خطبة بعنوان ( ياباغى الخير أقبل ) لفضيلة الشيخ ياسر عبدالبديع
22 فبراير، 2025
خطب منبرية

خطبة بعنوان ( ياباغى الخير أقبل )
لفضيلة الشيخ : ياسر عبدالبديع
خطبة الجمعة القادمة 28 فبراير 2025 م- 29 شعبان 1446 هجرية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ
ياباغى الخير أقبل
العنصر الأول : فضائل شهر رمضان
لقد خص الله عز وجل شهر رمضان بفضائل وخصائص عن بقية الشهور، ومن ذلك:
– أن الله عز وجل جعل صومه الركن الرابع من أركان الإسلام، كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه. البقرة / 185، وثبت في “الصحيحين” (البخاري ( 8 )، ومسلم ( 16 ) من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبد الله ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.
– أن الله عز وجل أنزل فيه القرآن، كما قال تعالى في الآية السابقة: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ البقرة / 184- 185.
– أن الله جعل فيه ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ القدر / 1-5. وقال أيضا: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ الدخان / 3.
– أن الله عز وجل جعل صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا سببا لمغفرة الذنوب ، كما ثبت في “الصحيحين” البخاري ( 2014 )، ومسلم ( 760 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. وفيهما البخاري ( 2008 )، ومسلم ( 174 ) أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.
– أن الله عز وجل يفتح فيه أبواب الجنان، ويُغلق فيه أبواب النيران، ويُصفِّد فيه الشياطين، كما ثبت في “الصحيحين” ( البخاري ( 1898 )، ومسلم ( 1079 ) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين.
– أن لله في كل ليلة منه عتقاء من النار، روى الإمام أحمد (5/256) من حديث أبي أُمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لله عند كل فطر عتقاء . قال المنذري: إسناده لا بأس به. وصححه الألباني في “صحيح الترغيب” (987).
وروى البزار (كشف- 962) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة _ يعني في رمضان _، وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة صححه الألباني في “صحيح الترغيب” ( 1002 ).
– أن صيامَ رمضان سببٌ لتكفير الذنوب التي سبقته من رمضان الذي قبله إذا اجتنبت الكبائر، كما ثبت في “صحيح مسلم” (233) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
– أن صيامه ثم صيام ستة شوال كصيام الدهر يعدل صيام عشرة أشهر، كما يدل على ذلك ما ثبت في “صحيح مسلم” (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر .
– أن من قام فيه مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة، لما ثبت عند أبي داود (1370) وغيره من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة
– أن العمرة فيه تعدل حجة ، روى البخاري (1782)، ومسلم (1256) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: لم يكن لنا إلا ناضحان، فحج أبو ولدها وابنها على ناضح، وترك لنا ناضحا ننضح عليه، قال: فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرة فيه تعدل حجة ،وفي رواية لمسلم: حجة معي. والناضح هو البعير يسقون عليه لذلك قال النبى فى الحديث الذى رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ)) وقد جاء التصريح في حديث رواه الإمام أحمد في مسنده بأن هذا المنادي ملَك من ملائكة الله وأنه يتكرر كلَّ ليلة حتى ينقضي الشهر ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((.. وَيُنَادِي فِيهِ مَلَكٌ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَبْشِرْ يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ حَتَّى يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ)) ولئن كان أهل الإيمان لا يسمعون صوت هذا المنادي إلا أنهم من ندائه على يقين ؛ لأن الذي أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .
فلنستشعر في ليالي رمضان المباركات هذا النداء المبارك ، هذا النداء العظيم ، ولنفعِّل هذا النداء في حياتنا ، ولنتأمل في أحوالنا وسلوكنا ، ولننظر في حالنا من أي أهل النداءين ؟ فإنهما نداءان وكل منهما مقصود به فئة من الناس ” يا باغي الخير .. يا باغي الشر ” ؛ وفي هذا دلالة أن قلوب الناس على قلبين : قلب يبغي الخير ويطلبه ويبحث عنه ويتحراه ، وقلب آخر – والعياذ بالله – يبحث عن الشر ويتحرك في طلبه وينبعث في البحث عنه ، فليسوا سواء ؛ ليس من كان قلبه قلباً صالحاً مستقيماً يطلب الخير ويتحراه كمن قلبه -والعياذ بالله- قلباً شريراً لئيماً يبحث عن الشر ويتحراه .
فمن كان قلبه ذلك القلب الكريم الذي يتحرى الخير ويطلبه فليغنم شهر الخيرات : بالإقبال على الله ، وبالمزيد من الطاعات ، وبالاستكثار من العبادات ، وباغتنام موسم الخيرات بالإكثار من الرغائب والمستحبات ، وفي الحديث القدسي يقول الله جل وعلا : ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)) فالمقبِل على الخيرات يجتهد في الفرائض أولاً تبكيراً إليها ومزيد اهتمامٍ بها وسعياً في تتميمها وتكميلها ، ثم بعد ذلك يوسع في باب الرغائب والمستحبات اغتناماً واستكثارا .
وما من شك أن هذا النداء العظيم المتكرر كلَّ ليلة من ليالي رمضان يُعَدُّ حافزاً عظيماً للهمم والعزائم في شهر الخيرات ؛ ينادي المقبلين على الخيرات تحفيزاً لهم وشحذاً لهممهم لاستباق الخيرات ؛ سواء كانت متعلقة بالنفس كالمحافظة على الواجبات وأداء الصلاة والصيام وغيرها من الواجبات على أتم الوجوه وأفضلها والمنافسة في أداء النوافل والسنن واجتناب المحرمات والمكروهات ، أو كانت متعلقة بالغير كبذل النصيحة لهم وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران وسائر الناس ، وكالإنفاق في سبيل الله ومساعدة الفقراء والمحتاجين ، وكفّ الأذى عن الناس ومساعدتهم بالمال والبدن والجاه .
وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أكملَ هدي وأحسنَ هدي ، يقول ابن القيم رحمه الله مبيِّناً هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة والإحسان إلى الناس : (( كان صلى اللَّه عليه وسلم أعظمَ الناس صدقةً بما ملكت يدُه ، وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه للهِ تعالى ولا يستقِلُّه، وكان لا يسأله أحدٌ شيئاً عنده إلا أعطاه قليلاً كان أو كثيراً ، وكان عطاؤه عطاء مَنْ لا يخاف الفقر ، وكان العطاءُ والصدقةُ أحبَّ شيءٍ إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظمَ من سرور الآخذِ بما يأخذه، وكان أجودَ الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة ، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه، وتارة بلباسه .
وكان ينوّع في أصناف عطائه وصدقته، فتارة بالهبة، وتارة بالصدقة ، وتارة بالهدية، وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمنَ والسلعة جميعاً كما فعل ببعير جابر، وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها، تلطُّفاً وتنوُّعاً في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن ، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله ، فيُخْرِجُ ما عنده، ويأمُرُ بالصدقة ويحضُّ عليها ويدعو إليها بحاله وقوله ، فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء، وكان مَنْ خالطَه وصحِبَه ورأى هديَه لا يملك نفسه من السماحة والندى، وكان هديه صلى اللَّه عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقةِ والمعروفِ، ولذلك كان صلى اللَّه عليه وسلم أشرحَ الناس صدراً ، وأطيبَهم نفساً ، وأنعَمهم قلباً ، فإن للصدقة وفعلِ المعروفِ تأثيراً عجيباً في شرح الصدر))
ومن شواهد ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ))
ومن أبواب الخير التي رغب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم تفطير الصائم وتجهيز الغازي في سبيل الله ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا أَوْ جَهَّزَ غَازِيًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ))
فالثواب في هذا الشهر عظيم والأجر كبير وأبواب الخير واسعة فليضرب كل بسهم فيها والله تعالى يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] ، وإذا فعل ذلك فليخلص لله النية ولْيَحتسب الأجر عنده ولْيُداوم على ذلك ما استطاع ، وليحرص على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وموافقة هديه في كل أمر ، وليطلب العون من الله وحده على فعل الخيرات والمسابقة في أداء الطاعات والإكثار من الحسنات ، ومن الدعوات العظيمة التي علَّمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ولها نفع عظيم في هذا الباب ما رواه ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا))(9). أم آن لنا أن نطهر قلوبنا ونستقبل شهر رمضان وما فى قلوبنا غلا أو حقدا من أحد كما قال ابن مسعود رضى الله عنه سئل عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : كيف كنتم تستقبلون رمضان ؟ فقال : ما كان أحدنا يجرؤ على استقبال الهلال ، وفي قلبه ذرة حقد على أخيه المسلم .
العنصر الثانى : رمضان شهر التوبة ونقاء القلوب
وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون النور/31، ويقول أيضاً: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً التحريم / 8، فالتوبة ليست خاصة بالمذنب الجاني فحسب، بل هي عامة في حق جميع المؤمنين الذين يريدون الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
فإن من أعظم نعم الله عز وجل على عباده أن جعل باب التوبة مفتوحاً للتائبين، وجعله فجراً تبدأ معه رحلة العودة إلى الله جل جلاله بقلوب منكسرة، ودموع منسكبة، وجباه خاضعة، وأعناق متذللة.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها أخرجه مسلم (4/2113)، (2759).
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه أخرجه مسلم (4/2076) (2703).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يقبل توبة العبد مالم يغرغر أخرجه أحمد (2/132،1532)، والترمذي (3537)،
فيا أخي الكريم: اعلم إن رمضان فرصة عظيمة للتوبة إلى الله،والرجوع إليه، وتجديد العهد مع خالقك سبحانه وتعالى، واحذر أن تكون من المغبونين وذلك إن انقضى رمضان ولم يغفر لك عياذاً بالله من ذلك.
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل فقال: يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأُدخل النار فأبعده الله. قل: آمين.فقلت: آمين ….. أخرجه ابن حبان في “صحيحه” والطبراني في “الكبير “، انظر “صحيح الجامع” (75).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له … أخرجه الترمذي (3545)
فهذا شهر رمضان، شهر بركة وخير، حباه الله بفضائل عديدة، وخصال حميدة، فهو شهر القرآن، وشهر الإحسان، وشهر التوبة وتكفير الذنوب والخطايا، فيه تنزل الرحمات، وترفع الدرجات، وتفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفد فيه مردة الشياطين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ، وفي رواية مسلم: فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين رواه البخاري (1898)، ومسلم (1079).
فيا أخي الحبيب: جد في التوبة، وسارع في الرجوع والأوبة، فليس للعبد مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحب قرار إلا يوم المزيد، فبادر بالتوبة والفرار إلى الله، قبل أن تقضي عليك الذنوب، و تتلفك المعاصي والآثام، فاستيقظ من سباتك، وأفق من غفلتك، فالأيام تمضي وتمر، فاحذر أن تكون من المغبونين، بزهدك في جنات النعيم، فسارع إلى التوبة والندم على ما فات.
فهذا سيد الأولين والأخرين رسولنا صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،لا يفتر أن يتوب إلى الله ويستغفره في اليوم مرات عديدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة أخرجه البخاري (6307)، وعن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة أخرجه مسلم (2702).
فليكن لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، فلا تؤجل التوبة لا تسوف بها، ودع عنك “سوف” وأخواتها.
نعم وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور آل عمران /185، فيا مضيعاً يومه وقد ضيعت أمس، قتلت نفسك بالمعاصي والذنوب، ارجع إلى مولاك، واندم على ما فرطت في جنب الله، و أسكب الدمع على أعتاب التوبة،وتذلل إلى ربك واطلب منه الإقالة، تجده فرحاً بك مسروراً.
نعم إذا تبت إلى الله ورجعت إليه فرح بك فرحاً شديداً، أشد من فرح ذلك الرجل الذي عادت إليه دابته بعدما يئس من رجوعها، أتدري ما قصة هذا الرجل؟
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فأفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك، إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح رواه البخاري (6309)، ومسلم واللفظ له (2747).
أرأيت يا عبد الله كيف فرح الله بك حين تبت ورجعت إليه، وأنت من أنت؟ أنت العبد الفقير الذليل الضعيف الذي ليس له حول ولاقوة، وهو من هو؟ هو الله ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، بيده ملكوت كل شيء سبحانه وتعالى.
فيا أخي لا تقنط من رحمة الله، واعلم أن الله جل جلاله لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا عبد مذنب جاء إليه أن يقبله فهو سبحانه وتعالى واسع العفو، كثير الغفران، غافر الذنب وقابل التوب، سبحانه، وسعت رحمته كل شيء.
عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة أخرجه الترمذي، وحسنه الألباني في “الصحيحة” (1/249-250) (127)، و”المشكاة “(4336).
فيا أخي:
يا من تاب الله عليك من ترك الصلاة إياك والتفريط في أدائها بعد ذلك. ويا من عافاك الله من سماع الأغاني الماجنة، ومشاهدة الأفلام الفاسدة، والمسلسلات الهابطة، إياك والرجوع إلى مثل تلك الذنوب العظيمة، والبلايا الخطيرة. ويا من أنعم الله عليك بترك شرب الدخان وعيره من الخبائث إياك أن تعود إليها مرة أخرى بعد أن أنقذك الله من شرها، وشر عواقبها الوخيمة. ويا من يصوم عن ما أحل الله له، ولا يصوم عن ما حرم الله عليه من أكل الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، بادر بالتوبة قبل أن تفوت الفرصة.
العنصر الثالث : رمضان شهر العفو والصفح
ويُقصَد به: الصفح عمن أخطأ أو تجاوز حَدَّهِ؛ كما تعني: العفو عند المقدرة، والتجاوز عن أخطاء الآخرين، ووضع الأعذار لهم، والنظر إلى مزاياهم وحسناتهم بدلًا من التركيز على عيوبهم وأخطائهم؛ يقول الله عز وجل آمرًا نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بالعفو عن الناس والصفح والتسامح: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، وقال له سبحانه: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وقال له تعالى: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 13]
ولقد ضرب النبيُّ صلى الله عليه وسلم أروعَ المثل، وقدَّم أعظمَ الصور في العفو والسماحة والتسامح؛ فأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم جاءت متطابقة تمام التطابق، فلا تناقضَ بين ما يدعو إليه وبين ما يُطبِّقه.
وصور تطبيقه لهذا الخُلُقِ الكريم شملت كلَّ مَن تعامل معهم، فوجدناها مع أصحابه وأعدائه، وفي السلم والحرب، ومع أهل بيته وجيرانه، وكذا في البيع والشراء والقضاء، والأخذ والعطاء.
أرسى نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم مبادئ السماحة والتسامح بين الناس من غير ذلٍّ، ولا إخلال بعزة الإسلام وكرامة الإنسان، وضرب المثل الأعلى في العفوِ عمن ظلمه، وإعطاء من حَرَمَهُ، وصلة مَن قطعه، كل ذلك تسامحًا منه، وتواضعًا لربه، ورحمةً بالناس، وإحسانًا إليهم.
ومَن يطالع السيرة النبوية، ويقلب صفحاتها يجد أنها مليئة بتسامح النبي صلى الله عليه وسلم وعفوه في مواقف شتى، وصورُ عفوِهِ وتسامحه صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تُحصى، وأبلغ من أن تُعَدُّ، ولكني سأذكر لكم منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
عفوه صلى الله عليه وسلم وسماحته عن أبي سفيان الذي فعل ما فعل، ونافح كثيرًا محاربًا لله ولرسوله في ميادين شتى:
* فأدمى كبد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحُدٍ.
* وحَزَبَ الأحزاب يوم الخندق ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* وناصر القبائل ضده عليه الصلاة والسلام.
وعلى الرغم من كل ذلك، يعفو عنه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، بل ويمنُّ عليه بما يفخر به، وما كان يطمع في أكثر من أن يَهَبَ له حياته، ولا يضرب عنقه، جزاءَ ما آذى به المسلمين.
بل، وإن أبلغ ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم معه بعد أن منحه العفو، أن أعطاه وسامًا عظيمًا، ونيشانًا يفخر به بين الملأ من الناس؛ حيث أعلن على الملأ، وقال: ((ومن دخل دار أبي سفيان، فهو آمن)).
* ويتجلى العفو عند المقدرة في أروع صوره عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة، حينما دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرًا، وجلس في المسجد والناس حوله، والعيون شاخصة إليه ينتظرون ما هو فاعل اليوم بمشركِي قريش الذين آذوه، وآذوا أصحابه وعذبوهم، وأخرجوه من بلده وقاتلوه، ومنعوه من إبلاغ دين الله بينهم، وحالوا دون إيصال الدعوة إلى غيرهم، فكفروا هم وصدوا غيرهم عن سبيل الله.
وها هم اليوم قادةُ قريش وساستُها بين يديه وأمامه لا يملكون حولًا ولا قوة، ومصيرهم بأمرٍ يأمره لا ملجأ لهم ولا منجى، فماذا فعل بهم نبي العفو والصفح والتسامح صلى الله عليه وسلم، هل رد عليهم بالعنف والغلظة لمَّا قدر عليهم؟ هل أخذ بيوتهم؟ أو انتهك أعراضهم؟ هل سلب أموالهم؟ أو سفك دماءهم؟ هل ذبح نساءهم ويتَّمَ أطفالهم؟ كلا والله، وإنما يظهر لهم مكارم أخلاقه وعفوه، فيقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لهم الرحيم الطيب الذي لم يكن انتقاميًّا: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
* وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم فعفا عنه ولم يعاقبه.
* كذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن اليهودية التي أهْدَتْهُ الشاة المسمومة؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: ((أن امرأةً يهوديةً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجِيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك، فقالت: أردتُ لأقتلك، فقال: ما كان الله ليسلِّطَكِ عليَّ، فقال الصحابة: أَلَا نقتلها يا رسول الله؟ فقال لهم: لا، قال: فما زلتُ أعرفها في لَهَوَاتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)).
* بل وبلغ من حِلْمِهِ وعفوه صلى الله عليه وسلم أنه يزيد في العطاء لمن أغلظ له في قوله؛ وفاءً له وحسن قضاء؛ فروى البخاري عن أنس بن مالك قال: ((كنتُ أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فَجَبَذَ بردائه جَبْذةً شديدةً، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثَّرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمدُ، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء)).
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه، فأغلظ، فهمَّ به الصحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالًا، اشتروا له بعيرًا، فأعطوه إياه؛ فإن من خياركم أحسنكم قضاءً)).
* ولا يقف خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حدِّ العفو والصفح، بل كان يدعو بالهداية لمن آذاه؛ فلقد لقيَ عليه الصلاة والسلام ما لاقاه من قومه من سوء المعاملة والتحريض عليه، وادَّعوا زورًا وبهتانًا بأنه شاعر، وأنه كاهن، وأنه ساحر، وغير ذلك من التهم الباطلة التي هو منها صلى الله عليه وسلم بَراء، بل وصل الأمر إلى التعدي عليه وضربه، حتى شجَّ وجهه، وكُسرت رباعيته، وسالت دماءه على وجهه، ومع هذا، لم ينتقم لنفسه، بل قابل إساءتهم بالصبر والشفقة، والإحسان والمودة والرأفة؛ قال له الصحابة رضوان الله عليهم: ((ادعُ عليهم يا رسول الله، فقال الهادي البشير، ربان العفو، وقائد الصفح، ورائد التسامح: إن الله تعالى لم يبعثني طعَّانًا ولا لعَّانًا، ولكن بعثني داعيةً ورحمةً، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون))، وانظروا كيف جمع عليه الصلاة والسلام في هذه الكلمات أربعة مقامات من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه؛ أولها: عفوه عنهم، وثانيها: استغفاره لهم، وثالثها: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، ورابعها: استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال: ((اهدِ قومي)).
وعندما عصت قبيلة دَوسٍ في بداية أمرها أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ((يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت، فادعُ الله عليها، فقيل: هلكت دوس، فقال ملك العفو والتسامح عليه الصلاة والسلام: اللهم اهْدِ دوسًا وائتِ بهم)).
وعندما خرج عليه الصلاة والسلام للطائف لدعوة أهلها إلى الله، قابلوه بالطرد والرجم بالحجارة، فيخرج مهمومًا حزينًا، ليس لأنهم طردوه، ولكن لأنهم لم يقبلوا دعوته، وبعد لحظات يأتيه جبريل ويقول: ((يا محمد، إن الله سمع قول قومك وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم… فقال ملك الجبال: إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين))، فماذا كان جوابه ورده عليه الصلاة والسلام؟ قال: ((بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئًا)).
هذا هو قدوتنا، وهذا هو أُسْوَتُنا، صلى الله عليه وسلم، صاحب العفو الكبير، والصفح العظيم.
وأما من تربَّى على يده من صحابته الكرام، فقد كان هذا هو ديدنُهم ومنهجهم؛ فعندما خاض مِسْطح بن أثاثةَ في عِرض الطاهرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكان أبوها أبو بكرٍ الصديق ينفق على مسطح؛ لأنه ابن خالته، وكان يُحسن على القريب وعلى البعيد، فأقسم ألَّا ينفقَ عليه بعد خَوضِهِ بعِرض ابنته؛ فأنزل الله سبحانه في حقه آيات: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22].
فأقسم أبو بكر ألَّا يقطع النفقة عليه، بعد أن أقسم ألَّا ينفق عليه استجابةً لأمر الله ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعندما دخل رجلٌ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأساء معه الأدب والكلام، وقال: “إنك لا تعطينا الجَزْل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ به، فقال ابن قيس: يقول الله: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، فما تجاوزها عمر”؛
الدُّعَاءِ
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ