رمضان شهر المغفرة

 

بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد

 

الدرس الثامن عشر : رمضان شهر المغفرة

 

الحمد لله الذى جعل رمضان ساحة لمغفرة الذنوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله، خير من استغفر ربه وأناب إليه، اللهم صل الله وسلم وبارك عليه حق قدره ومقداره العظيم، أما بعد؛ فيا أيها الصائمون: إن من أجل وأعظم فضائل شهر رمضان أنه شهر المغفرة، فربنا تبارك وتعالى يجود علي عباده بالمغفرة، والعتق من النار، فعن أبي هريرة رضي الله قال رسول الله ﷺ: «إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ:
يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ» رواه الترمذي.

وعنه أن رسول الله ﷺ قال: «الصَّلواتُ الخَمسُ والجُمعةُ إلى الجُمعةِ، ورمضان إلى رمضان كفَّاراتٌ لِما بينَهنَّ ما لَمْ يَغْشَ الكبائرَ» رواه ابن حبان.
واعلم يرحمك الله أن غفران الذنوب في رمضان له شرطان هما: الإيمان والاحتساب وهذا ما دلت عليه النصوص؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله ﷺ: «مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» رواه البخارى ومسلم.
وعَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه البخاري ومسلم.

قال الخطابي: إيماناً واحتساباً أي: نيةً وعزيمةً وهو أن يصومه على التصديق والرغبة في ثوابه طيبة نفسه غير كاره له ولا مستثقل لأيامه لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب.

أيها الصائمون: إن مغفرة الذنوب صفة الله عزو جل قال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(الحجر: ٤٩)، وقال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا﴾(الكهف: ٥٨)،
وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾(البروج: ١٤)،

فينبغى للعاقل أن يحرص على الفوز بالمغفرة لا سيما ونحن نعيش فى رحاب شهر المغفرة فيصدق فى توبته ويخلص فيها، قال تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(المائدة:٣٩)، وقال تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾(هود: ٩٠)،

فرحمةُ اللهِ عز وجل تغلبُ غضَبَهُ قال تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾(الأنعام: ٥٤)،

قال ابنُ كثيرٍ في تفسير الآية: أوجبَ الله الرحمة على نفسِه الكريمةِ تفضُّلاً منه وإحساناً وامتناناً، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ لما قَضَى الخلْقَ كتبَ عندَهُ فوقَ عرشِهِ، إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» رواه البخارى.
وعن أَبِى بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي؟ قَالَ: «قُلِ اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيراً وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» رواه البخارى.
ومن أعظم أسباب مغفرة الذنوب الندم والإفتقار والخضوع والذل بين يدي الملك جل جلاله،
ولقد أصاب أهل الأندلس قحط، فجاء رسول من الخليفة، أو السلطان إلى القاضي آنذاك، وهو المنذر البلوطي، يدعوه فيه للخروج، يعني: أن الملك الناصر لدين الله يدعوه لأن يخرج معهم للاستسقاء في هذا الجدب، فلبس الملك في هذا الجدب ثوباً خشناً، وبكى واستغفر، وتذلل لربه، وقال: ناصيتي بيدك لا تعذب الرعية بي، لن يفوتك مني شيء يناجي ربه، ويقول: لا تعذب الرعية بي، فبلغ هذا الكلام إلى القاضي المنذر البلوطي، فتهلل وجهه، وقال: إذا خشع جبار الأرض يرحم جبار السماء، فاستسقوا، ورحموا..

وهذا من عظيم ستر الله تبارك وتعالى على من يعصيه، وقبوله توبة التائبين، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(الزمر: ٥٣)، وقال تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم» رواه مسلم.

وعن عبدالرحمن بن جبير رضي الله عنه قال: أتى النبي ﷺ شيخ كبير هرم، سقط حاجباه على عينيه، وهو مدعم على عصا – أي: متكئًا على عصا – حتى قام بين يدي النبي ﷺ فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها، لم يترك داجة ولا حاجة إلا أتاها، لو قسمت خطيئته على أهل الأرض لأوبقَتْهم – لأهلكَتْهم – أَلَهُ من توبة؟ فقال – ﷺ -: هل أسلمت؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات، قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟ قال: نعم، وغدراتك وفجراتك، فقال: الله أكبر، الله أكبر، ثم ادعم على عصاه، فلم يزل يردِّد: الله أكبر، حتى توارى عن الأنظار» رواه أحمد.

قال عبدالله بن شقيق: الرجال ثلاثة: رجل عمل حسنة فهو يرجو ثوابها، ورجل عمل سيئة ثم تاب فهو يرجو المغفرة، والثالث: الرجل الكذاب يتمادى في الذنوب ويقول أرجو المغفرة، ومن عرف نفسه بالإساءة ينبغي أن يكون الخوف غالباً على رجائه.

وعن الحسن قال: إن الرجل يذنب الذنب فلا ينساه وما يزال متخوفاً منه حتى يدخل الجنة.

وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفاراً من أبي هريرة رضى الله عنه.
وعن بكر بن عبد الله المزني يقول: لقيت أخًا لي من إخواني الضعفاء فقلت: يا أخي أوصني. فقال: ما أدري ما أقول؛ غير أنه ينبغي لهذا العبد أن لا يفتر عن الحمد والاستغفار وابن آدم بين نعمة وذنب ولا تصلح النعمة إلا بالحمد والشكر ولا الذنب إلا بالتوبة والاستغفار.

قالَ رسول اللهﷺ: «من قال: أستغفرُ اللهَ العظيمَ الذي لا إلهَ إلّا هو الحيَّ القيومَ وأتوبُ إليه غُفِرَ له وإنْ كان فرَّ من الزحفِ» رواه أبو داود الترمذي.
وقد علمنا ﷺ أن سيد الاستغفار أن يقول العبد «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» رواه البخارى.

قال الحسن: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه فلا تملوا من الاستغفار.

وقال الأوزاعى: قال إبليس لأوليائه: من أي شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء. قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ فقالوا: هيهات ذاك شيء قُرِنَ بالتوحيد. قال: لأبُثَّنَّ فيهم شيئاً لا يستغفرون الله منه. قال: فبث فيهم الأهواء.
فالذنوب حجاب بين العبد وربه، وقد جعل الله عزّوجل باب الاستغفار مفتوح لعباده المذنبين المستغفرين فإن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.

وإياك أخى ثم إياك أن يمضى شهر المغفرة، وأنت غافل فتصيبك دعوة دعاها أمين السماء جبريل عليه السلام، وآمن عليها أمين الأرض محمد ﷺ

فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «صعِد النَّبيُّ ﷺ المنبرَ، فقال: آمين، آمين، آمين، فلمَّا نزل سُئل عن ذلك، فقال: أتاني جبريلُ، فقال: رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، ورغِم أنفُ امرئٍ ذُكِرتَ عنده فلم يُصلِّ عليك، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، ورغِم أنفُ رجلٍ أدرك والدَيْه أو أحدَهما فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين» رواه البزار والطبرانى.
فاتقوا الله عباد الله: ولا تجعلوا من ذنوبكم حجاباً بينكم وبين ربكم جل وعلا، وتوبوا إلى ربكم واستغفروه يغفر لكم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
الثلاثاء ١٨ من رمضان ١٤٤٦ هجرياً
الموافق ١٨ من مارس ٢٠٢٥ ميلادياً

اترك تعليقاً