روحانية رمضان.. تجديد للقلب والروح في زحام الحياة

بقلم الدكتور : فارس  أبوحبيب
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف المصرية

 

في زحمة الحياة ، وفي ظل الضغوط اليومية التي تحاصرنا، نجد أنفسنا تائهين بين متطلبات العمل، وهموم المعيشة، والتواصل الاجتماعي المتسارع . نشعر بالإرهاق الجسدي والنفسي، وكأن أرواحنا تحتاج إلى استراحة ، إلى محطة نتوقف عندها لنلتقط أنفاسنا ونستعيد صفاء قلوبنا .

يأتي رمضان ليكون فرصة ذهبية لتجديد الروح، وإعادة التوازن إلى حياتنا، والتخلص من الضغوط التي أرهقتنا. إنه شهر الطاقة الإيمانية، حيث تتنزل الرحمات، وتصفو النفوس، وتُغلق أبواب الشياطين، ويبقى القلب وحده مع الله، ينشد الطمأنينة والسكينة.

فكيف يمكننا استعادة روحانية رمضان في ظل مشاغل الحياة؟
وكيف نجعل هذا الشهر نقطة تحول حقيقية في مسيرتنا الإيمانية؟

أولًا: رمضان.. فرصة ذهبية لإحياء القلب:

يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة: 183).

هذه الآية تؤكد أن الغاية من الصيام ليست فقط الامتناع عن الطعام والشراب، بل تحقيق التقوى، وهي ثمرة لا تتحقق إلا إذا كان القلب حيًا، متصلاً بالله، مستشعرًا رحمته وقربه.

رمضان ينقي القلب من الشهوات والذنوب، ويفتح أمامه أبواب الطاعة والخشوع، فتشعر الروح وكأنها تحلق في أجواء من النور، بعيدًا عن ضوضاء الحياة.

كيف يحيي رمضان قلوبنا؟

1- الصيام يحررنا من سيطرة الشهوات: الصيام لا يقتصر على الامتناع عن الأكل والشرب، بل يعلمنا كيف نتحكم في رغباتنا، فنشعر بأننا أرقى من مجرد أجساد تأكل وتشرب.

2- القرآن ينير القلوب: رمضان هو شهر القرآن، كما قال تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ” (البقرة: 185).

فالقرآن هو وقود الروح، وهو المفتاح لاستعادة النقاء الداخلي.

3- القيام والتهجد.. لحظات الصفاء الإيماني: في قيام الليل، عندما يسجد القلب قبل الجسد، نشعر بالقرب الحقيقي من الله، فتنساب دموع الخشوع، وتتحقق السكينة التي نفتقدها في زحام الأيام.

ثانيًا: كيف نصل إلى روحانية رمضان في ظل مشاغل الحياة؟

كثيرون يتمنون أن يعيشوا الأجواء الروحانية الرمضانية، لكنهم يواجهون مشكلة ضغط العمل، والمسؤوليات الأسرية، والانشغال بأمور الدنيا، فكيف نوازن بين ذلك كله ونحقق التجربة الإيمانية الحقيقية لرمضان؟

1- اجعل قلبك في حالة صيام دائم:

الصيام لا يقتصر على الطعام والشراب، بل ليكن صيامك شاملًا لكل شيء يبعدك عن الله. قال النبي ﷺ: “من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” (رواه البخاري).

👈صم عن الغضب، فلا تترك المشاحنات تسرق منك روحانية الشهر.

👈صم عن الكلام الجارح، وليكن لسانك رطبًا بذكر الله.

👈صم عن الانشغال بالماديات، وخصص وقتًا للتأمل في معاني الصيام.

2. اجعل للقرآن وقتًا ثابتًا يوميًا:

القرآن هو مفتاح القلب، وبدونه لا يمكن أن نشعر بروحانية رمضان لذلك لا تجعل يومك يخلو من ورد قرآني ثابت، ولو صفحة واحدة بتدبر.

3- احرص على صلاة القيام :

حتى لو كنت مشغولًا، لا تحرم نفسك من لذة الوقوف بين يدي الله في الليل. قال رسول الله ﷺ: “عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم” (رواه الترمذي).

4- قلل من الملهيات:

للأسف، أصبحت البرامج والمسلسلات الرمضانية تسرق منا أجمل لحظات الشهر. فهل يعقل أن يكون رمضان فرصة للعودة إلى الله، لكننا نقضيه أمام الشاشات؟

– قلل من متابعة الإعلام غير المفيد.
– استبدل الوقت الضائع بأعمال ترفع إيمانك، مثل الذكر أو سماع محاضرات دينية.
– اجعل من جلسات الأسرة فرصة لحديث إيماني بدلاً من الانشغال بمحتوى غير نافع.

5- استغل وقت السحر في الدعاء:

وقت السحر من أروع اللحظات التي تعيشها الروح، حيث قال النبي ﷺ:
“ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له” (متفق عليه).
تخيل أنك في هذا الوقت تطرق باب السماء بالدعاء، والله يناديك ليستجيب لك!

ثالثًا: كيف نجعل روحانية رمضان مستمرة بعد انتهائه؟

المشكلة ليست في عيش روحانية رمضان، ولكن في المحافظة عليها بعد انتهائه. كيف نحافظ على هذا النقاء القلبي بعد أن ينقضي الشهر؟

1- لا تدع مصحفك يهجر بعد رمضان: اجعل لك وردًا يوميًا ولو صفحة واحدة.

2- استمر في صيام النوافل، مثل صيام الاثنين والخميس، أو الأيام البيض، لتظل متصلًا بروح الصيام.

3- حافظ على قيام الليل حتى ولو ركعتين، فلا تحرم نفسك من لحظات الصفاء مع الله.

4. اجعل العبادات جزءًا من يومك، فليس شرطًا أن يكون رمضان كي تتقرب من الله، ولكن اجعل يومك مليئًا بالطاعات ولو بالقليل.

5- تجنب العودة للعادات التي أفسدت روحانيتك، مثل كثرة الترفيه، والانشغال بالماديات على حساب الروح.

خاتمة:
رمضان ليس مجرد أيام نعيشها، بل هو مدرسة روحية، تعيد إلينا النقاء الذي فقدناه، وتذكرنا بمعنى الحياة الحقيقية، التي لا تقوم فقط على المادة، بل على صفاء القلب واتصاله بالله.

فلنحرص في هذا الشهر الكريم على استغلال كل لحظة فيه، وتجديد علاقتنا بالله، وتطهير أرواحنا من شوائب الدنيا، ولنجعل من رمضان نقطة انطلاق نحو حياة أكثر صفاءً وإيمانًا.

قال الحسن البصري رحمه الله: “إن الله جعل رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا”.

فهل سنكون من السابقين الفائزين، أم من الغافلين الخاسرين؟

اترك تعليقاً