خطبة بعنوان ( الأوطان ليست حفنة من التراب) لفضيلة الشيخ أحمد أبو اسلام

خطبة بعنوان ( الأوطان ليست حفنة من التراب)

لفضيلة الشيخ أحمد أبو اسلام

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية

بتاريخ / ١٧ / ذو الحجه/ ١٤٤٦- ١٣/ ٦ / ٢٠٢٥
عناصر الخطبة
١) أغلى ما يملك المرء الدين والوطن
٢) اقترن حب الأرض بحب النفس والدين

٣) محبة الوطن تأتي بالوحدة وعدم الفرقة

 

المقدمة

الحمد لله المتفرد بالملك والخلق والتدبير، يعطي ويمنع وهو على كل شيء قدير، له الحكم وله الأمر وهو العليم الخبير، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه وهو اللطيف القدير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها صادقًا من قلبه من أهوال يوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الشفاعة، ولا يدخل الجنة إلا من أطاعه، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:
أغلى ما يملك المرء الدين والوطن

عباد الله: إن أغلى ما يملك المرء الدين والوطن، وما من إنسان إلا ويعتز بوطنه؛ لأنه مهد صباه ومدرج خطاه ومرتع طفولته، وملجأ كهولته، ومنبع ذكرياته، وموطن آبائه وأجداده، ومأوى أبنائه وأحفاده، فقد جعل الله حب الوطن غريزة في جميع المخلوقات ، بل إن بعض المخلوقات إذا تم نقلها عن موطنها الأصلي فإنها تموت، فالكل يحب وطنه، فإذا كانت هذه سنة الله في المخلوقات فقد جعلها الله في فطرة الإنسان، وإلا فما الذي يجعل الإنسان الذي يعيش في المناطق شديدة الحرارة، والتي قد تصل إلى ستين درجة فوق الصفر، وذلك الذي يعيش في القطب المتجمد الشمالي تحت البرد القارس، أو ذلك الذي يعيش في الغابات والأدغال يعاني من مخاطر الحياة كل يوم، ما الذي جعلهم يتحملون كل ذلك إلا حبهم لوطنهم وديارهم!! لذلك كان من الحقوق والواجبات الاجتماعية في الإسلام والتي غرسها في فطرة الإنسان حقوق الوطن والأرض التي يعيش فيها ويأكل من خيرها ويعبد الله تحت سمائها، وأول هذه الحقوق الحب الصادق لهذا الوطن.

 

أيها المؤمنون، عباد الله: لقد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يُخاطب مكة المكرمة مودعًا لها وهي وطنه الذي أُخرج منه، فقد روي عن عبد الله بن عباسٍ -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكة: “ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ”(رواه الترمذي، الحديث رقم 3926، ص880)

 

قالها بلهجة حزينة مليئة أسفًا وحنينًا وحسرة وشوقًا، مخاطبًا إياها: “ما أطيبكِ من بلد”. ولولا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مُعلم البشرية، يُحب وطنه لما قال هذا القول الذي لو أدرك كلُّ إنسانٍ مسلمٍ معناه لرأينا حب الوطن يتجلى في أجمل صوره وأصدق معانيه، ولأصبح الوطن لفظًا تحبه القلوب، وتهواه الأفئدة، وتتحرك لذكره المشاعر.

 

ولما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- الجحفة في طريقه إلى المدينة اشتد شوقه إلى مكة، فأنزل الله عليه قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) [القصص: 85]، أي لرادك إلى مكة التي أخرجوك منها.

 

يتوجه الخطاب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة، وهو مخرج من بلده، وهو في طريقه إلى المدينة التي لم يبلغها بعد، فقد كان بالجحفة قريبًا من مكة، قريبًا من الخطر، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، والذي يعز عليه فراقه حينها يأتى الخطاب من الله العلى إلى سيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في موقفه ذلك: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)، فما هو بتاركك للمشركين”(في ظلال القرآن – سورة القصص: 85).

 

وعندما هاجر إلى المدينة، وصارت وطنا له ألفها، بل كان يدعو الله أن يرزقه حبها، كما في الصحيحين: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد”(رواه البخاري برقم 4-99)

فهو يدعو الله بأن يرزقه حب المدينة أشد من حبه لمكة؛لاستشعاره بأنها أصحبت بلده ووطنه التي يحن إليها، ويسر عندما يرى معالمها التي تدل على قرب وصوله إليها، ومثلما دعا بحبها فقد دعا لها، كما في الصحيحين: “اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلت بمكة من البركة”(رواه البخاري 4-97).

 

وفي مسلم: “اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا لمكة، ومثله معه”(رواه مسلم برقم 1373).
ومن دعاء سيدنا إبراهيم -عليه السلام- لمكة ودعاء سيدنا محمد للمدينة يظهر حبهما لتلك البقعتين المباركتين، اللتين هما موطنهما، وموطن أهليهما، ومستقر عبادتهم.
اقترن حب الأرض بحب النفس والدين

لقد اقترن حب الأرض في القرآن الكريم بحب النفس، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ)[النساء: 66]، واقترن في موضع آخر بالدين: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) [الممتحنة: 8]، كل هذا يدل على تأثير الأرض، وعلى أن طبيعة الإنسان التي طبعه الله عليها حب الوطن والديار.

 

إن ارتباط الإنسان بوطنه وبلده مسألة متأصلة في النفس، فهو مسقط الرأس، ومستقر الحياة، ومكان العبادة، ومحل المال والعرض، ومكان الشرف، على أرضه يحيا، ويعبد ربه، ومن خيراته يعيش، ومن مائه يرتوي، وكرامته من كرامته، وعزته من عزته، به يعرف، وعنه يدافع، والوطن نعمة من الله على الفرد والمجتمع، ومحبة الوطن طبيعة طبع الله النفوس عليها، ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمور للخروج منه، كما حصل لنبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- عندما أخرجه الذين كفروا من مكة، قال تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]، وكما حدث لموسى -عليه السلام-؛ قال الله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً) [القصص: 29]، قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي: “قال علماؤنا: فلما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحن إلى وطنه، وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغوار، وتركب الأخطار، وتعلل الخواطر”(أحكام القرآن (3/1470)، تحقيق علي محمد البجاوي).

 

ولما كان الخروج من الوطن قاسيًا على النفس، صعبًا عليها، فقد كان من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم في سبيل الله، فللمهاجرين على الأنصار أفضلية ترك الوطن، ما يدل على أن ترك الوطن ليس بالأمر السهل على النفس، وقد مدحهم الله سبحانه على ذلك فقال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)[الحشر: 8].

فيِ “تَاريخِ مَكَّةَ” للأَزْرقِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَدِمَ أَصِيلٌ الْغِفَارِيُّ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَصِيلُ، كَيْفَ عَهِدْتَ مَكَّةَ؟ قَالَ: عَهِدْتُهَا قَدْ أَخْصَبَ جَنَابُهَا، وَابْيَضَّتْ بَطْحَاؤُهَا قَالَتْ: أَقِمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا أَصِيلُ، كَيْفَ عَهِدْتَ مَكَّةَ؟» قَالَ: وَاللَّهِ عَهِدْتُهَا قَدْ أَخْصَبَ جَنَابُهَا، وَابْيَضَّتْ بَطْحَاؤُهَا، وَأَغْدَقَ إِذْخِرُهَا، وَأُسْلِتَ ثُمَامُهَا، وَأَمَشَّ سَلَمُهَا فَقَالَ: «حَسْبُكَ يَا أَصِيلُ لَا تُحْزِنَّا»وفي روايه ” ياأصيل دع القلوب تقر”.

 

أرأيت كيف عبر النبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- عن حبه وهيامه وحنينه إلى وطنه بقوله: “يا أصيل: دع القلوب تقر”، فإن ذكر بلده الحبيب -الذي ولد فيه، ونشأ تحت سمائه وفوق أرضه، وبلغ أشده وأكرم بالنبوة في رحابه- أمامه يثير شوقه، ويشعل جمرة حنينه إلى موطنه الحبيب العزيز!!

 

وفي قصَّة الوحي ـ وهي في “الصَّحيح”: أنَّ ورقة بنَ نَوْفَل لمَّا قال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْتَنِي أكونُ حيًّا إذْ يُخرجك قومك! قال: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟! قال: نعم، قال السُّهيلي فى شرح السيرة النبوية لابن هشام رحمه اللهُ: “يُؤخذُ مِنهُ شِدَّةَ مُفارَقَةِ الوَطَنِ على النَّفسِ؛ فإنَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلم سَمِعَ قَولَ وَرقةَ أَنَّهُم يُؤذُونَهُ ويُكذِّبُونَه فلَم يَظهَرْ مِنهُ انزِعَاجٌ لِذلكَ، فلمَّا ذَكرَ لَهُ الإخراجَ تَحرَّكتْ نَفسُهُ لحبِّ الوَطنِ وإِلْفِهِ، فقالَ: “أوَ مخرجِيَّ هُم؟!”.

 

ولِهذَا طَمأَنَ اللهُ تعالى نَبيَّهُ صلى اللهُ عليه وسلم وأنزلَ عليهِ قَولَهُ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قالَ ابنُ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَيْ رَادُّكَ إلى مَكةَ. رواه البخاريُّ. .

 

أرأيت كيف أن الصحابة المهاجرين -رضوان الله عليهم أجمعين- كانوا يحاولون تخفيف حدة شوقهم وإطفاء حنينهم إلى وطنهم بالأبيات الرقيقة المرققة التي تذكرهم بمعالم وطنهم من الوديان والموارد والجبال والوهاد والنجاد!”. مجموعة الرسائل ص19، 20.

إن المسلم الحقيقي يكون وفيًّا أعظم ما يكون الوفاء لوطنه، محبًّا أشد ما يكون الحب له، مستعدًا للتضحية دائمًا في سبيله بنفسه ونفيسة، ورخيصة وغالية، فحبه لوطنه حب طبيعي مفطور عليه، حب أجل وأسمى من أن ترتقي إليه شبهة أو شك، حب تدعو إليه الفطرة، وترحب به العقيدة، وتؤيده السنة، وتجمع عليه خيار الأمة. فيا له من حب! قيل لأعرابي: كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ حين ينتعل كل شيء ظله؟! قال: “يمشي أحدنا ميلاً، فيرفض عرقًا، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساه، ويجلس في فيه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى”. أي حب هذا وهو يلاقي ما يلاقي!! إنه يقول: أنا في وطني بهذه الحالة ملك مثل كسرى في إيوانه.

 

بِلاَدِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عزيزة وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلى كرام

 

وانظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يدعوا إلى سرعة الرجوع إلى الأوطان بعد إنقضاء ما نريد من السفر حيث أمَر صلى الله عليه وسلم أمته سرعة الرجوع إلى أوطانهم عند انقضاء أسفارهم وحاجاتهم سواءً منها الدينية أو الدنيوية؛ روى الشيخان عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ”.

 

بل إنه عليه الصلاة والسلام دعا إلى الرجوع إلى الوطن ولو كان السفر إلى مكة بيت الله الحرام؛ روى الحاكم بإسناد ثابت عن أم المؤمنين عَائِشَةَ – رضي الله عنها – أَنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ حَجَّهُ فَلْيُعَجِّلِ الرِّحْلَةَ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لأَجْرِهِ”.

 

وتأملوا حب النبي – صلى الله عليه وسلم – للوطن متمثلًا في أحاديث كثيرة، منها: ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس رضى الله عنه قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا قدِمَ مِنْ سَفَرٍ فأبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ( أي طرقها المرتفعه ) أوْضَعَ ناقَتَهُ (أي أسرع السير ) وإنْ كانَتْ دَابَّةً حرَّكَهَامِنْ حُبِّهَا. أي من حب المدينة؛ لأنها وطنه المبارك وداره الطيبة، فعَل ذلك عليه الصلاة والسلام، وفيه أكرم الأسوة” .

قال بدر الدين العينى فى عمدة القارى، وَفِيه: دلَالَة على فضل الْمَدِينَة وعَلى مَشْرُوعِيَّة حب الوطن والحنين إِلَيْهِ.

 

محبة الوطن تأتي بالوحدة وعدم الفرقة
أيها النَّاسُ :

إِنَّ مَحَبَّةَ الوطَنِ تَقْتَضِي عَدَمَ الإتْيَانِ بِمَا مِنْ شَأنِهِ المِسَاسُ بِوَحْدَتِهِ وَلُحْمَتِهِ، فَالتَّفْرِقَةُ والتَّشَرْذُمُ -لأَيِّ اعْتِبَارٍ كَانَتْ- وَبَالٌ وَمَهْلَكَةٌ، لأَجْلِ ذَلِكَ حَذَّرَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ مِنْهَا كَثيرًا فِي كِتَابِهِ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: ” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ “، وَقَدْ أَخْبَرَ المُصْطَفَى فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوقِفٍ عَلَى أَهَمِّـيَّةِ التَّآلُفِ وَخُطُورَةِ التَّفْرِقَةِ وَالتَّنَازُعِ، مِنْ ذَلِكَ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم : ((أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: صَلاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ))، فَكَمْ أُهْـلِكَتْ مِنْ قَبْلِنا أُمَمٌ بِسَبَبِ تَنَازُعِهِا، وَامحَتْ حَضَارَاتٌ بِسَبَبِ تَفَرُّقِ أَهْـلِهَا. إِنَّ أَوَّلَ نَوَاةٍ لِبِنَاءِ الوَطَنِ وَقِيَامِ الدَّوْلَةِ وَتَأْسِيسِ الحَضَارَةِ هِيَ الوَحْدَةُ والتَّكَافُلُ والتَّآلُفُ بَيْنَ أَفْرَادِ المُجْـتَمَعِ، وَهَذَا مَا حَرَصَ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا الكَرِيمُ صلى الله عليه وسلم وَهُو يَضَعُ أُسُسَ الدَّوْلَةِ المُسْلِمَةِ فِي المَدِينَةِ، فَآخَى بَينَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَوَضَعَ وَثِيقَةَ المَدِينَةِ، وَبَثَّ رُوحَ التَّآلُفِ وَالمَحَبَّةِ. إِنَّ هُنَاكَ – يَا عِبَادَ اللهِ- مَنْ لا يَحْـلُو لَهُمْ إِلاَّ قَطْعُ حِبَالِ تَآلُفِكُمْ، وَتَمْزِيقُ أَوْصَالِ وَحدَتِكُمْ، وَهَدْمُ بِنَاءِ دَوْلَتِكُمْ، فَلا يَزالون يَنْشُرُونَ الشَّائِعَاتِ، وَيَبُثُّونَ الافْتِرَاءَاتِ، لأَجْـلِ إِضْعَافِ مَنْزِلَةِ الوَطَنِ فِي النُّفُوسِ، وَهَدْمِ الشُّعُورِ بِالاعتِزَازِ بِهِ، مُسْتَغِلِّينَ فِي ذَلِك التِّقْنِيَّةَ الحَدِيثَةَ وَوَسَائِلَ التَّوَاصُلِ الاجْـتِمَاعِيِّ. فَاحْذَرُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- مِنْ أَنْ تَصْـنَعُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ لِهَؤُلاءِ أَبْوَاقًا، أَوْ أَنْ تَجْعَلُوا نَوَادِيَكُمْ لِبِضَاعَتِهِمْ أَسْوَاقًا، فَإنَّ فِي ذَلكَ خِيَانَةً وَتَضْيِيْعًا للأمَانةِ.

 

وَقِفُوا أيها الكرام صَفًّا واحِدًا فِي وَجْهِ كُلِّ مُرْجِفٍ، وَتَنَبَّهُوا لِسَعْيِ كُلِّ مُفْسِدٍ، اغْرِسُوا فِي أَبنَائِكُمْ حُبَّ الوَطَنِ وَالاعتِزَازَ بِإِنْجَازَاتِهِ الحَاضِرَةِ وَمَجْدِهِ التَّلِيدِ، حَتَّى يُحَقِّقُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعْنَى المُوَاطَنَةِ الصَّالِحَةِ، فَهُمْ أَمَلُ الوَطَنِ وَبُنَاةُ الغَدِ.

 

أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّ كُلِّ ذِي شَرٍّ، وَأَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَيْدِ الْحَاسِدِينَ، مِنْ أَعْدَاءِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ.
هَذا وَصلُّوُا على النبي وسَلِّموا…
 

اترك تعليقاً