هنيئاً لكم أيها الصائمون

بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد

الدرس السادس والعشرون : «هنيئاً لكم أيها الصائمون»

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن ولاه وبعد؛ فيا أيها الصائمون: لقد أخبرنا ربنا تبارك وتعالى، بشدة الهول والفزع يوم القيامة حيث لا يسأل الولد عن والده، ولا الوالد عن ولده، ولا القريب عن قريبه؛ قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾(المؤمنون: ١٠١)، وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾(لقمان: ٣٣)، وقال تعالى:﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾(عبس: ٣٣-٣٧)،

معاشر الصائمين: ووسط تلك الأهوال الجسام ينجو الصائمون بشفاعة الصيام لهم، وينجو أهل القرآن بشفاعة القرآن لهم؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال رسول الله ﷺ: «الصيامُ والقرآنُ يَشْفَعانِ للعبدِ، يقولُ الصيامُ: أَيْ رَبِّ! إني مَنَعْتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ، فشَفِّعْنِي فيه، ويقولُ القرآنُ: مَنَعْتُهُ النومَ بالليلِ، فشَفِّعْنِي فيه؛ فيَشْفَعَانِ» رواه أحمد والحاكم والطبرانى.
– والشفاعة تعنّى أن يسأل مَنْ هو أهلٌ للشفاعة الله عز وجل أن يتجاوزَ عن الذنوب والخطايا.

– ولا تكون الشفاعة يوم القيامة إلا بإذن الله عز وجل ورضاه؛ قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾(البقرة: ٢٥٥)، وقال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾(طه: ١٠٩)،

– فالصيام يشفع لصاحبه؛ فيقول: «رَبّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه»، فأنت أيها الصائم؛ عندما تصوم تمتنع عن الطعام طاعة لله، وتمتنع عن الشراب طاعة لله، وتمتنع عن الشهوات طاعة لله عز وجل، فيأتى الصيام يوم القيامة ليشفع لك عند ربك جل وعلا، بأنك صبرتَ على ألم الجوع والعطش ومنعتَ نفسك مما تشتهيه طاعة لله عز وجل.

– والصيام الذي يشفع لصاحبه هو الصيام الذي لم يَصْحبه صَخَبٌ ولا كذب ولا زور ولا رفث ولا ظلم ولا عدوان؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «…وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب – ولا يجهل -، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم» متفق عليه.

وعنه قال رسول الله ﷺ: «من لم يدَعْ قولَ الزور والعملَ به، فليسَ لله حاجة في أن يدعَ طعامه وشرابه» رواه البخارى.

– فمن أراد شفاعة الصيام؛ فليحافظ على صيامه، ولا يُفسِدْه بالمنكرات، ولا يُضيّع أجرَه بالسيئات، فيحفظ لسانه عن فضول الكلام والخوض في الأعراض والكذب والنميمة والبذاءة والسخرية واللعن وما إلى ذلك؛ قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾( ق: ١٨)،

– وقد ذُكر عن الأوزاعي وعائشة رضى الله عنها: أن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم.
– قال ابن بطال: ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه.

– وقال البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصيام نفس الجوع والعطش بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة فاذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر المقبول فنفى السبب وأراد المسبب.
– قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: إذا صمت فليصُمْ سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعلْ يومَ صومِك ويوم فطرك سواء.

– والصيام الذى يشفع لصاحبه هو الذى يغير منه، فالأصل في مقصود الصيام هو الامتناع عن الآثام والقبائح وجميع المعاصي، وهذا هو التغيير الحقيقي المنشود بعبادة الصوم.

– وتكون الطاعات تدريب على هذا التغيير؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد: ١١)،
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتَها
من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها
لا خيرَ في لذة من بعدها النار

واعلم يرحمك الله أن شفاعة الصيام للصائم لها شرطان: الإيمان والاحتساب وهذا ما دلت عليه النصوص؛ قال رسول الله ﷺ: «مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» رواه النسائي.

– قال الخطابي: إيماناً واحتساباً أي: نيةً وعزيمةً وهو أن يصومه على التصديق والرغبة في ثوابه طيبة نفسه غير كاره له ولا مستثقل لأيامه لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب.
– وقال المناوي: يصوم أيام رمضان كلها إيماناً بفرضيته ومصدقاً طلباً لثوابه.
فهنيئاً لكم، ثم هنيئاً لكم أيها الصائمون بشفاعة الصيام.
– والقرآن يشفع لأصحابه؛

معاشر الصائمين: اعلموا أن النجاة والفلاح، فى كتاب الله تعالى، فمَن أرادَ الخير كله، فليَقرأ القرآن؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(فاطر: ٢٩-٣٠)،

– ورمضان شهر القرآن؛ فيه ابتدأ نزوله، وفيه كان جبريل عليه السلام يأتي النبي ﷺ فيدارسه القرآن، وفيه يُقبل الناس على القرآن، وفيه يُختم القرآن في صلاة التراويح، وفيه تعقد مجالس القرآن وموائده؛ قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾(البقرة: ١٨٥)، وعن ابن مسعود: «مَن قرَأ حرفًا من كتاب الله، فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: “الم” حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

– وعن أبي موسى رضي الله عنه: «مثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن، مثلُ الأُترجَّة؛ رِيحها طيِّب، وطعمها طيِّب، ومثلُ المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، كمثل التمرة؛ لا ريحَ لها، وطعمها حُلو» متفق عليه.

– والذى يقرأ القرآن وهو ماهر به، يكون يوم القيامة مع الملائكة السَّفرة الكرام البَررة؛ فعن عائشة رضي الله عنها قال رسول الله ﷺ: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به، مع السَّفرة الكرام البَررة، والذي يقرأ القرآن، ويَتتعْتَع فيه – وهو عليه شاقٌّ – له أجران» متفق عليه.

– وعند تلاوة القرآن ومدارسته، تتنزَّل الملائكة والسكينة والرحمة؛ فعن أبي هريرة: «ما اجتمَع قومٌ في بيت من بيوت الله – يتلون كتاب الله ويَتدارسونه بينهم – إلاَّ نزَلت عليهم السكينة، وغَشِيتْهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكَرهم الله فيمَن عنده» رواه مسلم.

– وعن البراء بن عازب قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرسٌ مربوط بشَطَنين، فتَغشَّته سحابةٌ، فجعَلت تَدنو، وجعَل فرسُه يَنفِر منها، فلمَّا أصبَح، أتى النبيَّ ﷺ فذكَر له ذلك، فقال: «تلك السكينة تنزَّلت للقرآن» متفق عليه.
– وفي تلاوة القرآن الكريم أمان من الغفلة؛ فعبدالله بن عمرو قال رسول الله ﷺ:«مَن قامَ بعشرِ آياتٍ لم يُكتَبْ منَ الغافلينَ، ومن قامَ بمائةِ آيةٍ كُتِبَ منَ القانتينَ، ومن قرأ بألفِ آيةٍ كُتِبَ منَ المقنطِرينَ» رواه أبو داود، وابن خزيمة، وابن حبان.

– قال أبو هريرة رضي الله عنه: إن البيت ليتَّسع على أهله، وتَحضُره الملائكة، وتَهجُره الشياطين، ويَكثُر خيرُه؛ أن يُقرأ فيه القرآن، وإن البيت ليَضيق على أهله، وتَهجُره الملائكة، وتَحضُره الشياطين، ويقلُّ خيرُه؛ ألاَّ يُقرَأ فيه القرآن.
– والقرآن الكريم يهدى إلى الحق والعدل؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(الإسراء: ٩)،

– ولقد كان من هَدْي أسلافنا الكرام رضي الله عنهم المستقر لديهم، تلاوة وِرْدٍ يومي من القرآن؛ فعن عبدالله بن عمرو بن العاص، أن النبي ﷺ قال له: «اقرَأ القرآن في كلِّ شهر»، قال: قلت: يا نبيَّ الله، إني أُطيق أفضلَ من ذلك، قال: «فاقْرَأه في كلِّ سبعٍ، ولا تَزِدْ عن ذلك» متفق عليه.

– وعن عمر بن الخطاب قال رسول الله ﷺ: «مَن نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرَأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتِب له كأنَّما قرأه من الليل» رواه مسلم.
– ولقد ثبَت عن ابن مسعود وعثمان وتميمٍ الداري، وجَمْعٍ من أئمة التابعين – أنهم كانوا يَختمون القرآن في سبعة أيام.

– ولقد علمنا سيدنا رسول الله ﷺ أن من آداب تلاوة القرآن الكريم تدبُّر معانيه؛ فعن حذيفة أن النبي ﷺ: «صلى فكان إذا مرَّ بآية رحمة سألَ، وإذا مرَّ بآية عذاب استجَار، وإذا مرَّ بآية فيها تَنزيه لله سبَّح» رواه النسائي.
قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(ص: ٢٩)،
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لأن أقرأ البقرة في ليلة، فأدَّبَّرها، وأُرَتِّلها، أحبُّ إلى من أقرأ ولا أدبر.
– وللقرآن الكريم مع أهله يوم القيامة مواقفُ عجيبة؛ فعن أبي أُمامة: «اقرَؤُوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه» رواه مسلم.
وعَن النَّوَّاس بْن سَمْعَانَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ، تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ». وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ: «كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا» رواه مسلم.

والظلة: السحابة التى لها ظل.
والشَّرق: الضوء والنور. الفرقان، أو الحزقان: والجماعتان. الصواف: باسطة أجنحتها فى الهواء.

– وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺُ قَالَ: «إِنَّ سُورَةً مِنَ القُرْآنِ، ثَلَاثُونَ آيَةً، شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ سُورَةُ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ». أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وأصحاب السنن الأربعة والبيهقي بألفاظ متقاربة.

فهنيئاً لمن شفع له الصيام وهنيئاً لمن شفع له القرآن الكريم.
فاللهم ارزقنا شفاعة الصيام، وارزقنا شفاعة القرآن، واحفظ صيامنا من كل معصية وسوء، وحبب إلى قلوبنا كتابك الكريم، يا رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلمْ وبارك على حبيبنا ونبينا محمد

وعلى آله وصحبه أجمعين وأحشرنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
الأربعاء ٢٦ من رمضان ١٤٤٦ هجرياً
الموافق ٢٦ من مارس ٢٠٢٥ ميلادياً

اترك تعليقاً