأمة، وصناعة الحضارة، وتغيير وجه التاريخ. لقد علمتنا الهجرة أن التغيير لا يكون بالعاطفة وحدها، ولا بالشعارات الجوفاء، بل بالتخطيط الواعي، والعمل الجاد، والتجرد لله، والأخذ الكامل بالأسباب، مع التوكل الصادق على رب الأرباب.

فلنعد إلى دروس الهجرة كما فهمها الصحابة وعاشها النبي ﷺ؛ نُعيد الاعتبار للعقل والتخطيط، ونعلي من قيمة التوكل المقترن بالسعي، ونفهم أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن سُننه لا تحابي أحدًا، فـ”إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم”.

تبقى الهجرة عنوانًا خالدًا لكل ساعٍ إلى التمكين، ولكل قلبٍ تاقت روحه إلى خلاصٍ من الظلم، وتحررٍ من القهر، ومجتمعٍ يؤمن بالله ويقيم شريعته… فهل نعي الدرس؟ وهل نصغي للنداء؟ وهل ننهض من كبوتنا؟ أم نظل نراوح في التيه، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا؟

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.