خطبة بعنوان ( ذكرى انتصار العاشر من رمضان ومنزلة الشهيد ) للدكتور محمد جاد قحيف
الحمد لله وحده صدق وعده وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل وكان حقا علينا نصر المؤمنين .. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدالله ورسوله خير من صلى وصام ، وجاهد وقام ، وعبد الله حتى تورمت منه الأقدام ،
اللهم صل وسلم وبارك على إمام المجاهدين، وقائد المنتصرين، وعلى آله وصحبه، و من سار على نهجه واتبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد:
فشَهْرُ رَمَضَانَ شامة العام، وتاج الشهور ودرة الزمان، فكما أن شهر رمضان هو شهر الصيام والقيام ، وقراءة القرآن والصدقة والإطعام ، وغيرها من العبادات والطاعات ، فإن شهر رمضان أيضًا هو شهر الانتصارات، وشهر العزة والكرامة..
وشهر انتصار النور على الظلام، والحق على الباطل، والتوحيد على الشرك، والطهارة والنقاء على الفحش والبغاء ..
تعالوا بنا نقلب صفحات التاريخ لتكون دواء لكل قلب ينفطر كمدًا على نكبات المسلمين، وإلى العين التي تسيل دمعًا من خشية الله، ودمًا على أحوال المسلمين ومآسيهم ..
شهر رمضان شهر انتصارات المسلمين التي ما زالوا يفاخرون بها، ويمنون أنفسهم بالرجوع إلى زمنها ..
ومازلنا نعيش في ظلال هذا الشهر الكريم الذي ارتفعت فيه عبر التاريخ رايات المسلمين عالية خفاقة، فما أعظمه من شهر! وما أعظم فضله! ..
وفي شهر رمضان حقق المسلمون عدة انتصارات قديما وحديثا كانت بمثابة المحطة الفارقة والنقطة الفاصلة في حياة الأمة الإسلامية..
العنصر الأول : من صفحات البطولات في العصر الحديث معركة العاشر من رمضان ..
ففي تاريخ مصر في العصر الحديث أيام لا تنسى، منها العاشر من رمضان عام (1393هـ) الموافق السادس من أكتوبر (1973م)..
لقد عبـر الجيش المصري قناة السويس وحطم خط بارليف وألحق الهزيمة بالقوات الصهيونية، في يوم من الأيام الخالدة التي سطرها التاريخ في أنصع صفحاته بأحرف من نور؛ ففي هذا اليوم جثا التاريخ يسجل مواقف أبطال حرب أكتوبر الذين تدفقوا كالسيل العرم يستردوا أراضيهم، ويستعيدوا كرامتهم ومجدهم؛ فهم الذين دافعوا عن أرضهم وكافحوا في سبيل تطهيرها ، وإعزازها ، فضربوا بدمائهم المثل، وحفظوا لأنفسهم ذكراً حسناً لا ينقطع، وأثراً مجيداً لا يمحى. فبعد أن احتل اليهود سيناء الحبيبة والجولان والضفة الغربية والقدس وغزة في 5 يونيو 1967م أخذوا يتغنون بأسطورة جيشهم الذي لا يقهر، لكن مصر نجحت في أعادة بناء جيشها وجهزته بالعتاد وخيرة جنود الأرض ..
وتمكنت القوات المصرية من عبور قناة السويس ـ التي كانت توصف بأنها أصعب مانع مائي في العالم ـ، وتحطيم أكبر ساتر ترابي ، ألا وهو خط بارليف الذي كان جبلا من الرمال والأتربة، ويمتد بطول قناة السويس في نحو (160) كيلو متر من بورسعيد شمالاً وحتى السويس جنوباً، ويتركز على الضفة الشرقية للقناة، وهذا الجبل الترابي ـ الذي كانت تفتخر به القيادة الإسرائيلية لمناعته وشدته ـ كان من أكبر العقبات التي واجهت القوات الحربية المصرية في عملية العبور والانتصار. وقد اعتبر المؤرخون المعاصرون هذا الحدث أول انتصار عسكري للمسلمين والعرب في العصر الحديث على الصهاينة ..
و شفى الله به صدور قوم مؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم..
ومن عوامل النصر بعد الإيمان بالله التخطيط الجيد مع الأشقاء العرب وبعض المسلمين ، بإرادة صلبة وعزيمة قوية ، وبخطة دقيقة محكمة فاجأت إسرائيل والعالم كله الساعة الثانية بعد الظهر، وانطلقت أكثر من 220 طائرة تدك خط بارليف الحصين ومطارات العدو ومراكز سيطرته، وفي الوقت نفسه سقطت أكثر من عشرة آلاف وخمسمائة فوهة مدفعية وتعالت صيحات: الله أكبر، وتم عبور القناة واقتحام حصون العدو وتحطيمها ، واندحر العدو ، وهُزِم شر هزيمة، وتحررت أرض سيناء المباركة نتيجة لهذه الحرب المجيدة، في هذا الشهر العظيم، شهر عزة المسلمين والذلة للأعداء ..
لقد خاض الجيش المصري البطل تلك المعركة وهو يعلم أنها معركة مصير ؛ لأن هزيمة الجيش المصري فيها لو حدثت فإنه يعني سيادة إسرائيل على المنطقة كلها ؛ وذلك لأن مصر كانت قد انكسرت قبلها بست سنوات انكساراً شديداً بهزيمة يونيو (1967م)، التي أتاحت للعدو الصهيوني أن يقدم نفسه للعالم كسيد وحيد ، وأن جيشه هو الجيش الذي لا يُقهر، وظل بالفعل يعربد في أجواء مصر طوال سنوات ما عُرِفَ بحرب الاستنزاف.
إن الجندي المصري في حرب (1973م) هو نفسه في حرب (1967م) من حيث الشكل والمظهر، ولكنه يختلف من حيث الباطن والجوهر، فالإنسان يُقاد ويتغير من داخله لا من خارجه، ولا يقود الناس في بلادنا شيء مثل الإيمان بالله عز وجل، ولا يحركهم مثل الجهاد في سبيل الله، فإذا حركته بـ (لا إله إلا الله والله أكبر)، وقلت: يا ريح الجنة هبي، وذكَّرتَه بالله ورسوله، وسيرة الأبطال سادتنا العظام: خالد وأبي عبيدة وسعد وطارق وصلاح الدين وقطز وعمر المختار، فقد خاطبت قلبه ونفسه، وأوقدت جذوته، وحركت وبعثت عزيمته، وهنا لا يقف أمامه شيء، إنه يصنع البطولات، ويتخطى المستحيلات، لأنه باسم الله يتحرك، وعلى الله يتوكل، ومن الله يستمد عونه وانتصاره: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق:3)، {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} (آل عمران:126)، {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (آل عمران:160)..(إسلام ويب)(راجع ويكيبيديا)..
لقد أنهت حرب العاشر من رمضان أسطورة الجيش الإسرائيلي المغرور ، وكانت بداية الانكسار للعسكرية الإسرائيلية، ومن ثم كان هذا اليوم العظيم وسيظل ذكرى انتصار العاشر من رمضان مصدر مجد وفخر ، وشرف واعتزاز يحيط بقامة العسكرية المصرية على مر التاريخ، ويظل وساماً على صدر كل مسلم وعربي، كما نرجو أن يكون شفيعاً للشهداء الأبرار الذين ضحوا بأرواحهم ودمائهم لله تعالى، من أجل أن يعيش أبناء وطنهم وينعمون بالعزة والكرامة، فطوبى للشهداء..
يا إخوة الإسلام مرت علينا منذ أيام قليلة ذكرى العاشر من رمضان ، وهي ذكرى غالية على المصريين.. وإن كان العاشر من رمضان قد تزامن فى التاريخ الميلادى مع السادس من أكتوبر عام 1973، فإنه يتزامن أيضا هذا العام مع يوم الشهيد في شهر مارس ..
تاريخ استشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب الجيش المصرى عام 1969 ، أثناء تفقده جبهة القتال لتنفيذ عمليات هجومية خلال حرب الاستنزاف.. إن احتفالنا بذكرى العاشر من رمضان، ويوم الشهيد كلاهما رمزان لمعنى واحد يؤكد أن تضحيات شهداء مصر الأبرار كانت الجسر الذى عبرت عليه مصر للنصر واستعادة الأرض المسلوبة ..
وعلى مر التاريخ، يجرى نهر متدفق من الشهداء ، ولو نظرنا فقط إلى المرحلة الحديثة من تاريخ مصر، فإن المصريين دافعوا عن أرضهم ليس فقط فى الحروب النظامية ولكن ضد المحتل البغيض بدايةً من الحملة الفرنسية ثم التصدى للاحتلال الانجليزى نذكر منهم شهداء دنشواى وشهداء ثورة 19 ومظاهرات الطلبة وغرقهم تحت كوبرى عباس وشهداء العمليات الفدائية فى منطقة القناة وشهداء الشرطة بالإسماعيلية..
وقَدَّم المصريون زهرة شبابهم فى الحروب التى خاضوها ضد العدو الصهيونى بعشرات الآلاف من الشهداء، قدموا أرواحهم فداءً للوطن من حرب فلسطين 48 ثم العدوان الثلاثى فى 56 ثم حرب 67 وحرب الاستنزاف وصولًا لأعظم الانتصارات المصرية 10 رمضان – 6 أكتوبر، ولم يكن انتصارًا عسكريًا عبقريًا فحسب، بل درسًا للعالم كله على قدرة الانسان المصرى على تحقيق ما يراه الآخرون مستحيلاً (بوابة أخبار الأيام)..
العنصر الثاني: منزلة الشهيد عند الله
إن الله قد أعطى الشهيد منزلة عليا ومكانة سميا ، وكرامات عديدة ؛ جعلت من يدخل الجنة يتمنى العودة إلى الدنيا مرات أخرى لما يرى من مكانة وكرامة الشهيد عند ربه .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما مِن أحَدٍ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيا، وأنَّ له ما علَى الأرْضِ مِن شيءٍ، غَيْرُ الشَّهِيدِ، فإنَّه يَتَمَنَّى أنْ يَرْجِعَ، فيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِما يَرَى مِنَ الكَرامَةِ “. متفق عليه بين الإمامين البخاري ومسلم .
وقالَ صلى الله عليه وسلم: إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّها اللَّهُ لِلْمُجاهِدِينَ في سَبيلِ اللَّهِ،ما بيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كما بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فإذا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ؛ فإنَّه أوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعْلَى الجَنَّةِ -أُراهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهارُ الجَنَّةِ . أخرجه الإمام البخاري
ومما جاء أيضا في منزلة الشهيد :
١- الشهيد عند الله في عداد الأحياء المنعمين في الجنة .
لقد صرح القرآن الكريم بأن الشهيد حي بعد رحيله من عناء الحياة ، وأكد على أنه لم يمت ، كما جاء في قوله تعالى : {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران /١٦٩.
وقد جاء في كتب التفسير والسنة تفسيرات عديدة لسبب نزول الآية الكريمة. قال عليه الصلاة والسلام “لمَّا أُصيبَ إخوانُكم بأُحُدٍ جعلَ اللَّهُ أرواحَهم في أجوافِ طَيرٍ خُضرٍ ترِدُ من أنهارِ الجنَّةِ وتأكلُ من ثمارِها وتأوي إلى قناديلَ من ذهبٍ معلقةٍ في ظلِّ العرشِ فلمَّا وجدوا طيبَ مأكلِهم ومشربِهم ومقيلِهم فقالوا من يبلِّغُ إخوانَنا عنَّا أنَّا أحياءٌ في الجنَّةِ نُرزَقُ؟ لئلا يزهَدوا في الجهادِ وينكلوا عن الحربِ فقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ أنا أُبلِغُهم عنكم فأنزلَ اللَّهُ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآيةَ . أخرجه الإمام أبو داود بسند صحيح.وأراوح المؤمنون الشهداء جعلها الله في طير خضر بهية المنظر ، والطير مركبة لها، كما يركب أحدنا سيارة تحمله من مكان إلى آخر .
وقد قيل: إنَّ هذه الآيةَ نَزَلَتْ في حمزةَ ومُصْعبِ بنِ عُمَيْرٍ لما أُصيبَا في غَزْوةِ أُحُدٍ. وقيل: نَزَلَتْ تَنْفيسًا لأَوْلياءِ الشُّهداءِ، وإخْبارًا عن حالِ قَتْلاهُم؛ فإنَّهم كانوا إذا أصابَتْهُم نِعْمةٌ أو سُرورٌ تحَسَّروا وقالوا: نحنُ في النِّعْمةِ والسُّرورِ، وأبْناؤُنا في القُبورِ، فبشَّرَهم اللهُ بأنَّ الشُّهداءَ مُكَّرَمون عندَ اللهِ الدرر السنية .. وأيضا جاء في سبب نزولها ما جاء عن سيدنا جابر بن عبد الله أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لقيَه يا جابرُ ما لي أراكَ منكسِرًا ؟ قلتُ : يا رسولَ اللَّهِ استُشْهِدَ أبي قُتِلَ يومَ أُحُدٍ ، وترَكَ عيالًا ودَينًا ، قالَ : ( أفلَا أبشِّرُكَ بما لقيَ اللَّهُ بِهِ أباكَ ؟ ) قلتُ : بلَى يا رسولَ اللَّهِ قالَ : ما كلَّمَ اللَّهُ أحدًا قطُّ إلَّا من وراءِ حجابِه وأحيى أباكَ فَكَلَّمَهُ كِفاحًا فقالَ : يا عَبدي تَمنَّ عليَّ أُعْطِكَ قالَ : يا ربِّ تُحييني فأقتلَ فيكَ ثانيةً قالَ الرَّبُّ تبارك وتعالَى : إنَّهُ قد سبقَ منِّي أنَّهم إليها لَا يُرجَعونَ قالَ : وأُنْزِلَت هذِهِ الآيةُ : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) الآيةَ أخرجه الإمام الترمذي وسنده حسن .
وقد رُوي أنّ عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو كانا ممّن استشهد يوم أحد، فدفنا في قبر واحد، وكان قبرهما عند مجرى السيل حتى حُفر من أثر جريان الماء، فلمّا حُفر قبرهما لتغييره وُجدا كأنّ موتهما كان قريباً، مع أنّ حادثة موتهما كانت قبل ست وأربعين عاماً . مجلة البحوث الإسلامية ص٣٢١٥ روى الإمام الذهبي أن (أبا طلحة رضي الله عنه غزا في البحر فمات، فطلبوا جزيرة يدفنونه فيها فلم يقدروا عليها إلا بعد سبعة أيام وما تغير). السابق .
٢- الشهيد لا يفتن في قبره
عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي الله صلى الله عليه وسلم: “أن رجلا قال يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد قال كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنةً” (رواه الإمام النسائي ). أفاد الحديث: أن الشهيد لا يفتن ولا يختبره الملكان في قبره ؛ لأن الشهيد قد امتحن بأهوال الحرب وفزعاتها، وتعرضه للموت وهو ثابت حتى استشهد. فكان ذلك امتحانًا كافيًا في الدلالة على قوة إيمانه، وإذا أغار العدو على جماعة من المسلمين سواء أكانوا عسكريين أم مدنيين، وسواء كانوا في معركة أو في مدينة أو في قرية أو في مضارب البدو فقتل منهم أناسًا؛ فإن كل قتيل منهم شهيد، له حكم شهيد معركة. ٣-مغفرة الذنوب وتكفير السيئات . تكفير الذنوب والسيئات لقد وعد الله الذين قتلوا في سبيل الله بالرحمة ومغفرة الذنوب ، ودخول الجنة ، والنّجاة من النّار . قال تعالى : (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). آل عمران /١٩٥. وقوله تعالى: “وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ” آل عمران/ ١٥٧ . ٤-الشهيد في الفردوس الأعلى في الجنة . ومن المنازل العليا للشهيد عند الله أن الله عز وجل رفع من منزلته ، وأعلى مكانته ، وجعل مصيره أعلى مكان في الجنة ، (الفردوس الأعلى) ومن فوقه عرش الرحمن . جاء في الصحيح ” أنَّ أمَّ الرَّبيعِ بنتَ البراءِ وَهيَ أمُّ حارثةَ بنِ سُراقةَ أتتِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالت يا نبيَّ اللَّهِ ألا تحدِّثني عن حارثةَ بنِ سراقةَ وَكانَ قُتلَ يومَ بدرٍ أصابَه سَهمٌ غرْبٌ فإن كانَ في الجنَّةِ صبرتُ وإن كانَ غيرَ ذلِك اجتَهدتُ عليهِ الثُكلَ قال يا أمَّ حارثةَ إنَّها جنانٌ وإنَّ ابنَك أصابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى). أخرجه ابن خزيمة وسنده صحيح. فالشهيد يبعث يوم القيامة حاملا رمز العزة والانتصار (سيفه).. وشهداء عصرنا يأتون يوم القيامة، حاملين ألوية الشرف من مدافع ، ورشاشات ، وقنابل ، ومسدسات ، وغيرها. والجنة أغلى ما في الوجود ، جعلها الله ثمنا للتضحية بالروح والمال وسائر الأعمال الصالحة.
وفي قصة إسلام قاتله جبار بن سلمى : قلت في نفسي: ما فاز؟ أليس قد قتلته؟ حتى سألت بعد ذلك عَنْ قوله، فقالوا: الشهادة فقلت: فاز لعمر اللَّه» (أسد الغابة).
لقد استشهد في موقعة بئر معونة ومعه سبعين من القراء و قدْ حَزِن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حُزنًا شَديدًا، فدَعا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على القاتِلينَ لَمَّا بلَغَه خَبرُهم، وظلَّ يَدْعو عليهم ثَلاثينَ صَباحًا في القُنوتِ .. على رِعْلٍ، وذَكْوانَ، وبَني لَحْيانَ، وعُصَيَّةَ ..؛ لأنَّهم غَدَروا بأصْحابِه الكِرامِ.(الدرر السنية)..
لكل هذه العطايا الربانية التي أكرم الله بها الشهيد تمنى النبي ﷺ أن يقتل في سبيل الله مرة ومرة ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله “..والَّذي نَفسِي بيدِه ، لوَدِدتُ أنِّي أُقتَلُ في سبيلِ اللهِ ثمَّ أُحيَا ، ثمَّ أُقتَلُ ثمَّ أُحيَا ، ثمَّ أُقتَلُ ثمَّ أُحيَا ، ثمَّ أُقتَلُ” رواه الإمام البخاري باختلاف يسير ..
إن الشهيد قد استعلى على محبوباته، وتغلب على شهواته، واسترخص الحياة في نيل شرف الشهادة في سبيل الله. الشوق للشهادة دعا الصحابي ابن أم مكتوم رضي الله عنه وهو ضرير أعمى لا يبصر أن يقول: أي رب !! أنزل عذري فأنزلت (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) [النساء: 95] فله عذر بعدم الجهاد، لكن هل جلس بعد ذلك في بيته، أو ركن إلى الدنيا ومتاعها، كلا بل كان يغزو ويقول: ادفعوا إليَّ اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين.
العنصر الثالث : الانتصار على النفس والشهوات
فالله -عز وجل- فطر النفس البشرية على حب الشهوات والميلِ إليها، وذلك من أجل أن يؤدي دورَه المنوطِ به في هذه الحياة، ومن أجل تحقيق ما يَجلُب له الخير ويَدفع عنه الشر.
فقد جعل مجاهدة النفس والشيطان بالجهاد الأكبر ، ومجاهد الأعداء بالجهاد الأصغر ، كما جعلها الطريق إلى العزة والانتصار على الأعداء الانتصار على النفس والذات ، وهجران المعاصي والشهوات ..
ولنجعل -معاشر الصالحين والصالحات- شهر رمضان فرصة للانتصار على هوى النفس وشهواتها ، وعلى آفات اللسان وأمراض القلوب والرياء والبخل لنجعله شهر انتصار على العجز والكسل والغفلة ..
لنجعله شهر انتصار على الذنوب والمعاصي بكل أصنافها..
عندها نصل إلى ما وصل إليه الأولون، ونحقق مثل انتصاراتهم وأمجادهم..
ثمة انتصارات من نوع آخر؛ ففي شهر رمضان ينتصر الصائم على دواعي الشهوة -وإن كانت مباحة-؛ فالبطون تصوم عن الأكل والشراب، وإن كانت حلالاً، وتصوم الفروجُ عن الشهوة وإن كانت غير ملومةٍ مع الأزواج ،وينتصر الصائم على الشهوة المحرمة كشرب المخدرات والمسكرات ونحوهما، فثمة نفرٌ من المسلمين بُلوا بهذه الأدواء المهلكة، لكنهم في شهر الصيام يهجرونها -ولو على الأقل في نهار رمضان- وهم خليقون بهجرها على الدوام، وعسى الله أن يجعل من شهر الصيام فرصةً لهم على التوبة النصوح والانتصار على دواعي الشهوة التي تورث الذلة والمهانة..
وينتصر جماهيرُ من المسلمين في رمضان على مكر الشيطان وتوهينه وإغوائه في التكاسل عن الصلاة جماعةً مع المسلمين ..
قال سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نفسي ، مرة لي ومرة علي.. إنَّ الإِنسَانَ في صِرَاعٍ مَعَ نَفسِهِ مَا دَامَت رُوحُهُ في جَسَدِهِ، وَلَن يَزَالَ كَذَلِكَ حَتى يَنتَصِرَ عَلَيهَا فَيَفُوزَ وَيَنعَمَ، أَو تَنتَصِرَ عَلَيهِ فَيَخسَرَ وَيَبأَسَ، قَالَ -سُبحَانَهُ- : (وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا. قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 7- 10]..
وختاماً: تُعَدَّ هذه الانتصارات مفخرةً مُشرقة في تاريخنا، ومجدا رائعا من أمجادنا، وستظل محطات فياضة بالعبر والعظات، يتوارثها الأجيال لما فيها من عزة ونصر وتمكين لعباد الله المؤمنين، وتحقيق وعد الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 8]..
وفي عصرنا الحاضر يعتصر المسلم ألما وأسى من شدة المأساة مئات الآلاف من المشردين وألوف من الجرحى، وألوف الشهداء وألوف من الأيتام والأرامل، ومازالت أراض المسلمين تعج بدماء الأبرياء الطاهرة ..
ما يحزن المسلم الحق هو حال كثير من الشباب انغماسهم في المعاصي والمحرمات ، وتعلقهم وانشغالهم بترهات وتفاهات لا تستحق عليها أمة الإسلام النصر..
ولا يحزن المسلم عندما يرى كثرة أعداد الشهداء ، فقد اختارهم الله واصطفاهم للشهادة..
وحق للمسلم أن يحزن، لكن مما يسلّي المسلم أن يتذكر ما أعده الله للشهداء في سبيله من منازل عالية وحياة كريمة كاملة، فالموت في سبيل الله حياة أبدية..
اللهم بارك لنا في شهر رمضان ، وتقبل منا فيه الصيام والقيام وصالح الأعمال.. واللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين في كل بقاع الدنيا وانصر عبادك المستضعفين نصرا يغنيهم عمن سواك يا رب العالمين..