حبُّ التناهي شطط، وخيرُ الأمورِ الوسط

بقلم الشيخ: سعد طه

ميز اللهُ سبحانه وتعالى هذه الأمة بالوسطية، وهي التوازن والاعتدال بين الإفراط والتفريط. ولو نظرنا بعين البصيرة، لوجدنا أن الله تعالى ذكر في وسط سورة البقرة: “وكذلك جعلناكم أمة وسطًا”
إشارة إلى التوسط في جميع الأمور.

ففي الزمن الماضي، غالى بعض الناس في جانب الروح وأهملوا الجسد، ففسدت حياتهم. وآخرون اهتموا بالجسد وأهملوا الروح، فاختل توازنهم. وكلا الطرفين مرفوض، فلا بد من التوازن بين الروح والجسد.

عن أنسٍ – رضي الله عنه – قال:
جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوتِ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادته، فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. (متفق عليه)

الاعتدال في العبادة

كان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، فزار سلمانُ أبا الدرداء، فوجد زوجته متبذلة، فقال: ما شأنك؟ فقالت: أخوك أبو الدرداء لا حاجة له في الدنيا.
فقدَّم له طعامًا، فقال سلمان: كل. قال: إني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. ثم لما جاء الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم يصلي، فقال له سلمان: نم، ثم أراد أن يقوم فقال: نم، حتى كان آخر الليل، قال: قم الآن. فصليا.
ثم قال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقه.
فلما أخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: صدق سلمان.

على العكس، نجد في زمننا هذا من يصلي فرضًا أو فرضين، أو يصوم يومًا فيظن أنه سينال أعلى منازل الجنة، وهو بعيد عن التوازن الذي دعا إليه الإسلام.

الاعتدال في غض البصر وحفظ الفرج

قال الله تعالى:
“وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۝ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ۝ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ” [المؤمنون: 5–7]

كان الرجال قديمًا يتحلون بالمروءة والنخوة في حفظ الأعراض، ويغضون أبصارهم عما حرّم الله.
ومن القصص المؤثرة: أن الشيخ الدردير –رحمه الله– كان في حلقة علم، فجاءته امرأة تطلب أن يقرأ لها رسالة، فأخذها إلى جانب لتقرأ عليه، فأغلقت الباب وقالت: لا أريد الرسالة، بل أريدك أنت. فراودته عن نفسه، فقال لها: أريد دورة المياه لأستعد، فسمحت له. فرفع بصره إلى السماء وقال: يا رب، لقد قلت وقولك الحق: “ومن يتقِ الله يجعل له مخرجًا”. فوجد منفذًا في أعلى دورة المياه، فخرج منه، ونزل عن السور، وانصرف عنها.

أما اليوم، فكثير من الناس وقعوا في الزنا، وإطلاق البصر، وأفعال تغضب الله عز وجل.

الاعتدال في جمع المال

كان هناك رجل يُدعى إبراهيم، عُرف بين أهل قريته بـ “إبراهيم التقي”. لم يكن غنيًا، لكنه كان صادقًا في تجارته، لا يرضى إلا بالحلال.
اشتد الفقر على أهل قريته، وبدأ الناس يأخذون المال من أي طريق، إلا إبراهيم، بقي على مبدئه.
ذات يوم، جاءه رجل ثري يبحث عن شريك أمين، فوجد في إبراهيم ضالته، وقال له: أمثالك كنوز، وأنت أولى بالمال من غيرك.
فأصبح إبراهيم مثالاً يُحتذى به، يعلّم أبناءه أن المال الحرام قد يُغنيك يومًا، لكنه يُفقرك عند الله أبدًا.

أما اليوم، فكثير من الناس لا يبالون أكان مالهم من حلال أم حرام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ، أمن الحلال أم من الحرام.”

سرُّ الحياةِ… اعتدالٌ لا غُلُوَّ ولا جَفا
فبهِ تقومُ الدُّنيا، ويَسلمُ مَن وعى

لا تُفرِطَنَّ إذا أعطيتَ من كرمٍ
ولا تكن قابضًا تبغي به التُّقى

كُن بينَ جودٍ يُذيعُ المالَ في سفهٍ
وبينَ شُحٍّ يَظنُّ الفقرَ في السَّخا

كُن في العبادةِ لا تفترْ ولا تَكَلْ
لكنْ تذكَّرْ بأنَّ الجسمَ قد وَهى

ودَعْ هواكَ، فإنَّ النفسَ إن تُرِكتْ
سارتْ بكَ السيرَ في طرقٍ بلا هُدى

واعلَمْ بأنَّ طريقَ الحقِّ أوسَطُهُ
لا هو باليُسرِ، لا بالعُسرِ، بل سَنا

فالعدلُ ميزانُنا، والحُكمُ مِعتدلٌ
ومن حَدا جانِبَيهِ، ضلَّ أو هوى

اترك تعليقاً