بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
حين يُذكر الموت، تنقبض الأرواح وتضيق الأنفاس، لكن حين يُقال: “مات أخوك”، تنهار الدنيا في لحظة واحدة، ويهتز ما تبقّى في القلب من أمان. فموت الأخ ليس كأي موت، هو سقوط عمود من أعمدة النفس، وهو غياب وجه كنت تراه في أفراحك وأحزانك، في سكونك وغضبك، في صمتك وكلامك. الأخ ليس فقط شقيقك في النسب، بل هو شقيق روحك، ظلك الذي يمشي قبلك ويعود بعدك، درعك في مواجهة الدنيا، وكتفك حين ينهكك الحزن.
يموت الأخ، فيسقط البيت في صمت رهيب، حتى لو ضجّ بالبكاء. تختنق الأم، ويتحجر الأب، ويتوه الإخوة في صدمة لا يعرفون كيف يتعاملون معها. تحاول أن تصرخ، لكن الصوت لا يخرج، تحاول أن تبكي، لكن الدموع تتجمد. تظل تحدق في الجدران وكأنك تبحث عن أثره، عن ضحكته، عن صوته الذي كان يملأ المكان دفئًا. تمشي إلى سريره وكأنك تنتظر أن تراه نائمًا، فقط نائمًا.. لا ميتًا.
الأخ هو رفيق الطفولة وذكرياتها، هو من شاركك رغيف العيش ولعبة الحارة وضربات الحياة الأولى. هو من شهد على أول دمعة سقطت منك دون أن تبوح بها لأحد، فاحتضنك دون سؤال. كيف يموت الأخ؟ كيف يرحل وهو الذي كنت تظنه الأقرب لبقائك، والسند الذي لا ينكسر؟ من قال إن الموت يختار البعيد؟ ومن أخبرنا أن الوجع سيزورنا بهذه السرعة؟! وهل كنا مستعدين ليأخذ منا الله قطعة من أرواحنا ويتركنا نعاني من بعدها فُقدانًا أبديًّا؟
يموت الأخ، فتجد نفسك تائهًا وسط تفاصيل لم تعد كما كانت. الصور التي جمعتكما، الأغاني التي كنتم ترددونها سويًا، الأماكن التي ضحكتم فيها، حتى تلك الخلافات العابرة التي كنتم تتشاجرون بسببها.. كلها تتحول إلى خناجر تغرس في القلب مع كل ذكرى.
ما أقسى اللحظة التي تقف فيها أمام قبره، تنظر إلى التراب وتحدثه كأنك تنتظر ردًّا. تقول له: “ارجع بس دقيقة، دقيقة واحدة أقولك قد إيه أنا بحبك، وقد إيه أنا موجوع”. لكنه لا يسمعك، والصمت يبتلعك، والريح تمر فوق القبر وكأنها تواسيك بصمتها البارد.
وفي كل مناسبة، تشعر أن هناك كرسيًّا فارغًا لا يمتلئ أبدًا، وابتسامة ناقصة، وصوتًا غائبًا. تمر السنون ولا يُنسى، يكبر أبناؤك، وتعلو الحياة بصخبها، لكنك في كل لحظة ضعف، تبحث عن أخيك. تشتاقه في الفرح، وتحتاجه في الحزن، وتبكيه في الليل دون أن يراك أحد.
ويا ليت الألم توقف عند الفقد فقط، بل يمتد لكل سؤال بلا جواب: هل تألم؟ هل كان خائفًا؟ هل ودّع الدنيا وفي قلبه شيء؟ هل سمع دعواتنا أم كان الرحيل أسرع من كل النداءات؟ أسئلة لا تنتهي، ووجع لا يتوقف، وحزن يسكن في العمق لا يظهر للناس، لكنه ينهش كل ما بداخلك.
موت الأخ يعلمك أن الحياة لا تُؤتمن، وأن ما تراه حولك قد يتغير في رمشة عين. وأن الضحك قد يخفي تحته آلاف الدموع، وأن القلب قد يضحك أمام الناس لكنه يبكي في صمت كل ليلة. يعلمك أن الأخوة رزق، وأن الوداع قاسٍ، وأنك يجب أن تقول كل شيء جميل لمن تحب، قبل أن يصبح الصمت هو الجواب الوحيد.
أخي الغالي… يا من لم أودعك، ولم أصدق بعد أنك رحلت…
أكتب لك وأنا ممتلئ بك، مكسور بك، تائه من بعدك. أكتب لأنني أخاف أن أنساك، وأخاف أكثر أن أنسى نفسي في غيابك. الدنيا بدونك موحشة، كل شيء فيها صار ناقصًا. لم أعد أجد في الأيام طعمًا، ولا في الضحك راحة، ولا في الليل نومًا. كنت الأمان، فكيف أعيش بلا أمان؟ كنت الرفيق، فكيف أسير دون من يؤنس الطريق؟
أشتاقك في كل لحظة… في تفاصيل البيت، في الأحاديث، في الصور، في حتى المواقف التي كنا نضحك منها. أشتاق أن أسمع صوتك، أن تتصل بي وتسأل: “عامل إيه؟ محتاج حاجة؟”. أشتاق أن أُرَبّت على ظهرك، أن أحكي لك همومي، أن أراك تواسيني دون أن أطلب.
كل شيء فيّ يصرخ: “وحشتني”، لكني لا أقدر أن أبكي. لا أعلم لماذا… كأن شيئًا يكتم أنفاسي، كأنني أختنق من الداخل وأصمت، فقط أصمت، وكأنني لو بكيت.. سأنهار إلى الأبد.
أعلم أنك في مكان أرحم، في دار صدق عند رب رحيم، لكن القلب.. القلب موجوع يا أخي. موجوع حدّ الإنهاك.
وها أنا اليوم، أكتب عنك يا أخي، وكل حرف ينزف بدل الحبر وجعًا لا يُطاق. أكتب لأن الكلام هو كل ما تبقّى لي بعدك، أكتب لأنني لا أستطيع البكاء، والدمع قد جفّ في عيوني من شدة الكتمان. أصرخ داخلي كل ليلة، أُحدثك في صمتي، أعاتبك في غيابك، أبحث عنك في ظلي، في وجوه الناس، في الأحلام التي لم تعد تأتيني.
لا أحد يشعر بما أعانيه… الكل يظن أنني قوي، أنني تجاوزت رحيلك، لكنهم لا يعلمون أنني متّ معك بصمت، وأنني أتنفس فقط لأن الموت لم يرضَ أن يأخذني معك. لقد تركتني في دنيا لا تُطاق، في أيام كل لحظة فيها تحمل ذكراك كطعنة لا تندمل.
يا الله، خفف عني هذا الثقل، فهذا الحزن أكبر من قلبي، وأقسى من أن يُحتمل.