التكفير… حين يتحوّل الدين إلى محكمة تفتيش
4 يوليو، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

بقلم الكاتب: محمد نجيب نبهان
حين نفتح صفحات التاريخ الإسلامي، نرى وجهين: وجهًا مشرقًا، حمل إلى البشرية نور التوحيد، وعدالة التشريع، ورقيّ السلوك، ووجهًا آخر مظلمًا حين تسرّب الغلو إلى الخطاب، واستُبدلت الرحمة بالتوحش، والعلم بالهوى، والحكمة بالعصبية، والعقل بالسلاح.
في القلب من هذا الظلام، تقف آفة التكفير. إنها الكلمة التي فرّقت الجماعات، وشرّعت الدماء، وهدمت المساجد، وزعزعت دولًا كاملة. ليست مجرد مصطلح فقهي، بل هي بوابة جحيم تُفتح إذا ما استُخدمت بلا علم ولا ورع، تُهدر بها الأرواح، وتُستحل بها الحرمات، وتُضرب بها الأمة من داخلها قبل أعدائها.
يبدأ الانحراف في لحظة: حين يُنزل الإنسان نفسه منزلة الله فيحكم على القلوب، أو منزلة النبي فيتصرف كأنه صاحب الرسالة، أو منزلة الفقيه فيفتي بغير علم، أو منزلة القاضي فيقضي بغير بينة. ومن هنا، يصبح التكفير أشبه بـ”محاكم التفتيش” الدينية، حيث لا يُطلب برهان ولا تُقبل أعذار، بل يُكتفى بكلمة أو فعل أو تأويل، حتى يُزجّ بالناس في جهنم الغلو والاتهام.
التكفير: الغيرة أم الغلو؟
كثيرون ممن يكفّرون لا يدّعون أنهم أعداء للدين، بل يقدمون أنفسهم بوصفهم “غيورين” على الشريعة، ويصورون أفعالهم على أنها نصرة لله ورسوله. وهنا مكمن الخطر؛ فحين يلتبس الغلو بالغيرة، ويُزيَّن للمغالي أنه غيور، تختلط المفاهيم، ويتحوّل الدين من ضوء يهدي إلى نار تحرق.
الغيرة الصادقة لا تستعجل الأحكام، ولا تستبدّ بالفتوى، ولا تقذف الناس بالكفر لمجرد خلاف في الرأي أو اجتهاد في الفهم أو زلّة لسان. أما الغلو، فهو الذي يدفع صاحبه إلى إسقاط كل من خالفه، وتحويل الدين إلى هوية صدامية بدلاً من أن يكون رسالة دعوة ورحمة.
ولهذا قال العلماء: التكفير حكم شرعي، لا يصح إلا بدليل واضح كالشمس، لأن عواقبه خطيرة: قد يترتب عليه القتل، أو الطرد من الجماعة، أو انقطاع الميراث، أو حرمان من الغسل والصلاة والدفن في مقابر المسلمين. هل نتصور أن مثل هذا الحكم يُلقى جزافًا على الألسنة لمجرد نقاش فيسبوكي، أو تغريدة عابرة، أو خلاف تأويلي؟!
السنة النبوية: التحذير الأقصى من التسرع
في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم:
“من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما”
هذه العبارة النبوية ليست مجرد تحذير بل هي قانون خطير: من أطلق كلمة التكفير، فعليه أن يتحمّل نتائجها؛ إما أنه أصاب، وإما أنه أخطأ فيحمل الوزر كاملاً. معنى هذا أن التكفير ذنب مزدوج: إن كان بحق، فهو مصيبة وقعت على المقول له، وإن كان بغير حق، فهو جريمة ارتكبها القائل في حق نفسه.
النبي هنا لم يتحدث عن تكفير الملاحدة أو المنكرين، بل قال: أخيه، أي المسلم الذي تربطه بك رابطة الإيمان. وهذا يعني أن الأصل في المسلم السلامة والاحترام، لا أن يُشكّك في إيمانه بمجرد زلّة أو تأويل أو حتى معصية.
فقه العلماء: سدّ الذرائع قبل وقوع الفتنة
الفقهاء الكبار الذين كانوا أعلم الناس بكتاب الله وسنة نبيه، ما تساهلوا يومًا في إطلاق التكفير. بل كانوا شديدي التوقي، يخشون على أنفسهم من أن يقعوا في الظلم، لأنهم يدركون أن الحكم بالكفر هو اختصاص إلهي، وليس لأحد من البشر أن يتجاوز مقامه.
الإمام النووي، فقيه الشافعية، قال:
“لا يُكفَّر أحدٌ من أهل القبلة بذنب، ولا يُكفَّر أهل الأهواء والبدع ما لم يُنكروا معلومًا من الدين بالضرورة.”
هذا الكلام يضع قاعدة ذهبية: أن مجرد الذنب، بل وحتى البدعة، لا تُخرج المسلم من الإسلام، ما دام يؤمن بالله ورسوله ولا يُنكر المعلوم من الدين. وهذا ينسف حجج كثير من الغلاة الذين يرون أن كل من وقع في بدعة فهو كافر، بل ربما يرون كل مخالف لهم كافرًا بالضرورة.
أما ابن تيمية، الذي أسيء استعمال أقواله كثيرًا من قبل جماعات الغلو، فقد قال:
“ولا نكفّر أحدًا من المسلمين حتى تقوم عليه الحجة وتُبيَّن له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لا يُزال عنه إلا بيقين.”
وهنا تتضح قيمة اليقين في ثبوت الإيمان: لا يزول بيقين إلا بيقين، وليس بظن أو شبهة أو سوء فهم.
الشروط الأربعة للتكفير: العدالة قبل الحكم
علماء أهل السنة والجماعة اشترطوا أربعة شروط لا بد من توفرها قبل أن يُكفّر الإنسان:
. أن يكون الفعل أو القول كفرًا بيِّنًا صريحًا، لا يحتمل تأويلاً ولا اجتهادًا. أي أن الكلام واضح وضوحًا قاطعًا لا لبس فيه، كأن ينكر وجود الله أو يقول إن القرآن كذب.
. أن يكون القائل أو الفاعل عالمًا بالحكم، لا جاهلًا. فإن كان يجهل، فلا يُكفّر، لأن الجهل يُرفع به الحكم كما في القاعدة الأصولية: “الجهل عذر في مواضع”.
. أن يكون قد وقع فيه مختارًا غير مكره، لأن المكره لا يُحاسب على ما نطق به تحت التهديد، وقد دلّ على ذلك القرآن.
. أن تُقام عليه الحجة الشرعية الواضحة من أهل العلم، ويُشرح له خطؤه، ثم يصر عليه بعد البيان.
موانع التكفير: جدار الأمان الشرعي والإنساني
ثم تأتي الموانع الأربعة التي تمنع تطبيق الحكم حتى لو وقع الفعل المكفّر:
الجهل، لأن كثيرًا من الناس نشأوا في بيئات بعيدة عن العلم الشرعي، وقد لا يفهمون أبعاد ما يقولونه أو يفعلونه.
التأويل، أي أن يظن الشخص أن ما يفعله هو حق بناءً على فهم خاطئ أو اجتهاد مغلوط.
الإكراه، كما في حال من يُجبر على التلفظ بالكفر تهديدًا لحياته.
الخطأ أو الزلة، كما يقع في التعبير أحيانًا أو في لحظة غضب أو اضطراب.
كل هذه الموانع تُظهر لنا أن الدين لا يطلب هدم الإنسان، بل يحميه ويبحث له عن العذر قبل أن يُقيم عليه الحجة.
الفلسفة والضمير: من يملك مفاتيح الجنة؟
من منظور فلسفي، التكفير هو ذروة السلطة الدينية، لأنه يُحدّد مصير الإنسان الأبدي. والادّعاء بامتلاك هذه السلطة خارج منظومة العلم الشرعي المُحكم يعني الانزلاق في استبداد ديني لا يقلّ عن الاستبداد السياسي أو الطائفي. بل قد يكون أخطر، لأنه يُغلّف القمع بثوب الدين.
الفيلسوف الإسلامي ابن رشد كان يقول:
“الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له.”
فأين الحق في أن يتحول الدين إلى أداة للتفريق، بدل أن يكون وسيلة للائتلاف؟ وأين الحكمة في أن يُمنح الجاهلون حق تصنيف الناس، وهم لا يفقهون شروط ولا موانع ولا تاريخ ولا سياق؟
بل أين الرحمة في أن يتجرأ أحدهم على تكفير من عاش عمره في طاعة، لمجرد أنه خالفه في تأويل أو رأي؟
التاريخ لا يرحم: التكفير طريق الدم
حين كفّر الخوارج الإمام علي بن أبي طالب، استباحوا دمه ودماء أصحابه، فكانت أول فتنة داخلية تسيل فيها دماء المسلمين. ومن بعدهم، ظهرت جماعات أخرى – كل منها يكفّر غيره – فاختلطت الرايات، واختفى العدل، وسادت الفتنة.
وفي العصر الحديث، رأينا كيف استغلت الجماعات التكفيرية هذا المفهوم لشنّ حروب، وتفجير مساجد، وقتل مسلمين بأيدي مسلمين، وكل ذلك تحت راية زائفة عنوانها: “نحن أهل الحق”.
لكنهم، في الحقيقة، غدروا بالحق قبل أن يغدروا بالبشر. فالدين لا يأمر بالذبح، ولا يُبيح سفك الدم بغير بينة، ولا يرضى أن يُستبدل الوعي بالعنف، والعقل بالتحريض.
دعوة للوعي.. قبل أن تحترق الأمة أكثر
إن معركتنا اليوم ليست معارك السيوف، بل معركة الوعي. نحتاج إلى علم راسخ يضبط الألسنة، ونحتاج إلى فلسفة إنسانية تُرجع الإنسان إلى مكانته، ونحتاج إلى رحمة تُعيد للدين وجهه الحقيقي، لا وجهه المسروق.
فكر قبل أن تتكلم. ولا تتسرع بإطلاق حكم قد يُهوي بك في النار سبعين خريفًا. الكلمة مسؤولية، والتكفير ليس أداةً في النقاش، بل قضاء شرعي دقيق لا يملكه إلا الراسخون في العلم، الأمناء على الدين والناس.