زكاة الفطر ودورها فى التكافل المجتمعى العنصر الأول : فضل ومنزلة الزكاة
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ]. فهذه أركان الإسلام وأسسه وأعمدته التي عليها بني.
ومن هذه الأسس التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فريضة الزكاة. فالزكاة حق لله في ماله الذي وهبه لعباده وأغنى به نفرا من خلقه، فشرع لهم وفرض عليهم أنهم يخرجونها من هذا المال الذي وهبهم وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منهم.. فقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(التوبة:103). فهي فريضة في أعناقهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم فهي حق واجب في أموال الأغنياء {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}
شعيرة وعبادة
والزكاة في الإسلام ليست مجرد عمل طيب من أعمال الخير والبر، ولكنها ركن أساسي من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره الكبرى، وعبادة من عباداته، وعمود من أعمدته، يوصم بالفسق من منعها، فليست إحسانًا اختياريًا ولا صدقة تطوعية، وإنما هي فريضة تتمتع بأعلى درجات الإلزام الخلقي والشرعي، وهي في نظر الإسلام حق للفقراء في أموال الأغنياء، فليس فيها أي معنى من معاني التفضل والامتنان ممن يخرجها على من يعطيها له.
لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال: [إِنَّكَ تَأْتِى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ].
فكل مسلم وهبه الله مالا بلغ نصابا، وحال عليه الحول، خال من الديون أو توفرت فيه شروط الزكاة وجب عليه زكاته، وهو مطالب بأن يخرج هذه الزكاة، وأن يقيم هذا الركن الأساسي من أركان الإسلام، عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى وشكرا له على ما وهبه وأنعم عليه. وأي إنسان منعها بخلا أخذت منه عنوة، وفي بعض الأحاديث تؤخذ ومعها شطر ماله؛ عقوبة له وتنكيلا به، لئلا يعود، وليكون عبرة لأمثاله. هذا ما صرحت به الأحاديث الصحيحة، وما طبقه الخليفة الأول أبو بكر ومن معه من الصحابة الكرام رضى الله عنهم.
رحمة الله في الزكاة الزكاة علامة ودلالة على رحمة الله بخلقه، فإنه سبحانه رزقهم المال، ولم يطلب منهم زكاة حتى يبلغ المال نصابا معينا (85 جراما من الذهب الخالص عيار24)، فلم يفرضها على الفقراء، وإنما على الأغنياء منهم، فهو يغني ثم يطلب، ثم لما أخذ أخذ نذرا قليلا (2.5بالمائة) وترك لهم أغلب مالهم (97.5بالمائة).. مع أن بعض أنظمة الأرض تأخذ ضرائب من مواطنيها تبلغ أربعين بالمائة أحيانا وزيادة.
من فوائد الزكاة ومنافعها
الزكاة فريضة فرضها الله على أغنياء المسلمين ترد على فقرائهم كما قلنا، ومع أنها طاعة لله واستجابة إلا أنها مع ذلك فيها فؤائد كثيرة ومنافع كبيرة ومصالح وفيرة:
دليل على إيمان صاحبها:
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [والصدقة برهان].. أي برهان وعلامة ودليل على إيمان مخرجها ومؤديها.. فهي دليل على إيمانه بالله تبارك وتعالى، واعترافه بفضله وإحسانه وإنعامه عليه فهو يؤدي حق الله شكرا لنعمته. وهي دليل على إيمانه بأن الله أرسل رسوله، وشرع له شرعا، منه هذه الفريضة الطيبة الزكاة، فأداها عن رغبة ورضا وتسليم لأمر ربه، وتقديمه لرضى الله على محبوبات نفسه. فأداء الزكاة علامة إيمان وإحسان، كما أن منعها دليل نفاق، وعنوان شقاق {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم}، {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون}(التوبة).
تطهير وتزكية للنفس:
قال تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}.. فهي تطهر النفس من الشح والبخل، وتحميها من التعلق الشديد بالدنيا. وتخفف من ولوعها بالمال، وارتباط القلب به فتحررها من عبودية الدرهم والدينار.
تطهير المال ومباركته
فإنما سميت الزكاة زكاة لأنها تزكي المال.. أي تطهره وتنميه وتنزل البركة فيه.. روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس [أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله.. إني ذو مال كثير وذو أهل وذو حاضرة، فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: تخرج الزكاة من مالك؛ فإنها طهرة تطهره، وتصل أقرباءك وتعرف حق المسكين والجار والسائل] رواه أحمد. فالزكاة بركة وطهارة ونماء وزيادة في المال والدين.
التكاتف وإشاعة المحبة بين أبناء المجتمع:
فأخذ الصدقة من الأغنياء يشعرهم بعضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة، فهم يشاركون في واجباتها، وينهضون بأعبائها، وهم لم ينبذوا منها ولم ينبتوا عنها، فيستأثروا بالمال دون الفقراء والمعوزين، وإنما عاشوا حياة الأخوة ورابطة وآصرة الإيمان والإنسانية والمواطنة. والفقير يشعر أنه ليس ضائعا في المجتمع، ولا متروكا لفقره وعوزه، ويستمتع بكرامته عندما يأخذ حقه. وربما تكون الزكاة منطلقا ليكون من ذوي اليد العليا يعطي بدوره الزكاة، وذلك إذا أعطي له من الزكاة ما يقيم به مشروعا أو زود بأدوات العمل. فهي تزكيةٌ وتطييبٌ وتطهير للنفوس التي رد عليها نصيب من المال، تسد به الحاجة، فتختفي أسباب الحقد الطبقي.
إغناء الفقراء:
إذ إن من مقاصد الزكاة إغناء الفقراء، وليس مجرد معونة وقتية، فيعطى الفقراء من مال الزكاة ما يستأصل شأفة العوز من حياتهم، ويمكنهم من أن ينهضوا وحدهم بعبء المعيشة، أو يقيموا مشروعا صغيرا يدر عليهم ربحا يكفيهم ويغنيهم ويحفظهم عن ذل المسألة ومد اليد للأخذ في كل مرة، بل ربما نقلهم إلى درجة المعطين المخرجين، فتكون يدهم هي العليا بدلا من أن تكون دائما السفلى. فالزكاة إغناء لا مجرد إعطاء.
منع الزكاة يهلك المال ويذهب بركته
ومع أن الزكاة قدر يسير ونذر قليل مما وهب الله، يترتب عليه أجر كثير، وخلف من الله كبير، وعلى رغم كل ما فيها من المنافع لنفس صاحبها وماله، إلا أن بعض الناس يبخل على الله بماله، ويمنع حق الله فيه، ظنا منه أن الزكاة تنقص المال وتقلله. وهو سوء ظن بالله؛ فقد أقسم النبي أنه: [ما نقص مال من صدقة].
فالصدقة لا تنقص المال بل تزيده، ومن تعامل مع الله عرف وليس من رأى كمن سمع.. وقد قال جل في علاه: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}، وهو القائل: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له}، وفي الحديث الصحيح: [ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا](متفق عليه).
فحصنوا أموالكم بالزكاة، وكثروا أموالكم بالصدقات، فإنها ما بقيت الزكاة في مال لم تخرج منه إلا أفسدته وأذهبت بركته. كما في حديث عائشة قَالَ صلى الله عليه وسلم: [مَا خَالَطَتِ الصَّدَقَةُ مَالاً إِلاَّ أَهْلَكَتْهُ](رواه البيهقي).
وتوعد النبي صلى الله عليه وسلم من يماطل في أدائها بنزع البركة من الأموال وتسليط الآفات عليها، وحبس الأمطار، والابتلاء بالمجاعة والقحط؛ وفي ذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم: [… ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا](رواه الحاكم).
إن المال غاد ورائح، وموروث عن صاحبه، وهو عارية والعارية مستردة، والمال إن لم يتركك ستتركه أنت، ولا يبقى بعد ذلك إلا شرف الذكر وحسن العمل. يقول صلى الله عليه وسلم: [يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت]. وفي الحديث: [يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنانِ ويَبْقَى معهُ واحِدٌ: يَتْبَعُهُ أهْلُهُ ومالُهُ وعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أهْلُهُ ومالُهُ ويَبْقَى عَمَلُهُ](رواه البخاري ومسلم).
والله ما سمعنا أن رجلا أدخل معه ماله في قبره، ولا دفتر شيكات، ولا ذهب ولا فضه.. بل ذهب كل الذهب، ومال عنه كل المال. بل يبقى المرء حياته يجمع المال ويوعيه ويحفظه ويحميه، ويزيده وينميه، ثم فجأة إذا بالموت يأتيه، فيترك المال لمن لا يحمده، ويذهب إلى من يسأله عنه ويحاسبه ولا يعذره.. وما أعظمها من مصيبة، كما قال يحيى بن معاذ: “مصيبتان للمرء في ماله لم تسمع بهما الخلائق: يموت ويتركه كله.. ويسأل عنه كله”.
العنصر الثانى : زكاة الفطر وأحكامها
شرعت زكاة الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وهي السَّنَّة نفسها التي فرض الله فيها صوم رمضان، ودليل مشروعيتها ثبت في السنة في أحاديث عدة، منها ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: (كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله….)، رواه مسلم. ومنها خبر ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر) رواه أبو داود وغيره. وورد غير ذلك من الأخبار التي يفيد مجموعها وجوب صدقة الفطر على كل مسلم.
الحكمة من مشروعيتها
وقد شرعت زكاة الفطر لحِكَمٍ عديدة منها: جبران نقص الصوم؛ فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتقدم أنها (طهرة للصائم من اللغو والرفث) رواه أبو داود وغيره، قال بعض أهل العلم: زكاة الفطر كسجدة السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم، كما يجبر سجود السهو نقصان الصلاة.
ومنها إغناء الفقراء عن السؤال ففي الحديث السابق أنها: (طعمة للمساكين)، وإغناء الفقراء من المطالب التي دلت عليها كليات الشريعة ومقاصدها، فضلاً عما تؤدي إليه هذه الصدقة من التكافل بين المجتمع، والتراحم بين طبقاته، وشعور بعضهم ببعض.
حكم زكاة الفطر
تجب زكاة الفطر على كل مسلم، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، عاقل أو مجنون لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين) متفق عليه، قال ابن المنذر: “أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض”. وقال إسحاق: “هو كالإجماع من أهل العلم”.
ويشترط لوجوبها أمران:
– الإسلام: فلا تقبل من الكافر لقوله تعالى: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) (التوبة:54).
– القدرة عليها: بأن يكون عنده يوم العيد وليلته قدر زائد عن قوته وقوت عياله ومن تلزمه نفقتهم وحوائجهم الأصلية من طعام وشراب ومسكن وملبس.
وتجب على الوالد زكاة الفطر عن ولده الصغير إذا لم يكن له مال، وأما إن كان له مال، فتجب الزكاة في مال الصغير، ولا تجب في مال الأب على الصحيح.
والجمهور على أنه يجب على الأب إخراجها عمن تلزمه نفقته، كالزوجة والوالدين؛ لحديث ابن عمر مرفوعاً: (أدوا الفطرة عمن تمونون) رواه الدار قطني وغيره، وفي إسناده إرسال، والصواب وقفه.
والصحيح أن صدقة الفطر تجب على الزوجة بنفسها لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(الأنعام:164). وكذلك الأبوين، كما أن الراجح من أقوال أهل العلم أن الدَّيْن ليس مانعاً من وجوب زكاة الفطر.
وقت وجوب إخراجها
تجب زكاة الفطر بغروب شمس ليلة عيد الفطر، فمن كان من أهل الوجوب حينئذ وجبت عليه وإلا فلا، فإذا مات قبل الغروب ولو بدقائق لم تجب عليه، وإن مات بعده ولو بدقائق، وجب إخراج زكاته، ومن أسلم بعد الغروب فلا فطرة عليه، ولو ولد لرجل بعد الغروب، لم تجب فطرته، لكن يسن إخراجها عنه، بخلاف ما لو ولد له قبل الغروب، فإنه يجب إخراجها عنه.
وأما وقت إخراجها فالأفضل أن تُخْرَج صباح العيد قبل الصلاة؛ لقول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه -كما في البخاري-: (كنا نُخْرِجُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعاً من طعام…)، وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)؛ ولأن المقصود منها إغناء الفقراء في هذا اليوم عن السؤال، من أجل أن يشاركوا الموسرين في الفرح والسرور.
ويجوز تقديمها قبل يوم العيد بيوم أو يومين؛ لما رواه البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يعطيها -أي صدقة الفطر- الذين يقبلونها، وكان يؤديها قبل الفطر بيوم أو يومين.
ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد لغير عذر، فإن أخرها لغير عذر لم تقبل منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو دواد وغيره.
وأما إن كان التأخير لعذر، كأن يصادفه العيد في مكان ليس عنده ما يدفع منه، أو من يدفع إليه، أو يأتي خبر العيد مفاجئاً بحيث لا يتمكن من إخراجها قبل الصلاة، أو يكون معتمداً على شخص في إخراجها، فينسى ذلك الشخص أن يخرجها، فله في هذه الحالة أن يخرجها ولو بعد العيد؛ لأنه معذور في ذلك كله.
جنس الواجب وقدره
أما عن الجنس الواجب إخراجه فمن غالب قوت البلد؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير)، وكان الشّعير يوم ذاك من طعامهم، كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (كنا نخرج يوم الفطر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، وكان طعامنا الشعير، والزبيب، والأقط، والتمر) رواه البخاري.
والقدر الواجب صاع من أي من هذه الأصناف، أو غيرها من الطّعام، ويقدر بكيلوين وأربعين غراماً من البُرِّ، ومن غير البُرِّ بحسبه. وأجاز بعض العلماء إخراج قيمة هذه الأصناف، والأمر فيه سعة بحسب حاجة الفقير.
وتدفع صدقة الفطر للفقراء والمحتاجين دون سائر مصارف الزكاة الثمانية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه لله، ولا يجوز دفعها إلى من تجب على الإنسان نفقته، كما لا يجوز دفعها إلى أهل الذمة.
ويجوز دفع زكاة الفطر لفقير واحد، أو عدة فقراء، والأولى دفعها إلى الأقرباء الفقراء، الذين لا تجب نفقتهم على المزكي.
المقدار الواجب في زكاة الفطر
هو أن يُخْرَجَ عن الفرد صاعا من تمر، أو من زبيب، أو صاعا من قمح أو من شعير أو من أرز، أو صاعا من أقط، ونحو ذلك مما يعتبر قوتا يتقوت به، ويجزئ الدقيق إن كان يساوي الحب في الوزن، فإن لم يجد أحد هذه الأنواع أخرج ما يقوم مقامه من كل ما يصلح قوتًا من فول أو عدس أو نحوه ذلك، ولا يجزئ الخبز لأنه خارج عن الكيل والإدِّخار، كما لا يجزئ إخراج حب معيب، أو مسوس، أو قديم تغير طعمه، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُون﴾.
ولا يجوز إخراجها من قوت أدنى من المعتاد إنما يجزئ القوت الأعلى، ولو لم يكن غالبًا، عن القوت الأدنى. وترتيب الأقوات من الأعلى إلى الأدنى كما يلي: البُر، السلت، الشعير، الذرة، الأرز، الحمص، العدس، الفول، التمر، الزبيب، اللبن، الجبن، والمعتبر في غالب قوت البلد غالب قوت السنة لا غالب قوت وقت الإخراج.
ويخرج المكلف صدقة الفطر من غالب قوت أهل البلد، التي هي أحد الأصناف التسعة التالية: القمح، الشعير، السلت، الذرة، الدخن، الأرز، التمر، الزبيب، الأقط (لبن يابس أُخرج زبده). ولا يجزئ إخراجها من غير غالب قوت البلد، إلا إذا كان أفضل كما لو غلب اقتيات الشعير فأخرج قمحًا. كما لا يجوز إخراجها من غير هذه الأصناف التسعة كالفول والعدس، إلا إذا اقتاته الناس وتركوا الأصناف التسعة المذكورة. وإذا أراد المكلف أن يخرج صدقته من اللحم اعتبر الشبع في الإخراج، فمثلًا إذا كان الصاع من القمح يشبع اثنين لو خُبِزَ، فيجب أن يخرج من اللحم ما يشبع اثنين.
ومقدارها صاع باتفاق المسلمين؛ والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي، وقريب أربع حفنات بيدي رجل معتدل، وهو يساوي أربعة أمداد، والمد ملء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومدّ يديه بهما، وبه سمي مدًّا، قال الفيروزآبادي: «وقد جربت ذلك فوجدته صحيحًا». ويقدر الصاع قرابة 3 كجم تقريبا، أي: أن مقدار الصاع ينقص عن 3 كجم، بنسب متفاوتة؛ لتفاوت التقديرات، لكن التقدير بالوزن تقريبي، والأصل في مقدار زكاة الفطر، كيلا بالصاع.
ولا يجوز إخراجها نقدًا في مذهب الإمام مالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل وأصحابهم، وهذا قول غالبية الأمة. قال الإمام ابن قدامة : «ولا تجزئ القيمة؛ لأنه عدول عن المنصوص». ويرى الحسن البصري وعطاء وعمر بن عبد العزيز وسفيان الثوري وأبي حنيفة وأصحابه بجواز إخراجها نقدًا. وقيل أنه يجوز إخراجها نقداً في حالة ما إذا كان إخراجها قيمة من النقود أو غيرها تترتب عليه مصلحة راجحة للفقير، وهو قول الشيخ ابن تيمية
وقت خروجها
تجب زكاة الفطر بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان، والسنة إخراجها يوم عيد الفطر قبل صلاة العيد. ويجوز تعجيل إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين وقد كان هذا فعل ابن عمر وغيره من الصحابة. ويقسم وقت أدائها إلى:
وقت الجواز: يجوز إخراجها قبل يوم العيد بيوم أو يومين، لأن ابن عمر رضي الله عنهما «كان يؤديها قبل العيد بيوم أو يومين»، ولا يجوز تعجيلها لأكثر من ذلك لأن الغرض منها إغناء الفقير يوم العيد، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «اغنوهم عن الطواف في هذا اليوم». وقت مسنون: قبل صلاة العيد لكف المحتاجين عن السؤال يوم العيد. ويندب إخراجها بعد فجر يوم العيد وقبل الذهاب لصلاة العيد. وقت مكروه: فيكره تأخيرها إلى آخر يوم العيد. وقت محرَّم: ويحرم تأخيرها عن يوم العيد بلا عذر. وإذا فات يوم العيد لزمه القضاء. أفضل وقت لإخراجها قبل الخروج لصلاة عيد الفطر، ويجوز إخراجها بعد دخول شهر رمضان، ولا يجوز تقديمها عنه، ويكره تأخيرها عن صلاة العيد، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفِطر طُهرة للصائم من اللّغو والرَّفث وطُعْمَة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات». لكنها لا تسقط بالتأخير، ولو لم يؤدِّها ثبتت دَيْنًا في ذمته يجب عليه دفعها، ولو أخرها حتى مات؛ فإن دفعها الورثة أو غيرهم أجزأت وبرِئت ذمته، وإن أوصى بها تُخرج من الثلث.
العنصر الثالث : عقوبة عدم إخراج الزكاة
إن من ترك إخراج زكاة الفطر قد ترك فرضاً فرضه الله تعالى عليه، فعليه أن يتوب إلى الله تعالى ويخرجها في المستقبل ويخرجها عما مضى من السنين التي مرت عليه إذا كان موسراً يستطيع أن يخرجها في تلك السنين لكنه فرط ، ويخرجها عمن تلزمه نفقته من زوجة أو أولاد صغار أو والديه الفقيرين.
قال في مواهب الجليل شرح مختصر خليل بن إسحاق المالكي عند قوله: ولا تسقط بمضي زمنها. قال في المدونة: وإن أخرها الواجد، فعليه قضاؤها لماضي السنين. انتهى.
وقال في مختصر الوفاء: ومن فرط فيها سنين وهو واجد لها أخرجها عما فرط من السنين عنه وعمن كان يجب عليه إخراجها عنه في كل عام بقدر ما كان يلزمه من ذلك، ولو أتى ذلك على ماله إذا كان صحيحاً، وإن كان مريضاً وأوصى بها أخرجت من ثلثه.
فإن تارك إخراج زكاة الفطر إن كان يعلم وجوبها، فإنه يعتبر عاصياً مخالفاً لأمر الله تعالى في أمره بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حر وعبد ورجل أو امرأة صغير أو كبير صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير. واللفظ لمسلم.
وعقوبةمنع إخراج الزكاة عامة
فإن منع الزكاة بخلاً بها وحرصاً وجشعاً من أكبر الكبائر وأقبح الجرائم، فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك” ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [آل عمران:180]
هذا بالنسبة لعقوبته الأخروية. أما بالنسبة للعقوبة الدنيوية فهي أصناف كثيرة ومتنوعة منها: ما يسلطه الله تعالى على العبد مما لا دخل لغيره فيه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين -المجاعة والقحط-” رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات، ومنها: “ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا” رواه ابن ماجه و البزار وغيرهما، ومنها العقوبة الشرعية التي يتولاها الحاكم أو نائبه، يقول الرسول صلى الله عليه عليه وسلم: “من أعطاها مؤتجراً فله أجره، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله..” إلى آخر الحديث. رواه الإمام أحمد و النسائي و أبو داود . فالحديث يتضمن أن من غلب عليه الشح وحب الدنيا ومنع الزكاة لم يترك وشأنه، بل تؤخذ منه قهراً بسلطان الشرع مع أخذ نصف ما له تعزيراً وتأديباً، ولم يقف الإسلام عند عقوبة مانع الزكاة بالغرامة المالية أو بغيرها، من العقوبات التعزيزية، بل أوجب سل السيوف وإعلان الحرب على كل فئة ذات شوكة تتمرد على أداء الزكاة، ولم يبال في سبيل ذلك بقتل الأنفس، وإراقة الدماء التي جاء لصيانتها والمحافظة عليها، الأمر الذي يدل دلالة واضحة على أهمية أداء الزكاة وخطورة الامتناع منه، ولهذا فإنا نقول للسائل: على الدولة أن تأخذ من هذا الرجل حق الفقراء والمساكين جبراً عنه. وأما بالنسبة لما يفعله ورثة هذا المال الذي لم تؤد زكاته، فإنهم يخرجون منه ما ترتب فيه من الحقوق الزكوية، كسائر الديون، فهي مقدمة بعد مؤن تجهيز الميت، ثم بعد ذلك تخرج الوصية من ثلث الباقي إذا كانت ثمة وصية، ثم يقسم الباقي من المال على الورثة.