خطبة بعنوان ( عام جديد وأمل جديد ) لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف

خطبة بعنوان ( عام جديد وأمل جديد )
لفضيلة الدكتور : محمد جاد قحيف

لتحميل الخطبةpdf اضغط أدناه

د. محمد جاد قحيف. بدايةٌ جديدةٌ وأملٌ جديدٌ

الحمد لله الملك القدوس السلام مدبر الليالي والأيام ومصرف الشهور والأعوام ، وأشهد أن لا إله إلا الله إله رحيم كثير الإنعام ، ورب قدير شديد الانتقام .

وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الإسلام ، سيد الأنام ، مصباح الظلام ، بدر التمام ، مسك الختام ، حبيب الملك العلام ، وشفيع الخلائق يوم الزحام . اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه السادة الأئمة الأعلام ، والتابعين لهم بإحسان على الدوام.

وبعد أيها الأحبة الكرام ..

ففي مطلع العام الهجري الجديد نلتقي بكم وحق لنا أن نعتبر من مرور الليالي والأيام ، فطلوع الشمس كلَّ يوم من مشرقها وغروبها آية وعبرة لمن اعتبر وعظة لمن تذكر ، وطلوعُها وإشراقها ، ثم أفولها وغيابُها إيذانٌ بأن هذه الدنيا ليست دارَ قرار ، وإنما دار فناء وزوال ..

العنصر الأول:  العبرة من مرور الأيام ..

قال تعالى: “وهوالَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ” . الفرقان/62.

إن القمر يولد هلالا ثم ينمو رويدًا رويدًا ، حتى إذا تكامل نموُّه أخذ في النقص والاضمحلال، كسنة الله في الخلق ، وكذا النجومٌ تُزهر وتُنير، وتأفل وتغور ، وهكذا عمر الإنسان ..

وهكذا الحياة مهما امتدت قصرت، ومهما طالت نقصت، النَّفس من أنفاسك يُقربك إلى دارك وينقلك من دارك، نعم من دار الدنيا إلى الدار الأخرى، جعل الله في الليل والنهار عِبرًا، وفي المساء والصباح عجبًا، جعل الله في تقلب الأيام ومرور الشهور والأعوام تذكرةً وعظةً للأنام؛ (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ)[النور:44 .

الليل يعقبه النهار والنهار يعقبه الليل والحر يعقبه البرد والبرد يعقبه الحر والشتاء يعقبه الصيف وهكذا الأيام تطوي الأعمار والأعوام، وتُنهي الآجال، فالعُمر محدود، والزمان معدود ، والأعمار مهما طالت لا بُد من الموت و الفناء، والدنيا مهما ازدانت فمآلها إلى الانتهاء و الزوال ، كأنما دخل العبد من بابٍ وخرج من آخر .

دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني .

سبحان الله! ما أسرع الليالي! والأيام تمضي الأعوام تلو الأعوام وكأنها أضغاث أحلام..

أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ *** إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَع .

يحكى أن جمال الدين القاسمي – رحمه الله – مر على أناس يجلسون على مقهى يلعبون ويمرحون ويضيعون أوقاتهم في المعاصي، فبكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: لو أعلم أن هؤلاء يبيعون أوقاتهم لاشتريتها منهم .نعم ، سيُسأل العبد عن عمره فيم أفناه ؟هل أفناه في الطاعة أم في المعصية ؟ هل أفناه فيما يقربه من ربه عز وجل أم فيما يباعده منه ؟ هل أفناه فيما ينفعه في الدنيا ..إننا ضيوف على هذه والحياة سرعان ما نفارق هذه الحياة ونرحل منها تماما ، كما تنقضى الأيام والشهور والأعوام ،

فكم ودعنا في هذا العام من حبيب ، وكم دفنا في التراب من عزيز ، و أنت لا تدري يا أخا الإسلام متى ياتي دوري ودورك ، ويومي ويومك ، هل ندرك العام الجديد ، أم لا ، فالموت يأتي بغتة ، وملك الموت لا يستأذن أحدا ، ولا يمكن رشوته ، أو التفاوض معه على تأجيل الأمر الإلهي ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ..

يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنِيَّاتِ *** عَمَّا قَلِيلٍ سَتُثْوَى بَيْنَ أَمْوَات .

فَاذْكُرِ مَحِلَّكَ مِنْ قَبْلِ الْحُلُولِ بِهِ *** وَتُبْ إِلَى اللَّهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّات..

وقد كان السلف الصالح رحمهم الله، يجعلون من مرور الأيام والسنين، مدكراً ومزدجراً، فكانوا يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس، قال بعضهم: كيف يفرح من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[إنما أنت أيام كلَّما مضى منك يومٌ مضى بعضك ]]، ومن أقوال الحسن البصري رحمه الله : [ ما من يومٍ ينشق فجره، إلا نادى منادٍ من قبل الحق: يابن آدم! أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود فيّ بعملٍ صالح؛ فإني لا أعود إلى يوم القيامة ]..

العنصر الثاني : الأمل روح الحياة..

الأمل : هو انشراح الصدر،

و توقع حدوث شيء طيب في المستقبل ربما يستبعد حصوله .

والأمل للأمة كالروح للجسد ، بل روح الحياة بأسرها ،فلولا الأمل ما بني بان بعمد ، ولا غرس غارس ولا حصد ، وما ذاكر طالب ولا اجتهد ..

ولولا الأمل لما تحققت كل الإنجازات التي وصلت إليها البشرية .

إنَّ الذي يُغْرِي التاجرَ بالأسفارِ والمخاطرةِ: أَمَلُهُ في الأرباحِ، والذي يَبْعثُ الطالبَ إلى الجدِّ والمثُابرةِ: أملُهُ في النجاحِ، والذي يحفِّزُ الجنديَّ إلى الاستبسالِ في أرضِ المعركةِ أملُهُ في النصرِ، والذي يُحبِّبُ إلى المريضِ الدواءَ المُرَّ: أملُهُ في الشِّفاءِ والطُّهْرِ، والذي يدعو المؤمنَ أنْ يُخالِفَ هَواهُ ويُطيعَ مَوْلاهُ: أملُه في الفوزِ بجنَّتِهِ ورِضاهُ، فهوَ يُلاقِي شدائِدَها بقلبٍ مُطْمَئِنٍ، ووجْهٍ مُسْتبشرٍ، وثَغْرٍ باسمٍ، وأمَلٍ عَريضٍ، فإذا حارَبَ كانَ واثِقًا بالنصرِ، وإذا أعْسَرَ لم يَنقطِعْ أملُهُ في تبدُّلِ العُسْرِ إلى يُسْرٍ، وإذا اقترفَ ذنبًا لم يَيْئَسْ مِنْ رحمةِ اللهِ ومغفرَتِهِ تَعلُّقًا وأملًا بقولِ اللهِ تعالىَ: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

وقد قيل كذلك: “إذا فقدت مالك فقد ضاع منك شيء له قيمة، وإذا فقدت شرفك فقد ضاع منك شيء لا يقدر بقيمة، وإذا فقدت الأمل فقد ضاع منك كل شيء”

فالأمل إذًا هو إكسير الحياة، ودافع نشاطها، ومُخفف وَيْلاتها، وباعث البهجة والسرور فيها.

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! والأمل – قبل ذلك كله – شيء حلو المذاق، جميل المحيَّا في ذاته، تحقق أو لم يتحقق..

إن أشد أنواع النكبات التي قد تبتلي بها أمة أن يتسرب اليأس إلي القلوب وتتفرغ القلوب من الأمل ..

والمتأمل في كتاب الله القرآن الكريم الباعث للأمل والمربي للنفوس يجد أن كلمة “الأمل” ذكرت مرتين :

المرة الأولى: جاء ذكر كلمة الأمل في الاتجاه السلبي، حيث ذكرت في سياق الذم والإنكار والتقبيح عندما يكون الأمل مقرونا بالركون إلى متع الدنيا واتباع شهواتها ، ولو كانت من حرام ، كما وصف الله حال المشركين ..

قال تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 3].

وهذا الأمل الذي حذر منه السلف الصالح كثيرا كما جاء عن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- : “إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ”.

والمرة الثانية: جاء ذكرها في الاتجاه الإيجابي المطلوب ، حيث ذُكرت في سياق المدح، والترغيب فيما عند الله من خير وابقى ..

قال جل جلاله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف: 46].

يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ

أَبْشِرْ بخيرٍ فإنَّ الفارجَ اللهُ

اليأسُ يَقْطَعُ أحيانًا بصاحِبِهِ

لا تَيْأسَنَّ فإنَّ الكافيَ اللهُ

اللهُ يُحْدِثُ بعدَ العُسرِ مَيْسَرَةً

لا تَجْزَعَنَّ فإنَّ القاسمَ اللهُ

إذا بُلِيتَ فثقْ باللهِ، وارْضَ بهِ

إنَّ الذي يَكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ

واللهِ مَا لَكَ غيرُ اللهِ مِن أحدٍ

فحَسْبُك اللهُ في كلٍّ لكَ اللهُ ..

الأمل لا بد منه لتقدُّم العلوم، فلو وقف عباقرة العلم والاختراع عند مقررات زمنهم، ولم ينظروا إلا إلى مواضع أقدامهم، ولم يمدهم الأمل بروحه في كشف المجهول، واكتساب الجديد من الحقائق والمعارف، ما خطا العلم خطواته الرائعة إلى الأمام، ووصل بالإنسان إلى القمر ..

والأمل لا بد منه لنجاح الرسالات والنهضات، وإذا فقد المصلح أمله، فقد دخل المعركة بلا سلاح !!. أديسون بعدما أخطأ 999 مرة نجح في صنع أول مصباح كهربائي ..

ومثل ذلك ما حدث من الإسكندر الأكبر المقدوني عند انهزامه في إحدى المعارك اختلى بنفسه ؛ ليفكر في أمره، فأثار انتباهه نملة تجر حبة قمح وتحاول الصعود بها، لكنها كانت تسقط منها، فحاولت مرات عديدة، حتى نجحت في مُهمتها، فتعلم منها درسا عظيما، ألا هو: الأمل للبقاء، والعزيمة التي لا تكل ولا تنهزِم، فكان ذلك سببا في انتصاراته ونجاحاته كُلها..

العنصر الثالث: الإفادة من دروس السيرة والتاريخ نجاة للأمة من المهالك..

ففي ظل الظروف التي تمر بها أمتنا وفي تلك المرحلة العصيبة التي تعيشها أمة الإسلام ، وفي ظل التحديات العالمية ، وفي لوعة الحزن والشقاء وفي ظل أجواء الاعتداء والإيذاء يخشى كثير من أبناء الأمة الإسلامية على بلاد الإسلام وعلى المسلمين من تلك الظروف، ومن هذه التحديات ويعيش في قلق واضطراب..

والحل موجود في فقه السيرة النبوية وعلى رأس أحداثها نجاح الهجرة ورد كيد الأحزاب ..

وقراءة دروس التاريخ..

أين من اجتمعوا لقتله – صلى الله عليه وسلم – ليلة الهجرة؟ .. وحفظ الله نبيه ونصره عليهم ..

أين عبد الله بن أبي وزعيم المنافقين وأعوانه وتلامذته في ذلكم الزمان ؟!.

أين الأحزاب والمشركين والمنافقين واليهود بنو قريظة وبنو النضير والقينقاع ؟ ..

أين من حاربوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟

أين الذين أشعلوا نار الردة بعد موت الحبيب، صلى الله عليه وسلم، ارتدوا على أدبارهم أمام ثبات أهل اليقين.

أين قادة الحروب الصليبية؟!

أين المشركين والكفار ؟!..

أين جبابرة الاستعمار؟!..

أين المغول وجحافل التتار ؟!..

دحرهم الله وأبادهم وأبقى راية الإسلام خفاقة ترفرف في سماء الدنيا، يا صاح لا تخشى على الإسلام بدونك بل الخشية عليك بدون الإسلام (الألوكة)..

قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]..

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ

فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ**

مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ.

وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ**

وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ

أَينَ المُلوكُ ذَوي التيجانِ مِن يَمَنٍ

وَأَينَ مِنهُم أَكالِيلٌ وَتيجَانُ.

وَأَينَ ما شادَهُ شَدّادُ في إِرَمٍ

وَأينَ ما ساسَه في الفُرسِ ساسانُ .

وَأَينَ ما حازَهُ قارونُ من ذَهَبٍ

وَأَينَ عادٌ وَشدّادٌ وَقَحطانُ.

أَتى عَلى الكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدّ لَهُ

حَتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما كان .من ديوان أبو البقاء..

لقَدْ بشَّرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بانتصارِ الإسلامِ وظُهورِهِ مَهْما تكالبَتْ عليهِ الأعداءُ وتألَّبَتْ عليهِ الخُصومُ؛ فعن تَمِيمِ الدَّارِيِّ رضي الله عنه، قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((لَيَبْلُغَنَّ هَذا الأمرُ ما بَلَغَ الليلُ والنَّهارُ، ولا يَتْركُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاَّ أدخَلَهُ اللهُ هذا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أوْ بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلامَ، وذُلًا يُذِلُّ اللهُ بهِ الكفرَ))؛ أخرجَه الإمام أحمدُ وسنده صحيح.

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿تكونُ النُّبُوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ – تعالى -، ثم تكونُ خلافةٌ على مِنهاجِ النُّبُوَّةِ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ – تعالى -، ثم تكونُ مُلْكًا عاضًّا، فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ – تعالى -، ثم تكونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فيكونُ ما شاء اللهُ أن يكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ – تعالى -، ثم تكونُ خلافةً على مِنهاجِ نُبُوَّةٍ . ثم سكت﴾ . . .

يعني خلافة واتحاد إسلامي على منهاج النبوة في آخر الزمان .. والحديث أورده صاحب هداية الرواة ، وسنده حسن..

وهذا إمام الأنبياء فقد لاقى ما لاقى من أذى واضطهاد فلم يفقد الأمل يوما ، ففي رحلة الهجرة يلحقه في الطريق الفارس المغامر سراقة بن مالك وفي رأسه أحلام سعيدة بمائة ناقة من حمر النعم – جائزة قريش لمن يأتي برأس محمد حيًّا أو ميتًا – ولكن قوائم جواده تسوخ في الأرض ويدركه الوهن، وينظر إليه الرسول، ويكشف الله له عن الغيب المستور لدينه، فيقول له: ((يا سراقة، كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى؟))، فيعجب الرجل ويبهت، ويقول: كسرى بن هرمز؟ فيقول: “نعم”.

ويذهب الرسول إلى المدينة، ويبدأ في كفاح دائم مرير مع طواغيت الشرك، وأعوان الضلال، وتسير الحرب – كما هي سنة الله – سجالاً .

حتى تأتي غزوة الأحزاب، فيتألَّب الشرك الوثني بكل عناصره، والغدر اليهودي بكل تاريخه، ويشتد الأمر على النبي وأصحابه: قريش وغطفان، ومن في حلفهما من خارج المدينة، واليهود والمنافقون من الداخل، موقف عصيب صوَّره القرآن بقوله: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].

ففي هذه الساعات الرهيبة التي يذوي فيها عود الأمل، ويخبو شعاع الرجاء، ولا يفكر المرء إلا في الخلاص والنجاة … وفي هذه اللحظات والنبي يسهم مع أصحابه في حفر الخندق حول المدينة يصدون بحفره الغزاة، ويعوقون الطامعين العتاة، يُحدِّث النبي ﷺ أصحابه عن الغد المأمول، والمستقبل المرجو حين يفتح الله عليهم بلاد كسرى بفارس، وبلاد قيصر بالشام، وبلاد اليمن بالجزيرة، حديث الواثق المطمئن الذي أثار أرباب النفاق، فقالوا في ضيق وحنق: إن محمدًا يعدنا كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء وحده! أو كما قال القرآن: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12].(السابق)..

عَنْ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: ” لَمَّا كَانَ حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ عَرَضَ لَنَا فِي بَعْضِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ، لَا يَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، فاشْتَكَيْنَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ [ص:277] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهَا أَلْقَى رِدَاءَهُ وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَهَا وَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ السَّاعَةَ» ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَقَلَعَ الثُّلُثَ الْآخَرَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الْأَبْيَضَ» ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَقَلَعَ الثُّلُثَ الْآخَرَ وَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرَ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا السَّاعَةَ» أخرجه الإمام أحمد وسنده صحيح..

العنصر الرابع: الهجرة و (صناعة الأمل) ..

إن أمة الإسلام في عصرنا تعيش في محنة شديدة ، وبلاء عظيم ، ومن يقرأ سيرة النبي ﷺ وخاصة هجرة المصطفى من مكة إلى المدينة ساعيا إلى بلد تليد وأمل جديد .. يرى أن هذا التأييد الإلهي لنبيه ﷺ لهو أعظم دلائل قدرة الله تعالى على عون رسله وأولياؤه، وإذا أراد الله نصر المؤمنين خرق القوانين ، وقلب الموازين .

قال تعالى “: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍۢ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ “التوبة /٤٠.

فما أحسن أن نحي مناسبات الإسلام الضخمة ، ولكن الأحسن من هذا ألا نحي المناسبة فقط في فترة قصيرة من ليل أو نهار ، ولكن الأحسن منها أن نحيا نحن هذه المناسبة ..نحياها في كل ما أتت من ثمار نحياها أسوة وقدوة ، نحياها عبرة لا تغيب .(الهجرة الشيخ الشعراوي).

مع الدقة والتخطيط المحكم استطاع المطاردون أن يصلوا إلى النبي وصاحبه في الغار ، وكادوا أن يظفروا بهم ، ومعهم أعتى الأسلحة في عصرهم ، لولا أن أدركتهم عناية الله ، وتأييده ، ونصره لنبيه ودعوته .

وإن أهم درس تتعلمه أيه المسلم من الهجرة

“أن أخذك بالأسباب لابد أن يكون سابقا على اتكالك على المسبب ، والأسباب مخلوقة لله ، ويد الله ممدوة بالأسباب ، فلا ترد يد الله بأسبابه ” .

(الهجرة الشيخ الشعراوي).

لقد كانت رحلة الهجرة مغامرة محفوفة بالمخاطر التي تطير لها الرؤوس .

فالسيوف تحاصره عليه الصلاة والسلام أمام بيته ، وأعداء النبي ودعوته يلاحقونه على مدخل الغار، وفي طريقه إلى المدينة يلاحقه سراقة الفارس المدجج بالسلاح ليظفر بالجائزة المغرية التي رصدتها قريش و قدرها مائة ناقة لمن يعيد محمداً أو صاحبه حيين أو ميتين ، و في ظل هذه الظروف العصيبة كان النبي صلى الله عليه وسلم متوكلا على ربه توكلا حقيقيا آخذا بكل ما يملك من أسباب معتمدا على ربه ، واثقا من نصره وتأييده ..

فمهما اشتدت الكروب و كثرت الخطوب لا يدع المؤمن التوكل على ربه واثقاً من نصره ومعونته .

فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان .

فتوكل على الله واعتصم بكتابه وسنة نبيه ، فبيده وحده الضر والنفع ، والعطاء والمنع .

والتوكل الذي اتخذه النبي عليه الصلاة والسلام منهجا ، ودعا إليه ، ودل عليه ، كما يتضح من خلال سيرته وهجرته ، اتخاذ الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً عملا بقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح ” لو أنَّكم كنتُم توَكلونَ علَى اللهِ حقَّ توَكلِه لرزقتُم كما يرزقُ الطَّيرُ تغدو خماصًا وتروحُ بطانًا . أخرجه الإمام أحمد وسنده صحيح .

خِماصًا”، أي: جِياعًا وبطونُها فارغة ، وتعود في آخر النهار إلى عشها ومسكنها ، وقد مُلِئَتْ بُطونُها بالطَّعامِ، وهذا نوعٌ مِن أنواعِ الأخذ بالأسبابِ ..

يجب أن نتنقل أمة الإسلام من الأماني الفارغة إلى العمل الجاد، فالأماني الفارغة لا تُغير من الواقع شيئًا، فلا بد من العمل والأخذ بالأسباب ، مع التوكل على الله تعالى وليس علينا تحقيق النتائج،

إن نصر الله تعالى لا يعطى مجانا للمتكاسلين ، والنائمين ، وإن أمة الإسلام أمة نائمة بارك الله فيمن يوقظها ، أو يساهم في إيقاظها ، وايقاظ الأمة ليس بالدعاء للمجاهدين والمسلمين المستضعفين فقط على الرغم من ضرورته وأهميته ، بل بكل ما يملكه الإنسان المسلم من مقاطعة لمنتجات الأعداء ، ودعم مادي ومعنوى بكل يملك من قدرة ..

قالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : مَن جَهَّزَ غَازِيًا في سَبيلِ اللَّهِ فقَدْ غَزَا، وَمَن خَلَفَ غَازِيًا في سَبيلِ اللَّهِ بخَيْرٍ فقَدْ غَزَا. أخرجه الإمام البخاري ..

وأنكر القرآن الكريم على أهل الكتاب تعلُّقهم بالأماني في دخول الجنة ، بغير أسبابها ومُوجباتها من العمل والإيمان؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 111، 112].

وكان الإنكار على المسلمين أيضًا! فلا التسمي بالإسلام أو مجرد الانتساب إليه، يُنجِّي المسلم عند الله! قال تعالى: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 123، 124]..

وختاما :

علينا أن نتعلم من قدوتنا وأسوتنا صلى الله عليه وسلّم الذي كان يجعل من المحن منحا، ومن الألم أملاً، ولا يتحقق ذلك إلاّ من خلال الثقة بالله -عزّ وجلّ-

وإن المسلمين اليوم بحاجة إلى مَن يوقد في نفوسهم شعلة الأمل، حتى لا تُطفئَها رياح اليأس، وأعاصيرُ الإحباط والقنوط التي استحكمت في قلوب الكثير من الناس ..وبث روح الأمل ومعرفة قدره وضرورته في دين الله ، مهما كان الجراح، لعلّ في هذه التذكرة ما يُحفز النفوس للعمل، ويَشحَذُ همتها للعطاء، ويوقد شعلتها في القلوب. إلى أهلنا في أراضي العزة والشرف والصمود لا نبكي عليكم، فمن مات منكم مات شهيدا ، ومن عاش كان عزيزا ، ولكن نبكي على أنفسنا و ننعى غفلتنا عن أسباب الأمل ومقومات الانتصار .

أملنا في الله كبير، أن يتضامن المسلمون، ويعودون إلى كتاب ربهم وهدي نبيهم ، بعد أن أصبح تضامنهم ضد أعدائهم مطلباً ضرورياً، وأمراً حتمياً ، ويقظة رشيدة، لقادتهم وعلمائهم، وشبابهم ونسائهم، والله المستعان ..

يا إخوة الإسلام لا ننسى فضل يوم عاشوراءَ وفضل صيامه هو يومُ العاشرِ مِنَ الْمُحرَّمِ، وكانت قُرَيشٌ تَصومُه، فلمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم المدينةَ صامَه على عادتِه وأمَرَ بِصيامِه…

“…وَسُئِلَ النبي ﷺ عن صَوْمِ يَومِ عَاشُورَاءَ، فَقالَ:” يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ”. أخرجه الإمام مسلم ..وفي الصحيح يُخبِر عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم حِينَ صام يومَ عَاشُورَاءَ، وأمَر أصحابَه رَضِي اللهُ عنهم بصِيامِه، فقالوا له: «يا رسولَ الله، إنَّه يومٌ تُعظِّمُه اليَهُودُ والنَّصارَى» بالصَّومِ أيضًا؛ لأنَّه يومٌ نَجَّى اللهُ فيه مُوسَى عليه السَّلامُ مِن فِرْعَوْنَ وجُنودِه، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم -كما في الصَّحيحينِ-: «نحْنُ أَولى بمُوسى منهم، فصُومُوه»، أيْ: بِمُوافقَتِهِ في شُكرِ اللهِ تعالَى، والفَرحةِ بِنَجاتِهِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مُوافِقٌ لهُ في أَصلِ الدِّينِ، أمَّا اليهودُ فقدْ حرَّفوا وغيَّروا وبدَّلوا، فَصامَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وأَمَرَ النَّاسَ بِصيامِهِ …ثمَّ عَزَم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على أنْ يَصُومَ التَّاسِعَ مع العاشِرِ؛ لمُخالَفةِ أهلِ الكتابِ في صَومِهم العاشرَ فقطْ، ويُخبِرُ ابنُ عبَّاسٍ أنَّه لم يأتِ العامُ المُقبِلُ إلَّا وقد تُوفِّيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم .. (الدرر السنية)…

فاللهم اغفر ذنوبنا ،وكفر عنا سيئاتنا ، واهدنا سبلنا ، وأصلح أحوالنا ، وطهر قلوبنا ، وزكي نفوسنا ، واشرح صدورنا . و انصر الإسلام و أعز المسلمين، وأذل الشرك والصهاينة والمشركين، وارفع بعزتك كلمة الحق و الدين، يا حنان منَّان يا ذا الجلال والإكرام ..

اللهم فرج عن إخواننا المسلمين المستضعفين ، وارفع عنهم الظلم عاجلاً غير آجل، وفرج عنهم ما هم فيه من الضيق والهم والغم، اللهم عليك بمن ظلمهم، اللهم صبَّ عليهم سوط عذابك، اللهم شتت شملهم، وفرق صفهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعجل بوعدك ونصرك المبين.. واللهم احفظ بلدنا مصر وجيشها وأزهرها الشريف ووحدتها وأمنها وشبابها وأهلها من كل سوء ، وسائر بلاد المسلمين يارب العالمين.