
إعداد فضيلة الشيخ: أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة ١٥ شعبان لعام ١٤٤٦هـ.
الموافق ١٤ من فبراير لعام ٢٠٢٥
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد
يأتي شهر شعبان كل عامٍ حاملًا معه ذكرى حدث كبير له في النفس منزلة، وفي العقل عبرة؛ ألا وهو حدث “تحويل القبلة”؛ الذي كان من الأهمية بحيث ثارت بسببه الأقاويل، وتزعزعت بعض النفوس الضعفية بعد إذ هداها الله! فنقول وبالله التوفيق:-
إن تحويل القبلة حادث جلل كان له تأثيره القوي في مصير الأمة الإسلامية ونفوس المؤمنين، ونفوس الجاحدين من اليهود والمشركين والمنافقين، وهو حادث غير وجه التاريخ بحق، ولقد كان حدثًا عظيمًا، فيه من الدروس والعبر الكثير، والتي ينبغي الوقوف معها للاستفادة،
تحويلُ القِبْلَةِ: اختبارُ الاستجابةِ لأمرِ الله تعالى
في مشهد تحويل القبلة تجد الطاعة الكاملة والاستجابة التامّة من صحابة النبي (ﷺ ورضي عنهم أجمعين)، رغم عِظَمِ الموقف ومفاجأته، وهي طاعة مبصرة، واستجابة عن يقين في الله عزّ وجلّ تليق بعظمته، وثقة في رسوله ﷺ تليق بنبوّته، قالوا: (آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران: ٧].
من ثَمَّ تظل طاعةُ الله ورسوله نظريةً ما لم تُترجم إلى مواقف عملية تشهد لأصحابها بمدى الإخلاص واليقين. وقد أورد القرآن الكريم مشاهد عدة لأقوام عصوا رسلهم وخالفوا أمرهم رغم ما جاءهم من آيات تنفِّر من تلك المخالفة؛ إذ ما من رسول أُرسل إلا وله حق الطاعة على قومه؛ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ…) [النساء: ٦٤]، (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ…) [يس: ٢٠].
أما أصحاب نبينا ﷺ فقد التزموا النهج الرباني القويم، مستجيبين لله وللرسول، مخالفين من سبقهم من الأمم التي اتبعت أهواءها فتفرقت بهم السُبل؛ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: ٦٣]. قالوا (رضوان الله عليهم) قبيل بدر: «والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرتَ بنا إلى بَرْك الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه».
روت كتب السنة أنه: (حضر الصلاة مع رسول الله ﷺ إلى القبلة الجديدة رجال ونساء وشباب وشيبان، فأرسل النبي ﷺ شابًّا من الأنصار يقال له «عبَّاد بن بِشر» فقال: «اذهب إلى بني سلمة في مسجد قباء وأخبرهم أن القبلة قد حُوِّلت، فليتحولوا في الصلاة إلى البيت الحرام»، فأتاهم عبَّاد (رضي الله عنه) وهم يصلون الفجر، ووافاهم في المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليتُ مع رسول الله ﷺ قِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت، كانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة).
دار الصَحبُ الكرامُ دورةً بلغت (١٨٠) درجة إلى الجنوب كي يتجهوا إلى مكة بعد أن كانت وجهتهم إلى الشمال نحو بيت المقدس، كلُّ هذا أثناء الركوع؛ وبهذا نجحوا في الاختبار الذى امتحن به الله إيمانهم؛ (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله…) [البقرة: ١٤٣].
وإن هذا لديدنهم (رضوان الله عليهم) في كل ما جاء به النبي ﷺ، فها هو أبو بكر (رضي الله عنه) يقول: «لستُ تاركًا شيئًا كان رسول الله ﷺ يعمل به إلا عملتُ به، وإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ». وها هو عمر (رضي الله عنه) الذي جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله وقال: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك».
إن هذا المشهد، مشهد تحويل القبلة واستجابة الصحابة (رضوان الله عليهم) لأمر النبي ﷺ فيه، يدعونا لإعادة النظر في عبادتنا وطاعتنا، بل في عقيدتنا عينها، فإنها لسبيل واحدة، وإنه لإله واحد لا يقبل شركًا ولا هوًى، وإن الحياة الحقيقية هي التي تكون خالصة لله، فلا حكم إلا له، ولا استعانة إلا به، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه (سبحانه).
يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله): «الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، ومن لم تحصل له هذه الاستجابة، فلا حياة له وإن كانت له حياةٌ بهيميةٌ مشتركةٌ بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان؛ ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابةً لدعوة الرسول ﷺ». [يتبع إن شاء الله].
ولقد أبان القرآن الكريم عن شيء من حِكمة هذا تحويل القبلة وما نجم عنه؛ بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله ۗ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: ١٤٣).
جاء في تفسير ابن كثير: يقول تعالى: “إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولًا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة؛ ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي: مرتدًا عن دينه، وإنْ كان هذا الأمر -أي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة- عظيمًا في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول ﷺ، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؛ فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك؛ بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكًّا، كما يحصل للذين آمنوا إيقانٌ وتصديقٌ”
* تلك الذكرى التى جعل الله للمسلمين فيها شخصيةً مستقلةً، وكيانًا خاصًّا، وذاتيةً منفردةً وذلك بتحويل قبلتهم من المسجد الأقصى إلى بيت الله الحرام،
تلك الذكرى التى كشفت القناع عن وجوهٍ كثيرةٍ، وبينت من يتبع الرسول ﷺ حقًّا ويصدق كل ما جاء به، ومن ينقلب على عقبيه ويرتد والعياذ بالله، فقد اختلت الموازين عند اليهود الذين كان يعجبهم أنه ﷺ يتجه إلى قبلتهم وكأنه يتبعهم،
واختلت الموازين عند المشركين لَما أُعلن المسجد الحرام وهم حوله قبلة لأمة الإسلام؛ إيذانًا بعودة المسلمين إليه وسلبه من أيدي هؤلاء المعاندين،
واختلت الموازين عند المنافقين الذين ظنوا أن الإسلام أقوالٌ لا أفعال، وأنه ما سيدعوهم إلى العمل والاجتهاد لرفعة الإسلام والمسلمين،
وقد تباينت ردود أفعل الناس تجاه هذا الحادث غير المألوف،
* فأما المؤمنين فلم يترددوا لحظة عن التحوّل طاعةً لله ورسوله فقالوا: “سمعنا وأطعنا”، (آمنا به كل من عند ربنا)، وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرة عليهم. فامتدحهم الله تعالى، وبيّن لهم أن هذه الحادثة إنما كانت اختبارًا للناس وامتحانًا لهم كما قال تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله} [البقرة : ١٤٣]
* وأما المشركون فقالوا: كما رجع -محمد- إلى قبلتنا سيرجع غدًا إلى ملتنا وعقيدتنا، وما رجع إليها إلا أنه الحق.
* وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله، ولو كان نبيًّا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء.
* وأما بعض ضعيفي الإيمان والمنافقين من المسلمين فأصابهم الشك والحيرة واستكبروا الأمر وقالوا فقالوا: “ما يدري محمد أين يتوجه، إن كانت الأولى حقًّا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس، وكانت كما قال الله تعالى: (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه.
فلقد_كان_تحويل_القبلة تحول قلوب قبل أن يكون تحول أجساد في لحظةٍ واحدةٍ حينما نزل قوله تعالى:
“فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ”.
وقد ضرب الصحابة -رضي الله عنهم- أروع الأمثال في سرعة امتثالهم لأوامر الشرع، فلما أُمِروا بالتوجه إلى المسجد الحرام سارعوا وامتثلوا، بل إن بعضهم لما علم بتحويل القبلة وهم في صلاتهم، تحولوا وتوجهوا إلى القبلة الجديدة في نفس الصلاة؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، قَالَ: بَيْنَا الناسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِن رَسُولَ اللهِ -ﷺ- قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الليْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ؛ (رواه البخاري).
• وعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَن النبِي ﷺ، صَلى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنهُ صَلى أَولَ صَلاَةٍ صَلاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمنْ صَلى مَعَهُ، فَمَر عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَليْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ قِبَلَ مَكةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ؛ (رواه البخاري).
* كيف كان تحول المصلين في الصلاة؟
وكان التحول: بأن استدار الإمام ومن معهم من المأمومين من مكانهم على شكل نصف دائرة؛ بحيث أصبح الإمام في مؤخرة المسجد من جهة الكعبة، والرجال خلفه، والنساء في مكان الرجل.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وَوَقَعَ بَيَانُ كَيْفِيَّة التَّحَوُّل فِي حَدِيث ثُوَيْلَة بِنْت أَسْلَمَ عِنْد اِبْن أَبِي حَاتِم ، وَقَدْ ذَكَرْت بَعْضه قَرِيبًا وَقَالَتْ فِيهِ: “فَتَحَوَّلَ النِّسَاء مَكَان الرِّجَال وَالرِّجَال مَكَان النِّسَاء، فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ إِلَى الْبَيْت الْحَرَام”.
قُلْت -والكلام لابن حجر-: وَتَصْوِيره أَنَّ الْإِمَام تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانه فِي مُقَدَّم الْمَسْجِد إِلَى مُؤَخَّر الْمَسْجِد؛ لِأَنَّ مَنْ اِسْتَقْبَلَ الْكَعْبَة اِسْتَدْبَرَ بَيْت الْمَقْدِس، وَهُوَ لَوْ دَارَ كَمَا هُوَ فِي مَكَانه لَمْ يَكُنْ خَلْفه مَكَان يَسَع الصُّفُوف وَلَمَّا تَحَوَّلَ الْإِمَام تَحَوَّلَتْ الرِّجَال حَتَّى صَارُوا خَلْفه، وَتَحَوَّلَتْ النِّسَاء حَتَّى صِرْنَ خَلْف الرِّجَال وَهَذَا يَسْتَدْعِي عَمَلًا كَثِيرًا فِي الصَّلَاة، فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون ذَلِكَ وَقَعَ قَبْل تَحْرِيم الْعَمَل الْكَثِير، كَمَا كَانَ قَبْل تَحْرِيم الْكَلَام، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون اُغْتُفِرَ الْعَمَل الْمَذْكُور مِنْ أَجْل الْمَصْلَحَة الْمَذْكُورَة، أَوْ لَمْ تَتَوَالَ الْخُطَى عِنْد التَّحْوِيل بَلْ وَقَعَتْ مُفَرَّقَة ، والله أَعْلَم” فتح الباري (١ /٥٠٦-٥٠٧)
إننا نتعلم من الصحابة كمال التسليم والانقياد لأوامر الله، فالمسلم عبدٌ لله تعالى، يسلم لأحكامه وينقاد لأوامره بكل حب ورضا، ويستجيب لذلك، ويسارع للامتثال بكل ما أُوتي من قوة وجهد، فأصل الإسلام التسليم، وخلاصة الإيمان الانقياد، وأساس المحبة الطاعة، لذا كان عنوان صدق المسلم وقوة إيمانه هو فعل ما أمر الله والاستجابة لحكمه، والامتثال لأمره في جميع الأحوال، لا يوقفه عن الامتثال والطاعة معرفة الحكمة واقتناعه بها؛ لأنه يعلم علم اليقين، أنه ما أمره الله تعالى بأمر ولا نهاه عن شيء، إلا كان في مصلحته سواء علم ذلك أو لم يعلمه؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَل ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦].
هذه الطاعة، وذلك التسليم الذي أقسم الله تعالى بنفسه على نفي الإيمان عمن لا يملكه في قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتى يُحَكمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُم لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِما قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥].
* الصحابة وسرعة الاستجابة
وليست هذه هي واحدة الصحابة في سرعة الاستجابة
بل لهم مواقف عديدة تحكي الانقياد والتسليم منها:
• إراقة الخمور بمجرد التحريم: فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ، وَأَبَا طَلْحَةَ، وَأُبَي بْنَ كَعْبٍ – رضي الله عنهم الخمْرَ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ -ﷺ- مُنَادِيًا فَنَادَى: “فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أنَسُ، اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصوْتُ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي: “أَلَا إِن الْخَمْرَ قَدْ حُرمَتْ، فَمَا قَالُوا مَتَى؟ أَوْ حَتى نَنْظُرَ، بل قَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: يَا أَنَسُ، اذْهَبْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا، ثُم قَالُوا عِنْدَ أُم سُلَيْمٍ حَتى أَبْرَدُوا وَاغْتَسَلُوا، ثُم طَيبَتْهُمْ أُم سُلَيْمٍ ثُم رَاحُوا إِلَى النبِي -ﷺ- فَإِذَا الْخَبَرُ كَمَا قَالَ الرجُلُ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا طَعِمُوهَا بَعْدُ، وَكَفَأَ الناسُ آنِيَتَهُمْ بِمَا فِيهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ” رواه أحمد والبخاري ومسلم.
سرعة استجابة النساء في ارتداء الحجاب:
فعَنْ صَفِيةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: “بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَذَكَرَتْ نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُن، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِن لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ لَفَضْلا، وَإِني وَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ أَشَد تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللهِ، وَلا إِيمَانًا بِالتنْزِيلِ لَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النورِ “وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن” انْقَلَبَ رِجَالُهُن إِلَيْهِن يَتْلُونَ عَلَيْهِن مَا أُنْزِلَ إليهن فيها، ويتلوا الرجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ، وَعَلَى كُل ذِي قَرَابَتِهِ، مَا مِنْهُن امْرَأَةٌ إِلا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا الْمُرَحلِ فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابِهِ، فَأَصْبَحْنَ يُصَلينَ وَرَاءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ الصبح معتجرات كأن على رؤسهنَّ الغربان” رواه أبو داود مختصرًا، وابن أبي حاتم في التفسير.
والأعجب من ذلك:
• خلع النعال أثناء الصلاة متابعةً للنبي -ﷺ- الذي خلعه لنجاسة فيه، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ -ﷺ- يُصَلي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَما رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَما قَضَى رَسُولُ اللهِ -ﷺ- صَلَاتَهُ، قَالَ: (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ)، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -ﷺ-: “إِن جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَن فِيهِمَا أَذًى….)؛ رواه أبو داود وصححه الألباني في مشكاة المصابيح)، والنماذج في هذا المعنى كثيرة من واقع الصحابة، ولكنها إشارة للعاقل.
• والسؤال: أين هذا مِن حال مَن يجادلون في آيات الله بغير علم؟! وممن يطعنون في أصول الدين؛ لأنها لا تتوافق مع أهوائهم المنحرفة وعقولهم الخرِبة؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون؛ ومن الصحابة نتعلم درسًا في معنى الأخوة
فقد أظهر تحويل القبلة حرص المؤمن على أخيه وحب الخير له، وأظهر بعض المسلمين القلق على من لم يكتب الله له شرف الصلاة إلى الكعبة ممن مات قبلهم، وخافوا من حبوط أعمالهم ، وقالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله {وما كان الله ليضيع إيمانكم } (البقرة: ١٤٣) – يعني صلاتكم – (رواه أبو داوود والترمذي وصححه الألباني في صحيح الترمذي).
وانظروا إلي حالنا اليوم وما نحن فيه من ابتعادٍ عن منهج الله وعن دين الله وعدم طاعة لأوامر الله وأوامر رسوله ﷺ فأصبحنا أذلاء بل غثاءٌ كغثاء السيل
انظروا الي المسلمين الأوائل في غزوة أحد لما خالفوا أمرًا واحدًا من أوامر رسول الله ﷺ- ماذا جري لهم؟
تبدل النصر هزيمة لأنهم ما استجابوا لأمر رسولهم وخالفوه فتمكن العدو منهم وركب علي أكتافهم
وبالمقابل نتساءل: ونحن كم أمرًا اتبعناه؟
أين نحن من تنفيذ أوامر الله ورسوله ﷺ؟ لماذا لا نستجيب؟ لماذا لا ننقاد؟ إن لذلك أسباب كثيرة منها:
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.
أيها الإخوة المؤمنين
إن الشائعات والأكاذيب من أشد الرماح المسمومة الهاتكة لحمى الوحدة والجماعة فكم تجنَّت على أبرياء، وأشعلت نار الفتنة بين الأصفياء، وكم هدمت من وشائج، وتسبَّبَت في جرائم، وفككت من علاقات وأواصر، وحطمت من حضارات وأمجاد، ولم يسلم منها أهل الصلاح ذوو الأفهام، بل ولا حتى الأنبياء والرسل الكرام.
وقد ذم الرسول ﷺ هذه الصيغ المجهولة والتي تؤدي إلى فساد المجتمع فقال -: “بئس مَطِيَّة الرجل: “زعموا” [أبو داود والبخاري في الأدب المفرد بسند صحيح] ؛ هذه الكلمة التي يبدأ بها مروج الإشاعات،
وقال ﷺ فيما أخرجه الإمام مسلم: “كفى بالمرء كذبا أن يُحدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ”
وقد كان للشائعات أثرها في سيرة النبي ﷺ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: ” كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيَأْخُذَ مِنْهُمُ الصَّدَقَاتِ، وَأَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُمُ الْخَبَرُ فَرِحُوا وَخَرَجُوا لِيَتَلَقَّوْا رَسُولَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَنَّهُ لَمَّا حُدِّثَ الْوَلِيدُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ رَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ. فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ يَغْزُوَهُمْ إِذْ أَتَاهُ الْوَفْدُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّاحُدِّثْنَا أَنَّ رَسُولَكَ رَجَعَ مِنْ نِصْفِ الطَّرِيقِ، وَإِنَّا خَشِينَا أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا رَدَّهُ كِتَابٌ جَاءَهُ مِنْكَ لِغَضَبٍ غَضِبْتَهُ عَلَيْنَا، وَإِنَّا نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ اسْتَعْتَبَهُمْ وَهَمَّ بِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرَهُمْ فِي الْكِتَابِ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}
فيا سبحان الله كم فرقت الشائعات بين رجل وزوجته بسبب شائعة
ــ كم قامت حروب بسبب شائعة
ــ كم قتل ابرياء بسبب شائعة
ــ كم فرق بين اب وابنه اواخ واخية بسبب شائعة
أيها العُقلاء: الهدمُ سهلٌ، والانحِدارُ إلى الهاوِية لا يُكلِّفُ
يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: “ما رأيتُ أحدًا تكلم في الناس إلا سقط
وها هو جريج العابد الذي يروي لنا النبي -ﷺ- قصته فيقول: “وكان جريج رجلًا عابدًا، فاتخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات.فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا…” (متفق عليه)، فصدَّق الناس في العابد إشاعة البغي الفاجرة!