خطبة بعنوان (إذا استنار العقل بالعلم أنار الدنيا) لفضيلة الدكتور :أيمن حمدى الحداد
13 أبريل، 2025
خطب منبرية

خطبة بعنوان (إذا استنار العقل بالعلم أنار الدنيا)
لفضيلة الدكتور :أيمن حمدى الحداد
عناصر الخطبة
♦أولاً: مكانة العقل فى الإسلام.
♦ثانياً: العقل والإيمان.
♦ثالثاً: العقل وصناعة الحضارة.
نص الخطبة
الحمد لله رب العالمين خلق الإنسان فى أحسن تقويم، ووهبه العقل وأرشده وهداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد فى سبيل الحق حتى أتاه اليقين، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه حق قدره، ومقداره العظيم، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: لقد أعلى ديننا الحنيف من قيمة العقل،
فدعا إلى استثارته ليؤدي دوره المنوط به لذلك نجد عبارات؛ ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، ﴿ولِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾،﴿ولِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾، ونحوها تتكرر عشرات المرات في القرآن الكريم لتؤكد على احترام العقل ووجوب إعماله وتنميته، ولقد جعل الله عز وجل العقل مناطاً للتكليف؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾(النساء: ٣٣)، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ قال رسول الله ﷺ: «رُفِع القلمُ عنْ ثلاثةٍ عنِ الصغيرِ حتى يبلُغَ وعَنِ النائمِ حتى يستيقظَ وعنِ المصابِ حتى يُكشفَ عنهُ» رواه أبو داود.
♦أولاً: مكانة العقل فى الإسلام؛ لقد أعتنى الإسلام بالعقل عناية فائقة، وأمر بالمحافظة عليه، وحرم إفساده بالمسكرات والمخدرات ونحوها، أو بالأفكار الهدامة كالإلحاد، أوالتفكير فيما لا يتحمله العقل ولا يستطيع ادراكه من الغيبيات؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: خَلَقَ الله الخَلْق فمن خَلَقَ الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً؛ فليقل: «آمنت بالله» رواه مسلم.
– قال العقاد: والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يُلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه.. كتاب التفكير فريضة إسلامية.
– ولقد استحث القرآن الكريم العقل الإنسانى ودعاه للتأمل في خلق الله الدال على وجود الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾(البقرة: ١٦٤)،
– ومن الآيات التي تخاطب العقل قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾(الطور: ٣٥)،
ففي هذه الآية خاطب الله عز وجل المنكرين لوجوده بدليل قاطع لكل ذي لب بإعمال هذا العقل بهذا الدليل.
قال الطبري: أخُلِق هؤلاء المشركون من غير شيء!! أي: من غير آباء ولا أمَّهات، فهم كالجماد، لا يعقلون ولا يفهمون لله حجة، ولا يعتبرون له بعبرة، ولا يتعظون بموعظة.
– ولما سُئل عطاءُ بن أبي رباح عن أفضل عطايا الله عز وجل للعبد؟ قال أفضل عطايا الله عز وجل للعبد (العقلُ عن الله جل جلاله) لأن العقلُ عن الله يعنى الفهمُ لمراده من خلقه وهو من أجل النعم التى يسعد بها العبد فى الدنيا والآخرة.. والمراد به العقل الذي يحجُزُ صاحبَه عن خوارِم المروءة وقوادِح الشرف، وسِفساف الأمور، ومن هنا كان ندم أهل النار؛ ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾(الملك: ١٠-١١)،
– ولقد تنوع الخطاب القرآني للعقل؛ فالمتتبع لآيات القرآن يتَّضح له أن القرآن الكريم لم يكتف بذكر لفظ العقل بل استحثه وخاطبه بمرادفاته؛ كالألباب والحجى والنُّهى، وغيرها؛ قال تعالى: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(البقرة: ٧٣)، وقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾(البقرة: ٢١٩)، وقال تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنعام: ٦٥)، وقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩)، وقال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ (الأعراف: ١٧٩)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(ق: ٣٧)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾(طه: ٥٤)، وقال تعالى: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾(الفجر: ٥)،
–ومن أعظم مظاهر إعتناء ديننا الحنيف بالعقل؛
دعوته إلى تنمية العقول بالعلم والاستزادة منه؛ لأن العلم زاد العقول، والنصوص الشرعية حافلة بالحث على طلب العلم، وبيان كثرة فضائله ومزاياه؛ قال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾(طه:١١٤)، وقال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(آل عمران: ١٨)، وقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(المجادلة: ١١)،
– ولقد جاءت التربية العقلية ضمن أولويات الإسلام؛ فليس ثمة دين يقوم على احترام العقل الإنسانى مثل الإسلام فكان سيدنا رسول الله ﷺ ينمى فى المؤمنين إعمال الفكر والعقل من خلال طرح الأسئلة التى تستثير الذهن؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مثلُ المؤمن مثل شجرة لا تطرح ورقَها» فوقع الناس في شجر البدو، ووقع في قلبي أنها النخلة، فاستحييتُ أن أتكلَّم، فقال رسول الله ﷺ: «هي النخلة»
فذكرت ذلك لعمر، فقال: يا بني، ما منعك أن تتكلم؟ فوالله لأن تكون قلت ذلك أحَبُّ إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا» رواه البخارى.
– وتكون تنمية القدرات العقلية والفكرية لدى النشىء بحفظ القرآن الكريم وتعلم أحكام الشريعة الغراء فهذا رسول الله ﷺ يجعل فداء الأسير أن يعلم عشرة من الصحابة القرأة والكتابة؛ ولقد أمر ﷺ زيد بن ثابت أن يتعلم اللغة السريانية؛
فعن زيد بن ثابت قال: «أَمَرَنِي رَسُولُ الله ﷺ أَنْ أَتَعَلّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ وَقالَ إِنّي وَالله مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي، قالَ فَمَا مَرّ بي نِصْفُ شَهْرٍ حَتّى تَعَلّمْتُهُ لَهُ» رواه الترمذى.
♦ثانياً: العقل والإيمان؛ لا يخفى على ذى لب ما تبثه بعض أجهزة الإعلام المغرضة وما ينتشر على وسائل التواصل الإجتماعي من شبهات تهدف إلى زعزعة الإيمان ونشر الأفكار الهدامة؛ لذلك كان لزاماً على الجميع تحصين الأجيال الصاعدة من الوقوع فى حبائل تلك الشبهات من خلال تفنيدها والرد عليها؛
– فهذا إبراهيمُ خَلِيلُ الرحمنِ عليه السلامُ يُنَاقِشُ النمرود ويُقِيمُ عليه الحجةَ؛ قال تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(البقرة: ٢٥٨)،
– وهذا كليمُ الله موسى عليه والسلام يَسْتَخْدِمُ الاستدلالَ نفسَه فِي مواجهةِ فرعون، ولا يزال يأتيه بالدليل إِثْرِ الدليلِ حتى يُعْجِزَه قال تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾(الشعراء: ٢٣-٢٩)،
– و لقد سأل بعض الملاحدة الإمام الشافعي رحمه الله ما الدليل على وجود الله؟
فقال: ورقة التوت، طعمها ولونها وريحها وطبعها واحدٌ عندكم؟ قالوا: نعم، قال: فتأكلها دودة القز فيخرج منها الحرير، والنحل فيخرج منها العسل، والشاة فيخرج منها البعر، ويأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك، فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك مع أن الطبع واحدٌ؟ فاستحسنوا منه ذلك، وأسلموا.
– ولقد أنكر أحد الملاحدة وجود الله تعالى عند جعفرٍ الصادق؛ فقال له: هل ركبت البحر؟ قال: نعم، قال: هل رأيت أهواله؟
قال: نعم، هاجت يوماً رياحٌ هائلةٌ، فكسرت السفينة وغرَّق الملاحين، فتعلقت أنا ببعض ألواحها، ثم ذهب عني ذلك اللوح، فإذا أنا مدفوعٌ في تلاطم الأمواج حتى دفعت إلى الساحل، فقال جعفرٌ : قد كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح، ثم على اللوح حتى تنجيك، فلما ذهبت هذه الأشياء عنك: هل أسلمت نفسك للهلاك أم كنت ترجو السلامة بعد؟ قال: بل رجوت السلامة.
قال: ممن كنت ترجوها؟ فسكت الرجل
فقال جعفرٌ: إنه الخالق الذي كنت ترجوه في ذلك الوقت، وهو الذي أنجاك من الغرق، فأسلَم الرجل.
– الإمام أبوحنيفة رضى الله عنه وقوة حجته العقلية؛ لقد طلب منه بعض الملاحدة أن يثبت لهم وجود الخالق العظيم جل جلاله؟
فقال لهم: دعوني؛ فإني مفكرٌ في أمرٍ قد أُخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينةً في البحر فيها أنواعٌ من المتاجر، وليس بها أحدٌ يحرسها ولا يقودها وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها، وتخترق الأمواج العظام حتى تخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يقودقها أحدٌ، فقالوا : هذا شيءٌ لا يقوله عاقلٌ، فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانعٌ؟ فبُهِت القوم ورجعوا إلى الحق، وأسلموا.
– ولقد أخبرنا القرآن الكريم عن قول المنكرين لوجود الخالق عزّوجل؛ قال تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾(الجاثية: ٢٤)،
قال الإمام ابن كثير : يخبر تعالى عن قول الدَّهريَّة من الكفار ومَن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: ما ثَم إلا هذه الدار، يموت قومٌ ويعيش آخرون، وما ثَم معادٌ ولا قيامةٌ.
والدَّهريَّة: مذهب لكل من اعتقد في قِدَم الزمان والمادة والكون، وأنكر الألوهية والخَلْق، والعناية والبعث والحساب، كما يرون أن الموجب للحياة والموت هو طبائع الأشياء، وحركات الأفلاك، وهؤلاء الدَّهريَّة المنكرون للألوهية هم أقرب للملاحدة المعاصرين.
– ولقد رأى الملاحدة الكثيرَ من آيات الله تعالى في الكون، وفي أنفسهم من إحكامٍ ودقة في الخَلق؛ ما يشهد بوجوده، وأنه هو الخالق الحكيم؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(فصلت: ٥٣)، ولكنهم آثروا الإنكار والجحود، مع يقينهم بوجود هذا الخالق العظيم؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾(النمل: ١٤)، فكان ذلك الجحود والإنكار نتيجة كِبرهم واستعلائهم، وسيطرة أهوائهم وشهواتهم على عقولهم، ولوأنهم أعملوا عقولهم وتفكروا فى خلق الإنسان ما وسعهم إلا أن يشهدوا بعظمة وجلال الخالق عزّ وجل؛ قال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾(الذاريات: ٢١)،
– والمتأمل يجد أن الكون غايةِ فى الجَوْدَةِ والإتقانِ؛ قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾، وعن الظل يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْس عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا﴾(الفرقان: ٤٥-٤٦)، فهناك عملية إنسجام وتلائم فالكون من الذرة إلى المجرة يشهد بوجود الله ووحدانية وصدق القائل:
فَيا عَجَباً كَيفَ يُعصى الإِلَه
أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ
تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ
وَتَسكينَةٍ أَبَداً شاهِدُ
فاتقوا الله عباد: واعلموا أن صناعة العقل لها بالغ الأثر فى بناء الإنسان وسلامة معتقداته.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لى ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا عباد الله: لقد فطن أسلافنا الكرام لما للعقل من أهمية فى صناعة الحضارة فاهتموا بإعمال عقولهم من أجل خير الإنسانية فشهد القاصى والدانى بما كانوا عليه من تفوق فى جميع ميادين العلوم والمعارف؛
♦ثالثاً: العقل وصناعة الحضارة؛ لقد شهد التاريخ بأثر الحضارة الإسلامية على الحضارة الأوروبية؛
– قال سارتيون: «إن ما أتت به الحضارة الإسلامية في باب العلم، ولا سيما العلوم وتطبيقها أعظم بكثير مما أتت به في ذلك السبيل مملكة بيزنطة.
– قالت المفكرة الألمانية – زيغريد هونكة –
بأن العرب قدموا لأوروبا أثمن هدية، وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب أسلوب كشف أسرار الطبيعة، وسيطرته عليها.
– لقد أدرك المسلمون قيمة العقل، فأنشأوا المدارس في مختلف البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً، وكثرت المكتبات، وامتلأت بالمؤلفات في مختلف العلوم، حتى إن مكتبة خلفاء الأندلس، اشتملت وحدها على ستمائة ألف مجلد، ولقد كان بالأندلس سبعون مكتبة عامة إلى جانب الكثير والكثير من المكتبات الخاصة، وسجل التاريخ أن هذه المكتبات اجتذبت الباحثين عن المعرفة من مختلف دول العالم؛ حيث كان الجميع ينهلون من علوم العرب ومؤلفاتهم.
– لقد ساهم العرب والمسلمون عبر التاريخ في الكثير من الإنجازات في شتّى أنواع العلوم، حيث برعوا في الطب، والرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والفلك، وغيرها، فقد كتبوا في الطب وأوجدوا العديد من العلاجات للأمراض المختلفة، واخترعوا مجموعة واسعة من الأدوات الطبية، وأسسوا علم الجبر والرياضيات، ودراسة الصوتيات في الفيزياء، كما برعوا في وضع القواعد الأساسية للتحاليل الكيميائية في المختبرات.
– الإبداع في تدوين العلوم والمعارف فعندما التقى الخليفة أبو جعفر المنصور بالإمام مالك طلب منه أن يدون الموطأ وازدادت النهضة التدوينية أيام هارون الرشيد.
– نهضة التدوين تبلغ غايتها في عصر المأمون الذى كان قد جعل مجلساً للعلماء والأدباء وكانت تدور في المجلس المناظرات العلمية.
– وقام العلماء بالتدوين في مختلف العلوم والفنون والآداب؛ كما ترجموا الكثير من المخطوطات اليونانية والفارسية والسريانية فأحدث ذلك حركة فكرية ضخمة امتلك بها العرب العلوم العربية والإغريقية وقدموها ناضجة لجميع الأمم فكان ما بذلوه من جهد سبيلاً لإسعاد الإنسانية وإعماراً للكون.
– هذا ولقد أضاف المسلمون إلى علم الهندسة ما لم يعرفه غيرهم واستخدموا الجبر في حل بعض مسائل الهندسة كما استخدموا الهندسة في حل بعض مسائل الجبر فكانوا أول من وضع أسس الهندسة التحليلية وكان من أعظم علماء العرب في الرياضيات الخوارزمي والطوسي والبيروني والبتاني ولقد ترجمت مؤلفاتهم إلى اللاتينية وانتفعت بها أوربا في بناء الحضارة الغربية الحديثة.
– وفى ميدان الطب نبغ أبوبكر الرازي الذى ترك تراثاً كبيراً من المؤلفات من ذلك: كتاب الجُدري والحصبة وكتاب به أبحاث خاصة بالنقرس والحصوة وأمراض الكلى والمثانة وأمراض الأطفال وقد طبع هذا الكتاب في أوروبا في الفترة ما بين عامي ١٤٩٨ – ١٨٦٦ حوالى أربعين مرة.
– كذلك كان من أشهر أطباء العرب الطبيب الرئيس- ابن سينا- ومن أعظم مؤلفاته كتاب القانون في الطب الذى اعتبره الأوروبيون خير ما أنتجته العقلية العربية.
– الشريف الإدريسي صاحب كتاب – نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والجزر والمدائن والآفاق – وضع الإدريسي أكثر من أربعين خريطة بالكتاب وقد ترجم الكتاب إلى اللاتينية وطبع؛ وصنع الإدريسي كرة سماوية وخريطة للعالم على شكل قرص ووضح مواقع البلدان.
قال الكاتب الفرنسي جوتيه: إن الإدريسي كان هو الاستاذ الذى علم أوربا هذا العلم.
– هذا هو ما وصل إليه أسلفنا من النبوغ في كل العلوم والفنون والآداب حتى صارت أمتنا رائدة للعلم والمعرفة وهذا جابر بن حيان يبرع في علم الكيمياء؛ والحسن بن الهيثم كان أول من فكر في آلة التصوير الفوتوغرافي.
– لقد شهدت إبداعات العرب العقلية لما كانوا عليه من تجاوب مع دعوة القرآن الكريم إلى إعمار الكون من خلال إعمال العقل، والعمل الصالح من أجل رقى البشرية جمعاء؛ فما أحوج أمتنا العربية والإسلامية إلى فهم القرآن الكريم كما فهمه أسلافنا.
فاتقوا الله عباد: واعلموا أن تنمية القدرات العقلية والأخذ بأساليب العلم الحديث من قدر الله عز وجل؛ وأنه من حسن التوكل على الله الأخذ بالأسباب مع ترك النتائج على الله جل وعلا.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وأقم الصلاة