وترى الأسافل قد تعالى مجدهم

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

في عالم مختل الموازين، مقلوب الحقائق، حيث انقلبت المفاهيم وتشوهت القيم، لم تعد الجدارة معيارًا، ولا الفضيلة جوازًا للرفعة. بل بتنا في زمن يُرى فيه الأسافل – وهم أهل الدناءة والخسة والابتذال – يتصدّرون المشهد، ويتعالى مجدهم، وتُفرش لهم السجّاد الأحمر، ويُحتفى بهم كأنهم أنبياء العصر أو أبطال الرواية.

إنها عبارة تهز القلب والعقل معًا: “وترى الأسافل قد تعالى مجدهم”. ليست مجرد جملة تُقال، بل صرخة خرجت من رحم الحزن على انحدار القيم، ومن وجع المثقفين والمخلصين الذين صُفعوا مرارًا حين رأوا الكراسي تُمنح لغير مستحقيها، والمايكروفونات تُعطى لمن لا يحسنون حتى النطق، والأضواء تسلط على من لا يعرفون الظلام إلا حين يُطفأ سراج الضمير.

فكم من عالم مغمور لا يُعرف اسمه إلا بين صفحات كتبه، بينما يعتلي المنابر من لا يحسن إلا اللغو الفارغ!
وكم من مصلح مكلوم تُغلق في وجهه الأبواب، بينما تُفتح القصور لفتى ترندات وصاحب مقاطع هابطة لا تسمن ولا تغني من فكر!
وكم من امرأة شريفة طاهرة الكف والنفس، تموت في صمت خلف ماكينة خياطة أو في طابور مستشفى، بينما تتصدر أخرى مشهد الحفلات وقد باعت كل شيء من أجل حفنة متابعين!

لقد أصبحت الشهرة بلا قيمة إلا لمن يثيرون الضجة، وأصبح الإعلام بوقًا للسطحيين، والنفوذ حليفًا لكل من باع عقله واستبدله بالمظهر، فتعالى مجدهم – أولئك الأسافل – لأن الناس انشغلوا بالقشور عن الجواهر، وبالضحك عن الفهم، وبالتقليد عن الإبداع.

ليس الأمر جديدًا، فالتاريخ لطالما شهد مثل هذه الانقلابات؛ يوم صار كعب بن زهير يهيم على وجهه خوفًا من سيف رسول الله، بينما كانت جموع قريش تهتف لقصائد هجائه! ويوم جُعل السجن مأوى لسيدنا يوسف، وبيت العزيز مأوى للفتنة! ويوم صُلب الحلاج وخرج الحُكّام يتباهون بدمه!

لكن الفارق اليوم أننا صرنا نُطبّع مع هذا المشهد، ونحتفل به، ونعيد إنتاجه كل يوم، عبر مواقع التواصل، وعبر مناهج مشوهة تُقصي العقول النيرة وتدفع إلى الواجهة بشخصيات هشة، لا تمتلك من الحياة إلا رغبة الصعود بأي ثمن.

إننا بحاجة إلى أن نُعيد لأنفسنا مرآة الحقيقة، نُراجع مَن نصعد بهم، ومَن نُنزلهم، نُعيد الاعتبار للعلم، للصدق، للأخلاق، للعمل المتقن، للبساطة التي لا تتكلف، وللعقول التي لا تُشترى.

فمتى يُعاد للأعلى مكانه؟
متى يُكفكف هذا المجد الزائف؟
متى نرى الفاضلين في موضعهم، لا غرباء في حضرة الخواء؟
متى يعلو مجد الأفاضل، ويعود الأسافل إلى أسفل سافلين.

إن المأساة ليست في أن “الأسافل قد تعالى مجدهم”، بل في أن بعض الشعوب باتت تنظر إليهم بإعجاب، وتقلدهم بلا وعي، وتصفق لهم كلما صرخوا بلا معنى. المأساة في أن المنابر تُشيد على أرواح العظماء بينما يُجمل الخطاب بأسماء تافهة، وتُركن النماذج الراقية جانبًا لتُقدم النماذج الممسوخة التي لا تعرف الحياء ولا العقل ولا حتى الإحساس.

لكن لا زال هناك أمل، طالما بقي بيننا من يكتب، من يُفكر، من يوجعهم الانحدار ويؤلمهم الزيف، من يؤمن أن “علوّ الأسافل” ليس قدرًا محتوماً، بل حالة طارئة قابلة للتغيير ما دام في الأمة قلب نابض وضمير حي. علينا أن نحفر بأقلامنا، أن نبني بأفكارنا، أن نضيء طريقًا آخر لأبنائنا، لا تزينه ضوضاء الأسافل، بل تنيره أنوار الفضلاء.

فلنصبر، ولنقاوم، ولنكتب، ولندعُ الله أن لا يُؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن يُعيد لمجد الأمة صورته الحقيقية لا الزائفة، وأن يهبنا القدرة على كشف الزيف، وعلى الوقوف في وجهه، ولو بكلمة حق في وجه باطل علا صوته… وصعد على أكتاف الصامتين.

وستبقى العبارة شاهدًا على زمن الانقلاب والخذلان:
وترى الأسافل قد تعالى مجدهم… ولكن المجد الحقيقي لا ينام طويلًا، وسيرتفع حين يفيق الشرفاء.