بقلم الشيخ: (نور عبدالبديع حمودة الأزهرى الشافعي)
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
الحمد لله الذي فضّل بعض الأيام على بعض، واختص مواسم للطاعة فجعلها مضمارًا للتسابق إلى رضاه، وسبيلًا لتحصيل رحماته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، خير من صام وقام، وأحسن إلى الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن رحمة الله بهذه الأمة أن جعل لها مواسم للخير، تضاعف فيها الأجور، وتُجاب فيها الدعوات، وتُفرج فيها الكربات، ومن تلك المواسم “يوم عاشوراء”؛ الذي نجى الله فيه موسى وقومه، وصامه النبي ﷺ شكرًا لله، وحث على صيامه.
ومن فضائل هذا اليوم العظيم: “التوسعة على العيال والأهل”، وهي سنة نبوية مهجورة عند كثير من الناس، لكنها ثابتة مستحبة دلّت عليها الأحاديث والآثار، وأقوال العلماء من المذاهب الأربعة.
في زمنٍ طغت فيه الماديات وغفل الناس عن كثير من السنن النبوية، من الجميل أن نُحيي ما اندثر منها، ومنها سنة التوسعة على الأهل يوم عاشوراء، تلك السنة التي ثبتت عن النبي ﷺ وعمل بها الصحابة والتابعون، وأفتى بها أئمة المذاهب الأربعة، ونقلها الحفاظ في كتب الحديث والسنن.
ما معنى التوسعة؟
التوسعة على الأهل معناها:
أن يُكرِم المسلم أهل بيته في يوم عاشوراء، بما يستطيع من طعامٍ أو شراب أو ملبس أو هدية، أو حتى بكلمة طيبة وابتسامة حسنة.
★ وهي من صور الشكر لله على نجاة سيدنا موسى وقومه، حيث نجَّى الله تعالى عبده ونبيه، وأهلك فرعون، فصامه النبي ﷺ شكرًا، وكان من تعظيم هذا اليوم إدخال السرور على الأهل.
أولًا: الدليل من السنة النبوية
روى البيهقي في شُعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: “من وسَّع على أهله يوم عاشوراء، وسَّع الله عليه سائر سنته”
(رواه البيهقي في الشعب والسنن الكبرى، بسند جيد)
* وقد ورد هذا الحديث من عدة طرق عن جابر، وأبي هريرة، وابن مسعود، وغيرهم.
* قال الإمام السيوطي: “ورد حديث التوسعة من طرق كثيرة، وكلها إذا اجتمعت تقوّى بعضها ببعض”.
* وقال الحافظ العراقي: “طرق الحديث كلها يقوِّي بعضها بعضًا، فيُستأنس بها ويُعمل بها”.
ثانيًا: عمل الصحابة والسلف الصالح
قال الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه: “جربناه فوجدناه صحيحًا”.
★وقال الإمام سفيان بن عيينة (وكان من كبار التابعين):
“قد جربناه خمسين سنة أو ستين فما رأينا إلا خيرًا”.
وهذا يدل على أن السنة لم تكن نظرية فقط، بل عملية معمولة بها عبر العصور.
أي أن الأثر قد ثبت بالتجربة العملية، وأنه كلما وسع أحدهم على أهله في هذا اليوم، وجد خيرًا وسعةً في ماله وسنةً كلها بركة.
ثالثًا: أقوال أئمة المذاهب الأربعة
المالكية:
قال الصاوي المالكي في حاشيته على الشرح الصغير: “يُندب في عاشوراء التوسعة على الأهل والأقارب”.
الشافعية:
قال سليمان الجمل في حاشيته على فتح الوهاب: “يُستحب فيه التوسعة على العيال والأقارب، والتصدق على الفقراء والمساكين من غير تكلّف، فإن لم يجد شيئًا فليوسِّع خُلُقه، ويكفّ عن ظلمه”.
الحنابلة:
قال البهوتي الحنبلي في شرح منتهى الإرادات: “وينبغي التوسعة فيه على العيال”.
وقال في المبدع:
“وقد جاء في الحديث أن من وسّع على عياله يوم عاشوراء وسّع الله عليه سائر سنته”.
الحنفية:
قال ابن عابدين في رد المحتار: “حديث التوسعة ثابت صحيح كما قال الحافظ السيوطي، وعليه فلا بأس إن فُعِل بقصد التوسعة الواردة”.
هذا اتفاق صريح على استحباب هذه السنة، مما يدل على مكانتها، وأنها سنة لا يُستهان بها.
رابعًا: عمل الأمة واتفاق العلماء
▪️ جرت عادة جماهير الأمة الإسلامية في مختلف العصور والأمصار على العمل بهذه السنة النبوية الشريفة.
▪️ ولم يُعرف خلافٌ معتبرٌ بين فقهاء المذاهب الأربعة في استحبابها.
قال الإمام المناوي في فيض القدير: “قال جابر الصحابي: جربناه فوجدناه صحيحًا، وقال ابن عيينة: ما رأينا إلا خيرًا، وفي ذلك دليل على أن الحديث مجرَّب معمُول به عندهم”.