ماذا بعد الحج؟
15 يونيو، 2025
منبر الدعاة

بقلم الدكتورة : حنان محمد ( واعظة بوزارة الأوقاف المصرية )
قضى الحجاج عبادة من أعظم العبادات، وقربة من أعظم القربات قال تعالى (( قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ))
فإذا كان الدخول في الإسلام يجب ما قبله وينقل الإنسان من الموت إلى الحياة ” فإن الحج كذلك يجب ما قبله، إنه يسدل الستار على كل السلبيات التي تَلَبّسَ بها المسلم من قبل.
الحج مرحلةٌ فاصلة بين حياة وحياة، بين ماض وآت، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم :-
(من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته امه) يرجع أبيض الصفحة نقي التاريخ يعود سالما من تبعات ماضية آمنا من غوائل معاصيه، كما أن من صام يومَ عرفه يفوز بغفران سنتين. ماضية وآتيه، إذن فتلك الأيام التي مرت، كانت بمثابة صفحة جديدة طوت ما قبلها بإذن الله، خرج منها المسلمون ممن وفق للحج أو لصيام يوم ركن الحج. وقد حطوا عن كواهلهم تبعات السنين وزلات الماضي، وأقبلوا وهم يقولون (تائبون آيبون لربنا حامدون).
يا من قصدت البيت الحرام، ليكن حجك أول فتوحك، وتباشيرَ فجرك، وإشراقَ صبحك، وبدايةَ مولدك، وعنوانَ صدق إرادتك، تقبل الله حجك وسعيك،
ليس أمراً هيناً ذهابك إلى مكة أو استغلالك موسم العشر بأنواع الطاعات ، كم من الناس من لم يُعر هذا الموسم اهتمامه، فمضى عليه دون جهد يذكر
لهذا كان من دروس الحج شكر الله على هذا الإنعام ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]، فلا بد أن يكون شاكرًا لربه منيبًا إليه، وليس الشكر كما يتصوّره البعض بأنه الشكر اللساني فقط، لكنه في حقيقة الأمر هو الشكر القلبي،ومعه الشكر العملي، فتكون بعيدًا عن كل ما يغضب المنعم عليك، قريبًا من كل ما يحبه ويرضاه، قال تعالى مبينًا هذا المعنى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]،
لقد علَّمنا الحج قدر العلماء، وكان الحجاج في كل حركاتهم في نسكهم يرجعون إلى العلماء ولا يخالفونهم، خشية أن ينقص حجهم فهل يدوم الأمر ونقف عند فتاوى المعتبرين منهم؟
قد كنتم أيها الحجاج تتحرون وتتورعون من أشياء يسيرة من المحظورات خشية أن تؤثر على حجكم، فهل يدوم التحري وذلك الورع؟ لنتورع عن المحرمات من الأعمال والأقوال والأموال؛ لئلا تؤثر على قلوبنا وإيماننا؟.
إن إستشعارَ ثوَابِ العملِ يُعلي الهمةَ، ويطردُ الكسلَ، ويربِي فِي المسلِمِ الحرصَ على الأَعمالِ الصالحاتِ، وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا، وَالْتِزَامَهَا طِيلَةَ الْحَيَاةِ.
والله لَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ صَلاةِ الْفَجْرِ مَنِ اسْتَشْعَرَ فِي قَلْبِهِ حَقًّا قَوْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا”.
واللهِ لن تترد يدٌ عنِ الصَّدقَةِ، ولنْ تشِحَّ نفسٌ عنِ البذلِ إِذَا ما استحضَرَتْ صِدقًا قولَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: “لا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ قَلُوصَهُ حتَّى تكونَ مثلَ الجبلِ أَو أَعظمَ”. رواهُ البخارِيُّ ومسلم
عَلّمتنا مدرسةُ الحجِّ أيضاً قصرَ الأَملِ، لقدْ خرجَ الحاجُّ مِنْ ديارِهِ مُصَبِّرًا نفسهُ علَى الطَّاعَاتِ، حَابِسًا هواهُ عَنِ الشَّهَواتِ طِيلةَ أَيَّامِ مِنًى وعرفاتٍ؛ لأَنَّهُ يَستيقِنُ أَنَّها ساعَاتٌ معدوداتٌ ويأتِي الرَّحيلُ عمَّا قرِيبٍ.
فما أَجملَ أَن يستحضرَ الحاجُّ قصرَ أَيَّامِ عُمرِهِ، وأَنَّ المُكثَ فِي هذهِ الدَّارِ قلِيلٌ، والبَقَاءَ فيها يسيرٌ، وهذَا مبدأٌ ربَّىَ عليهِ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- صحابتهُ الكرامَ: “كن فِي الدُّنيَا كأنَكَ غريبٌ، أَو عابرُ سبيلٍ
نسأَلُ اللهَ -تعالَى- أنْ يقبلَ منَّا ومنَ الحجَّاجِ، وأنْ يجعلنَا وإِيَّاهمْ ووالدينا والمسلمينَ من عتقائهِ مِنَ النَّارِ،، إِنَّهُ سميعٌ مجيبٌ.