يومُ عاشوراء: فجرُ نجاةٍ، وصَفٌّ لا يتصدَّع

بقلم الدكتور  : سيد نجم
من علماء الأزهر الشريف

الحمد لله الذي جعل في كلِّ عامٍ أيامًا تشرق فيها القلوب قبل الشموس، وتنهض فيها الأرواح من كبوتها إلى ربّها، والصلاة والسلام على سيد الخلق، محمدٍ بن عبدالله، الذي علّم البشرية أن النصرَ يصنعه الإيمان، وأن التمكين وعدُ ربٍّ لا يُخلف وعده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربهم في صفٍّ لا يزيغ ولا يلين.

أما بعد:

فما أعظم هذا اليوم المبارك، عاشوراء، وما أكرمه من وقتٍ تُسجَّل فيه للسماء صفحاتٌ من نور، فيه نجا اللهُ موسى ومن معه من المؤمنين، وفيه اندحر ظلم الظالمين، وعتو المتجبرين، وارتفعت راية الحق خفاقةً بعد طول بلاء، ليُعلِّم الله عباده أن وعده آتٍ، وإن طال الطريق، وأن البحر الذي يُخيَّل للضعيف أنه سدٌّ لا يُخترق، إنما هو في ميزان الله جسرٌ يُمَدّ للصادقين.

إن يوم عاشوراء ليس فقط ذكرى تُروى، بل هو رسالة متجددة في وجه كل زمنٍ يموجُ بالفتن، ويكثر فيه المرجفون، وتضيع فيه البوصلة. إنه نداءٌ للمؤمنين أن اصطفّوا، أن اجتمعوا، أن لا تكونوا كمن فرّقتهم الكلمات، وشقّت وحدتهم الظنون. موسى عليه السلام لم يُنقَذ وحده، بل نُجِّي من معه، من التزموا الصفّ، وساروا خلف راية النبوة، لا يخترقهم همس المشككين، ولا تفككهم خناجر الظن، ولا تهزّهم زوابع الشائعات.

وما أكثر من يتربّص بهذه الأمة اليوم! لا يرمونها بسلاحٍ ظاهر، بل يرمونها بالتشكيك، بتزييف الحقائق، بجرّ القلوب إلى مواضع الفتنة والريبة، باسم الغيرة تارة، وباسم الحرص تارة، وهم في الحقيقة يهدمون بنيانًا لو صمد لارتجّت له الجبال.

فيا عباد الله، إن من أبلغ ما يُقال في عاشوراء: أن نكون فيه كما يُحبّ الله، جسدًا واحدًا، صفًّا مرصوصًا، لا يفرّقنا هوى، ولا يُضعفنا ظنّ، ولا يُضلّلنا مُرجف، ولا تشتّتنا أصوات من لا يفرّقون بين الغيرة والغيبة، ولا بين النصيحة والتشويش.

صيام هذا اليوم الجليل بابٌ من أبواب المغفرة، كما قال نبيّنا ﷺ: “صيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله” [رواه مسلم]، لكنه أيضًا نافذة للتجديد، لتجديد العلاقة مع الله، وتجديد العهد مع الأمة، وتجديد الانتماء إلى الصف والوطن ، إلى الوحدة والاصطفاف ، إلى البناء لا الهدم، إلى الإصلاح لا التشهير، إلى العمل لا الكلام.

فلتكن عاشوراءك هذا العام يومَ إصلاح للنية، وتطهير للسان، وبناء للجسور لا للحواجز، يومًا تمسح فيه ما بينك وبين إخوانك، كما تمحو فيه ذنوب سنة، يومًا تملؤه بالمحبة، والصدق، والتثبّت، والبُعد عن السوء والريبة والفتن، يومًا تقول فيه بقلبك ولسانك: ” أنا مع الله… مع وحدة الصف، مع حب الوطن ، مع الاصطفاف خلف قيادتنا ، ومع رد المشككين والمتربصين “.

اللهم اجعل عاشوراءنا هذا عامًا يُمحى فيه ما كان من شقاق، ويُجبر فيه الكسر، وتُضمَّد فيه جراح الأمة، وتُعاد فيه الكلمة واحدة، والقلوب متآلفة، والصفُّ مرصوصًا لا يتصدّع، ولا يتسلل إليه دخيل. اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، واحفظ أوطاننا، واهدِ شبابنا، وبارك في علمائنا ودعاتنا، واجعل راية الإسلام عالية، وسُحب الفتنة مُنجلية، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصل اللهم وسلم وبارك فيكم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.