مع الدرس: الحمد لله رب العالمين مجيب الدعوات وكاشف الكربات، والصلاة والسلام على أزكى البريات، وصاحب الدعوات المستجابات سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى الدين أما بعد؛ فيا عباد الله: لقد جعل الله عز وجل شهرَ رمضانَ فرصةٌ سانحة، يتقرب فيها العبد إلى ربه جل وعلا بسائر القربات، وعلى رأسها الدعاء، لأن الدعاءِ شأنه عظيم، ونفْعَهُ عميم، ومكانتَه عاليةٌ في الدين، فما استُجْلِبت النعمُ، وما دُفعت البلايا بمثل الدعاء، لأنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبودية، ولعل هذا هو السر في وجود آية الدعاء بين آيات الصيام، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾(البقرة: ١٨٦)، ولقد أخبر سيدنا رسول الله ﷺ أن دعاء الصائم مقبول وأن دعوته لا ترد؛ فعن أنس أن النبي ﷺ قال: «ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
والحديث يدل على أن الدعاء يكون قبل الإفطار ووقت الإفطار وبعده..
قال البيضاوي: اعلم أنه تعالى، لما أمرهم بصوم الشهر، ومراعاة العدة على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقَّبه بهذه الآية الدالّة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجازيهم على أعمالهم، تأكيداً وحثّاً عليه.
أيها الصائمون: إن الدعاء فيه معنى الثناءِ على الله عز وجل والدعاء سمةُ العبوديةِ، واستشعارُ الذلةِ، فيطلبَ الداعي من ربه تبارك وتعالى ما ينفعُه، ويسأله أن يكشف عنه ما يضره، فالدعاء هو العبادة، قال النبي ﷺ: «الدعاء هو العبادة» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه ابن ماجه.
والدعاء سبب لدفع غضب الله؛ قال النبي ﷺ: «من لم يسألِ اللهَ يَغْضَبْ عليه» رواه أحمدُ، والترمذيُّ، وابن ماجةَ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. الله يغضب إن تركت سؤاله
وبنى آدم حين تسأله يغضب كذلك فإن الدعاء سبب لانشراح الصدر، وتفريج الهم، وزوال الغم، وتيسير الأمور، وصدق القائل؛ وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيّقٌ عليَّ فما ينفك أن يتفرّجا وربَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُهُ أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا
قال ابن تيمية: كلّما قوي طمع العبد في فضل الله، ورحمته، لقضاء حاجته ودفع ضرورته؛ قويت عبوديتُه له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديتَه له فَيأْسُهُ منه يوجب غنى قلبه.
ولقد ذكر الله عز وجل دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فى القرآن الكريم من ذلك:
• دعاء نوح عليه السلام: ﴿ونوحًا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم﴾(الأنبياء: ٧٦)، ومن دعائه: ﴿رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾(نوح٢٨)
• دعاء داود عليه السلام وقومه عندما برزوا لجالوت وجنوده: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾(البقرة:٢٥٠)،
• دعاء سليمان عليه السلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾(ص: ٣٥)، وقال سيدنا رسول الله ﷺ دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(الأنبياء: ٨٧)، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له» رواه الترمذي.
ولقد ورد الكثير من الأدعية فى السنة النبوية مما يدلنا على أهمية الدعاء من ذلك: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ». «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى». «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي». «اللهم انفَعْني بما علَّمتَني وعلِّمْني ما ينفَعُني وزِدْني عِلمًا». «اللهم إني أعوذُ بكَ منَ الهمِّ والحزَنِ، وأعوذُ بكَ منَ العجزِ والكسلِ، وأعوذُ بكَ منَ الجُبنِ والبخلِ، وأعوذُ بكَ مِن غلبةِ الدَّينِ وقهرِ الرجالِ». «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، والجُبْنِ والبُخْلِ والهَرَمِ، وأَعُوذُ بكَ مِن عَذابِ القَبْرِ، وأَعُوذُ بكَ مِن فِتْنَةِ المَحْيا والمَماتِ».
• ومن دعاء أهل الإيمان: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾،
معاشر الصائمين: لقد كان هناك رجل من أصحاب النبي ﷺ من الأنصار يكنى أبا معلق، وكان تاجراً يتجر بمال له ولغيره، يضرب به الآفاق، وكان ناسكًا ورعاً، فخرج مرة، فلقيه لص مقنع في السلاح فقال له: ما معك فإني قاتلك، قال: فما تريد إلا دمي فشأنك والمال، قال: أما المال فلا، ولست أريد إلا دمك، قال: أما إذا أبيت فذرني أصلي أربع ركعات، قال: صل ما بدا لك، فتوضأ، ثم صلى أربع ركعات، وكان من دعائه في آخر سجدة أن قال:« يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعالًا لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني»، فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه، فلما بصر به اللص؛ أقبل نحوه، فطعنه، فقتله، ثم أقبل إليه، فقال: قم، فقال: من أنت بأبي أنت وأمي فقد أغاثني الله بك اليوم، فقال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت بدعائك؛ فسمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني؛ فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث، فقيل لي: دعاء مكروب، فسألت الله أن يوليني قتله..
والقصة ذكرها ابن أبي الدنيا في كتابه مجابي الدعاء، وذكرها ابن القيم في الجواب الكافي.
وقد ذُكر أن هذا الصحابي قد دعا الله باسمه الأعظم فاستجاب له.
قال الحسن: فمن توضأ، وصلى أربع ركعات، ودعا بهذا الدعاء؛ استجيب له مكروباً كان، أو غير مكروب.
– وأقول: إن المراد بالاسم الأعظم حالة يكون عليها الداعي، وهي تشمل كل من دعا الله تعالى بأي اسم من اسمائه، إن كان على تلك الحال.
– قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: المراد بالاسم الأعظم: كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به مستغرقاً بحيث لا يكون في فكره حينئذٍ غير الله تعالى، فإن من تأتَّى له ذلك: استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق، وعن الجنيد، وعن غيرهما.
معاشر الصائمين: اعلموا أن للدعاء من الفضائل والفوائد ما لا يُعد ولا يحصى، يكفى أن الدعاء طاعة لله وامتثال لأمر الله عز وجل قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾(غافر: ٦٠)، وقال تعالى: ﴿وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾(الأعراف:٢٩)، والدعاء يفتح للعبد باب المناجاة.
– قال بعض العُبَّاد: إنه لتكون لي حاجةٌ إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح لي من مناجاته، ومعرفته، والتذلل له، والتملق بين يديه، ما أحبُّ معه أن يُؤخِّر عني قضاءها، وتدوم لي تلك الحال.
– والدعاء دليل على التوكل على الله: فَسِرُّ التوكل على الله وحقيقتُهُ هو اعتماد القلب على الله وحده،
وأعظم ما يتجلى التوكل حال الدعاء؛ ذلك أن الداعي حال دعائه مستعين بالله، مفوض أمره إليه وحده دون سواه، ثم إن التوكل لا يتحقق إلا بالقيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطَّلها لم يصح توكله، والدعاء من أعظم هذه الأسباب إن لم يكن أعظمها.
– والدعاء محبوب لله عز وجل؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه- مرفوعاً: «سلوا الله من فضله؛ فإن الله يحب أن يُسأل».
– والدعاء سلامة من الكبر؛ قال تعالى: ﴿وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين﴾(غافر: ٦٠)،
– قال الإمام الشوكاني: دلت الآية الكريمة على أن الدعاء من العبادة؛ فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال: ﴿إن الذين يستكبرون عن عبادتي﴾، – والدعاء أكرم شيء على الله؛ فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال:« ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء».
فاتقوا الله عباد الله: وأكثروا من الدعاء فى هذا الشهر الكريم، وتوسلوا إلى ربكم جل وعلا وسلوه أن يعتق رقابكم من النيران، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه راجى عفو ربه أيمن حمدى الحداد الأربعاء ٥ من رمضان ١٤٤٦ هجرياً الموافق ٥ من مارس ٢٠٢٥ ميلادياً