من تجليات ليلة القدر

 

بقلم الدكتور: طلعت أبو حلوة 

من سنن الله  في الكون الاصطفاء والاختيار، ولا يكون ذلك إلا لعلة وحكمة، ومن ذلك اصطفاء هذه الليلة المباركة ليلة القدر من بين الليالي، وليس هذا لخصوصية تلك الليلة في ذاتها، وإنما ذلك لخصوصية ما حدث فيها، ولتكون زمانًا لتجليات الحق  وعطاءاته لعباده، فاختارها الله لإنزال كتابه العزيز المعجز القرآن الكريم، وبزوغه من كنزه الذي كان مكنونًا فيه -وهو اللوح المحفوظ في السماء السابعة- إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم إلى النبي الصادق المصدوق بواسطة المَلَك؛ ليبتدئ مباشرة مهمته في الحياة باتباع المنهج الإلهي، ولتفيض آثاره على قلوبنا إخباتًا وخشوعًا، وعلى نفوسنا طُهْرًا وصفاء وإشراقًا، وعلى سلوكنا التزامًا وانقيادًا.

   وقد نزل دستور المسلمين القرآن الكريم على النبي -ﷺ- بعد أن شارف الأربعين من عمره مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا على حسب الوقائع والحوادث وحاجات الناس المتجددة في ثلاث وعشرين سنة التي هي مدة الرسالة، وكان نزول أول شيء منه، وبزوغ أول نجم من نجومه في ليلة القدر في شهر رمضان المبارك، ولعل ذلك هو اختصاص هذا الشهر بافتراض الصوم فيه، ففي هذه الليلة انبلج نور الحق، وتلقى النبي رسالة الوحي التي كانت إيذانًا بحياة جديدة ملؤها الجهاد ثم النصر، واصطفاه الله خاتمًا للنبيين بعد بُرْهة من الزمن حُبِّبَ إليه فيها الخلوة والتأمل والتحنث والرياضة الروحية في غار حراء؛ ليستشف ويستجلي ما في الكون من أسرار وحقائق تقوده إلى وجود قوة عظمى خَفِيّة، تُدَبِّر هذا الكون الفسيح وفق نظام دقيق، وقوانين منتظمة، ونواميس مطردة، فلا الشمس ينبغي أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكلٌّ في فلك يسبحون.

    ولقد امتن الله على هذه الأمة المحمدية بهذه الليلة المباركة ذات القَدْر والشرف والعظمة، والتي هي خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر؛ وذلك لتكون محلًّا لتجليات الحق على أمة النبي المصطفى والحبيب المجتبى لقِصَر أعمارها خشية ألا تبلغ من العبادة ما بلغه غيرها من العبادة والعمل الصالح بسبب طول العمر، وقد أنزل الله -- على نبيّه في القرآن الكريم سورة سُمِّيَتْ باسم هذه الليلة، ذَكَرَ فيها إنزال القرآن، وبَيَّنَ فضلها وما يكون فيها من أحداث، فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.

   وليلة القدر تكون في العَشْر الأواخر من الشهر الفضيل ، وهذا ما عليه أكثر علماء الأمة ، وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع، وهي ليلة خير وسلام، يستحب إحياؤها بما يُظْهِر قدرها، وذلك بالتقرب إلى الله بالتوبة الخالصة الصادقة النصوح، والذكر، وقراءة القرآن، وطلب الحوائج، والدعاء والمناجاة بجوامع الكلم، وسؤال العفو والعافية والمعافاة، و الاعتكاف في المساجد، والقيام بالتراويح والتهجد إيمانًا واحتسابًا، واغتنامًا لبركتها وعِظَم الطاعات فيها، فقد كان من هدي النبي -ﷺ- أنه إذا أقبل عليه العَشْر الأواخر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وهجر الفراش، وجَدَّ وشَمَّرَ، وشَدَّ المِئْزر، واجتهد في الإكثار من القيام والذكر وقراءة القرآن والتضرع والخشوع، فنحن نرى بيت النبي مستيقظًا طول الليل ليس للهو أو لعب أو عبث، وما أحوجنا إلى التأسي والاقتداء بهذا النبي الأمين والنور المبين؛ لنحظى بالغفران، ونفوز بعبور الطريق بسلام إلى دار السلام.

   وقد اقتضت حكمة الله -وحكمته كلها خير- أن أخفى علينا ليلة القدر في هذه العَشْر الأواخر؛ لكي ننشط في الطاعة، ونجتهد في العشر كلها حرصًا على طلبها وإدراكها، والتماسًا لبركتها، وتكثيرًا للثواب، ومضاعفة للأجر، كما أخفى علينا اسمه الأعظم؛ لنعظم كل أسمائه، وأخفى الصلاة الوسطى؛ لنحافظ على كل الصلوات، وأخفى وقت الموت؛ لنخافه في كل الأوقات، وذلك بخلاف ما لو تم تعيينها، فلربما اقتصرنا على الاجتهاد في ليلة واحدة، فيقل ثوابنا وأجرنا، هدانا الله جميعًا إلى إدراك هذه الليلة المباركة، ووفقنا لإحيائها، ورزقنا بركتها وخيرها.

اترك تعليقاً