من تجليات الإسراء والمعراج

بقلم الأستاذ الدكتور : طلعت أبو حلوة أستاذ البلاغة ووكيل كلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر الشريف

 

لقد مرت على الإنسان منذ القدم السنون الطويلة، وكان الناس فيها يتخبطون في الظلام، ولا يعرفون لهم منهجًا واضحًا ينتهجونه، حتى أوحت إليهم عقولهم القاصرة بفروض واحتمالات فاسدة لا تخضع لمنطق صحيح، ولا يقرها عقل سليم، لكنها لم تلبث أن استقرت في نفوسهم، وتوارثها أبناؤهم جيلًا بعد جيل، وقبيلًا بعد قبيل، فمنهم من عَبَدَ الشمس، ومنهم من عَبَدَ القمر، ومنهم من عَبَدَ الشجر، ومنهم من عَبَدَ الحجر، إلى غير ذلك من العبادات الضالة.

وكان أهل مكة يعبدون الأصنام ، ويقدمون لها القرابين، وكانت الأصنام في العصر الجاهلي تحيط بالكعبة من كل جانب، وجاء ذلك اعتقادًا منهم بأنها تشفع لهم، وتقربهم إلى الله -عز وجل- زلفى، أو اعتقادًا منهم بأنها هي الآلهة التي تضر وتنفع، وتعطي وتمنع؛ ولذا فقد كانت البشرية في ذلك الوقت في أشد الحاجة وأمسها إلى بعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ليأخذ بيدها من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان والهداية، فبدأت دعوة الحق نورًا في غار تقاس مساحته بالأشبار، لكن هذا النور لم يلبث إلا قليلًا حتى ملأ الأقطار والأمصار، وأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

فبدأت الدعوة سرًّا ضمانًا لنجاحها؛ لأنها جاءت بما يصطدم بعقائد العرب، ثم جاء بعد ذلك الصدع بالصيحة الجهرية العالية التي هي غاية البلاغ، فتعرض النبي ومن معه للخصام والأذى من السفهاء والعظماء، وناصبتهم قريش العداء، وقعدوا لهم كل مرصد، ولقد عانى النبي ألوانًا كثيرة من أذى قومه له، وصدودهم عن دعوته، ولكن ذلك وغيره لم يَثْنِه عما أُمِرَ به، ولم يفلح في حجب نور الهداية.

ومع هلال شهر رجب من كل عام نذكر الإسراء والمعراج، تلك المعجزة التي اختص الله -جل جلاله- بها النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، والتي جاءت بعد فَقْد النبي وزيريه ونصيريه: عمه أبي طالب، وزوجه خديجة رضي الله عنها، الأمر الذي أشعل نار الحزن والأسى في فؤاده، حيث كان عمه مدافعًا عنه ضد أذى قريش، وكانت زوجه تواسيه وتشد أزره بعطفها ونصائحها ومواقفها الخالدة.

ولا غرو أن يكون هذا العام الذي فقد فيه النبي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عمه وزوجه عام الحزن، لكن رحمة الله -سبحانه وتعالى- قريب من المحسنين، فقد جاءت رحلة الإسراء والمعراج مِنّة كبرى من الله على رسوله، فاستوفده؛ ليُرِيَه من آياته الكبرى، وكأن هذه الرحلة تقول لنبينا: إن كانت قد ضاقت بك بطحاء مكة، فهناك ملأ آخر في السماء يرحبون بك، وانفتحت له السماء ترحيبًا وتأييدًا.

حيث أتاه جبريل -عليه السلام- واصطحبه بالبراق، وأسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه الرحلة المباركة، وتلك المعجزة الصادقة، حيث قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ الإسراء:1، وربما يظن ظانّ -ممن قصرت أنظارهم- أن هذه الآية الكريمة تحدثت عن الإسراء فقط، ولكن بالتأمل والتدبر نرى أنها قد تحدثت عن الإسراء والمعراج معًا، وإن كانت قد أجملت الإشارة إلى المعراج، وهذا يتضح إذا علمنا أن الإسراء يعني السفر في الرحلة الليلية الأرضية التي قام بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- محمولًا على البراق، وتلك الرحلة محددة في نقطتي البدء من المسجد الحرام والانتهاء إلى المسجد الأقصى، ولكن وصول الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى ليس هو الغاية، وإنما الوصول إليه لغاية أخرى أسمى وأعلى ، وهدف آخر أعظم وأرقى، وهذا ما يفهمه المدقق للنظر في جملة “لِنُرِيَهُ”؛ لأن اللام هنا للتعليل، وبيان سبب ما قبلها لما بعدها، وكأن سائلًا سأل قائلًا: لماذا أسرى الله بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؟ فالجواب هو “لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا”، والفعل المضارع “نُري” -بضم أوله- ماضيه “أَرَى”، أي جعله يرى الشيء، فالله -تعالى- جعل رسوله ومصطفاه يرى من الآيات ما شاء، وتَأَكَّدَ هذا في مقام آخر في قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ النجم: 11-18.

وفي هذه المعجزة الباهرة، وتلك الرحلة المباركة، تجلت بعض آيات الله ومظاهر تكريمه لنبيه، حيث بَعَثَ له آدم فمن دونه من الأنبياء -عليهم جميعًا الصلاة والسلام- وصَلّى بهم النبي إمامًا في المسجد الأقصى، وفي هذا إشارة إلى الارتباط الوثيق بين ما جاء به الأنبياء، حيث وحدة المصدر والهدف، كما فيه دلالة باهرة على مكانة بيت المقدس وقدسيته، وعلى ما ينبغي أن يوجد لدى المسلمين جميعًا من حمايته والحفاظ عليه.

وأَرَى اللهُ نبيَّه في تلك الرحلة بعض المشاهد التي تبين ثواب بعض الطاعات، وجزاء بعض المعاصي، وتتضمن الكثير من العبر والعظات، ومن هذه المشاهد التي أراها اللهُ نبيَّه أنه مَرَّ على قوم يزرعون ويحصدون في يوم، وكلما حصدوا عاد الزرع كما كان، فسأل جبريل عن هذا، فأجابه بأن هؤلاء هم المجاهدون في سبيل الله، حيث تضاعف حسناتهم إلى ما شاء الله.

كما أتى على قوم تُرْضَخ -أي تُكْسَر- رؤوسهم بالصخر، كلما رُضِخَتْ عادت كما كانت، فسأل جبريل، فأخبره بأن هؤلاء هم الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة.

كما أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج طيب وآخر نَيِّئ خبيث، فجعلوا يأكلون من النَيِّئ الخبيث، ويَدَعون النضيج الطيب، فسأل جبريل، فأخبره بأن هؤلاء قوم من أمته تكون عندهم أزواجهم من الحلال، فيتركونها، ويأتون الحرام.

كما أتى على قوم تُقْرَض ألسنتهم وشفاههم بمقارض من حديد، كلما قُرِضَتْ عادت كما كانت، فسأل جبريل، فأخبره بأن هؤلاء هم خطباء الفتنة.

كما امتن الله -عز وجل- على نبيه -صلى الله عليه وسلم- في هذه الرحلة الطيبة بمقابلة بعض الأنبياء في السماوات، وتشريفهم بزيارته، كما امتن عليه أيضًا بالدُّنُوّ والرؤية وافتراض الصلاة، والجمع بين أشتات الفضائل.

وتهدف هذه الرحلة إلى هدف عام يتمثل في صدق الرسول، وأن ما يُبَلِّغه إنما هو وحي خالص من الله، وهدف خاص يحدد اتجاه الرسالة وأبعادها.

ومن ثمار هذه الرحلة إطلاع اللهِ نبيَّه على بعض المظاهر الكبرى تكريمًا له، وتجديدًا لعزيمته وثباته، وتأييدًا لصدق رسالته، وحثًّا للمؤمنين على ضرورة التحلي بأخلاق الإسلام، والتزام ما شرع الله، والمحافظة على فرائضه، والوقوف عند حدوده ترغيبًا في ثوابه، وترهيبًا من عقابه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *