جبل المقطم… غراسُ الجنّة ومسكنُ الأولياء

بقلم المحب لدينه ووطنه د : مختار البغدادى

 

لقد شرّف الله جبلَ المقطم بما لم يُشَرَّف به غيرُه من الجبال، فجعله موضعًا تغرس فيه الجنةُ غراسَها، ومأوىً لأرواح المؤمنين، ومثوىً لطائفةٍ من صفوة الخلق من الصحابة والتابعين، والعلماء والصلحاء، والأشراف والأولياء. فلقد روى الإمامُ الليث بن سعد – إمام أهل مصر في عصره – أن المقوقس، حاكمَ مصر في زمان الفتح الإسلامي، سأل عمروَ بن العاص أن يبيعَه سفحَ جبل المقطم بسبعينَ ألفَ دينار. فكتب عمرو إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأذنه في ذلك.

فما كان من الفاروق إلا أن ردّ عليه برسالة حازمة قال فيها: “سَلْهُ لِمَ أعطاك ما أعطاك فيه، وهو لا يُزرَع ولا يُستنبط منه ماء؟!”

فسأل عمرو المقوقس عن ذلك، فأجابه الرجل قائلاً: “إنا نجد في كتبنا القديمة أن في هذا الجبل يُدفن غراسُ الجنة.”

 

فكتب عمرو بذلك إلى عمر، فجاءه الجواب:

“أما بعد، فإني لا أعرف غراسَ الجنة إلا للمؤمنين، فاجعلها مقبرةً لمن مات من المسلمين، ولا تبِعه بشيء.”

وهكذا صار سفحُ جبل المقطم منذ ذلك العهد مأوىً لأجساد المؤمنين، وموضعًا من أطهر المواضع وأشرفها، تقصده أرواح العابدين كما تقصد الطيور أعشاشها، وتفد إليه النفوس الطاهرة كما يفد الظمآن إلى نبعٍ صافٍ.

وقد تناقلت كتبُ التاريخ – خاصةً في العصور الوسطى – روايةً عجيبة، أن المسيحَ عيسى عليه السلام، مرّ بجبل المقطم ومعه أمّه السيدة مريم، فنظرت إليه وقالت:

“يا بني، مررنا بجبال كثيرة، فما رأينا أكثر نورًا من هذا الجبل!”

فقال لها عليه السلام:

“يا أماه، يدفن في هذا الجبل أمةٌ من أمة أخي أحمد، فهو جبلٌ من رياض الجنة وغراسها.”

فما أكرمها من شهادة! وما أعظمها من منزلة!

ولم يكن غريبًا بعد هذا أن يلجأ الزهّاد والصوفية إلى هذا الجبل المبارك، يتخذون من سفوحه مقامات، ومن أوديته منامات، ومن ترابه مسبحًا، ومن خلواته مناجاةً لله تعالى. فقد عرفت الديانات السماوية كلها فضل هذا الجبل، وعظّمت شأنه، وكرّمته في كتبها وآثارها.

وقد جاء في بعض الآثار أن الجبال كانت مكسوةً بالأشجار، تغنيها المياه، وتزدان بها الحياة، حتى كانت الليلة التي كلّم الله فيها موسى على طور سيناء، فأوحى الله إلى الجبال:

“إني مكلّم نبيًّا من أنبيائي على جبلٍ منكم، فليتهيّأ كلٌّ منكم لذلك.”

فتطاولت الجبال، وعلت، وتكبرت، إلا جبل طور سيناء، فقد تواضع إجلالًا لله، فأكرمه الله بالكلام، وخلّد اسمه في وحيه. ثم أوحى إلى الجبال أن يجود كلٌّ منها بشيء مما عليه، فجادت كلها بشيء، إلا جبل المقطم، فإنه جاد بكل ما عليه من شجرٍ ونبات وماء، حتى صار أقرعَ كما نراه.

فأوحى الله إليه:

“لأعوّضنّك عن كل ما فقدت… لأجعلن في سفحك غراس أهل الجنة!”

فيا له من وفاء ربانيّ!

وقد طيّب الله هذا الجبل بأجسادٍ زكيّة، وأرواحٍ عليّة، دفنت فيه فاستنار بها، وكان منها عمرو بن العاص فاتح مصر، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وأبو بصرة الغفاري، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، وغيرهم من أصحاب رسول الله ﷺ.

ودُفِن فيه من آل البيت الأطهار: السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد، والشريفة فاطمة، والشريف الهاشمي، وابنته السيدة زينب، وآل طباطبا، والشريف حيدرة، ويحيى الشبيه بن القاسم الطيب، وأخوه عبد الله، وزوجة القاسم الطيب – وكانت من الزاهدات العابدات.

كما ضمّ الجبل في تربته المباركة عددًا من أكابر العلماء والأئمة والفقهاء، منهم: الإمام الليث بن سعد، والإمام الشافعي، والمزني، وأشهب، وعبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وأبو يعقوب البويطي، والطحاوي، وعبد الله بن جمرة الأندلسي، ومحمد بن سيد الناس، وابن دقيق العيد، وغيرهم كثير.

ومن الزهاد والعارفين بالله: ذو النون المصري، ودينار العابد، وأبو الخير الأقطع، وبنان الواسطى، وأبو علي الروذباري، ومحمد بن جبار الزاهد، وابن عطاء الله السكندري، وسلطان العاشقين عمر بن الفارض… فسبحان من جمع في هذا الموضع أطهَر الأرواح وأزكاها!

يا سائلي عن فضل المقطم حسبه أن فيه غُرست رياضُ الجنّة، وسُقيت بدموع التائبين، وتفيأت فيه أرواح العابدين، وسكنت تُربته أطهر الخلق من الأولين والآخرين.

فسلامٌ على جبلٍ ارتفع بالصالحين، ولم يرتفع بنفسه…

وسلامٌ على سفحٍ صار مرقدًا للأتقياء، ومهوىً لأحباب السماء.

ولأني أعلمُ أن أقوامًا غلوا في الجفاء كما غلا غيرهم في الإفراط، وأن أعداء آل بيت النبوة لا يروق لهم أن يُذكر موطنٌ شُرِّف بمرقد الصالحين، أو مقامٍ تفيأت فيه أرواح المحبين، فإني أوردتُ هذه المصادر لا تزكيةً لروايةٍ بضعف أو صحة، بل سدًّا لباب التذرع، وقطعًا لحجة التشغيب، وتثبيتًا للقلوب التي تُحسن الظنَّ بأولياء الله، وتأنس بذكرهم وتُقبل على آثارهم كما يُقبل العاشق على نسيم الحبيب.

فما كان حديثي ضربًا من الأسطورة، ولا نَفَسًا من خيال، بل هو مما تناقلته كتب السِّير، وروته مصنفات العلماء، وتواطأت عليه قلوب العارفين جيلاً بعد جيل، وأثبتته مصنفاتٌ تُقرَأ إلى يوم الناس هذا في الأزهر الشريف ومكتبات الإسلام.

المصادر:

– الإمام السيوطي – حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة. ـ الإمام المقريزي – الخطط المقريزية (المواعظ والاعتبار)

– الإمام الليث بن سعد – روايته منقولة في كتب فضائل مصر

– ابن زولاق – تاريخ ولاة مصر

– أبو القاسم القشيري – الرسالة القشيرية

– ابن عطاء الله السكندري – لطائف المنن

– عبد الوهاب الشعراني – الطبقات الكبرى

– أحمد بن علي بن حجر الهيتمي – الفتاوى الحديثية

– ابن الجوزي – صفة الصفوة