تفكيك (تفكيك مصانع إنتاج الإخوان)
18 يونيو، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

بقلم الدكتور : مصطفى حسن الأقفهصى ( أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية )
الرد على من أرجع أصول هؤلاء الموارق إلى الصحابة الكرام
ممَّا استقرت عليه البيئة العلمية، وارتضاه الجمع الأكبر من المسلمين: أنَّ جماعات الإسلام السياسي قد أضرت بالدين ضررًا بالغًا، وشوَّهت صورة الإسلام وسلف الأمة الكرام، حتَّى تلبس ذلك الصنيع السيئ على بعض الكتاب والمثقفين، ففهموا أن أصول أفعال هؤلاء المتطرفين وخاصة (الإخوان) ترجع إلى الصحابة، زمن الفتوحات والغزوات، وذهبوا يقررون قاعدة في غاية الخطورة وهي “من أراد تفتيت هؤلاء الخوارج فعليه أن يفتت مصانعهم..
ومن ذلك التصور الواهي: ما كتبه الكاتب الصحفي سعيد شعيب([1])؛ فقد كتب كتابًا بعنوان “تفكيك مصانع إنتاج الإخوان: لماذا نحارب الإرهابيين ولا نحارب الإرهاب؟”
في محاولة مُلحة لربط أفعال جماعة الإخوان؛ من الجرائم الوحشية والأفعال الدموية، بالمسلمين الأوائل من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، والذين حموا هذا الدين وسعوا في نشره بين العالمين، بأخلاقهم وسماحتهم وسعتهم لغيرهم، وتعايشهم مع المخالفين لهم..
فنجد أن الكاتب عنده قضية كبرى يحاول تقريرها وإقناع القارئ بها، وهي شغله الشاغل في تناول الموضوع، وقد وضع عنوان كتابه استدلالًا على ذلك وهو بيان المنبع أو الجذر أو (المصنع كما يعبر هو) الذي نبعت منه التيارات الإرهابية وعلى رأسها جماعة الإخوان..وهو يقرر أنَّ فكر الإخوان (الخوارج) ليست نبتة شيطانية ظهرت فجأة وعلى حين غفلة من الناس؛ بل هو فكرٌ متمدد وسلوك متجدد عبر القرون والأعصار، وهذا مما لا خلاف فيهأي: أن هذا الفكر له أساس نبع منه، وأصل بُني عليه، غير أن صاحب هذا الكتاب لم يرجع بهذا الفكر الإرهابي إلى أصوله المقررة وهم فرق الخوارج والبغاة، وإنَّما ذهب إلى أمرٍ عظيم الشأن خطير الأثر؛ حيث يدعي أن مصانع الإخوان نبعت أصلًا من الفكر الإسلامي وقضايا السلف الصالح وتصرفات الخلفاء الأربعة في بناء الدولة وإقامة الخلافة.
فأرجَعَ الإسلام السياسي والديكتاتوري إلى بداية تصرفات سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومن بعده، في الفتوحات الإسلامية وغيرها، ويسميهم مستعمرين:
فيقول في(ص 15): [مشروع الإخوان وعموم الإسلاميين هو ببساطة أن الإسلام دولةوخلافة، وهذه الدولة والخلافة كانا موجودين منذ أكثر من 1400 سنة، بعد أن تحول الإسلام من دين إلى (إمبراطورية استعمارية) اجتاحت العالم، وأثناء حكم هؤلاء المستعمرين لم تكن هناك حاجة إلى إقامة دولة الإسلام؛ لأنها قائمة بالفعل، فالحاكم يحكم بمشروعية الإسلام، فهو حاكم سياسي وديني في ذات الوقت..وبالتالي لم تكن هناك حاجة لما نسميه اليوم (الإسلام السياسي)، فقد كان موجودًا ويحكم، ويتم تطبيقه بدرجات متفاوتة.. ] اهـ.
ثم يأتي في (ص 17) ليقرر أن إقامة الجماعات الميليشيات العسكرية لتحقيق غايتها هو ما فعله سيدنا أبو بكر رضي الله عنه؛ فيقول: [ربما ستلاحظ أن هذا ما فعله بالضبط سيدنا أبو بكر رضي الله عنه؛ فبعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرر قادة قبيلة أن يحموا غيرهم باسم الإسلام وباسم سيدنا النبي، فتولى أبو بكر الحكم، وحارب كل الذين لا يخضعون لسلطانه ومنهم الذين أسماهم التاريخ العربي بـ (المرتدين)، وهم فقط رفضوا سلطته السياسية، ولم يرفضوا الإسلام كدين.. وأرادوا أن يستقلوا عن قريش ويحكموا أنفسهم بأنفسهم] اهـ.
ثم بعد ذلك يقرر في (ص 20): [إنَّ الإسلام ما كان دولة ولا يجب أن يكون] اهـ.
ويرى سعيد شعيب فيهذا الكتاب أن الإخواني ليس فقط من ينضم إلى التنظيم، ولكن هو كل من يؤمن أن الإسلام دولة وخلافة، فهو “إخواني” يؤمن بمشروعهم حتى لو لم ينضم إلى التنظيم، يؤمن بتأسيس دولة دينية ديكتاتورية تقمع المسلمين وغير المسلمين، تنشر الخراب والدمار.
ويتابع الكتاب بأن المفارقة المؤلمة هي: أن كثيرا منا يدافع عن هذه الأيديولوجيا باستماتة، وفى ذات الوقت يرفض تنظيم الإخوان، يحمى ويدافع”مصانع إنتاج الإخوان”، وفى ذات الوقت يرفض تنظيم الإخوان، يمدهم بالجنود والدعم الأيديولوجي، وفى ذات الوقت يطاردهم ويسجنهم لأنهم يريدون إقامة “دولة الإسلام والخلافة”، أي أننا نطارد الإخوان المسلمين ولا نغلق مصانع إنتاج الإخوان.. إلى آخر ما يقول به.
ولسنا هنا بصدد الرد على الكاتب وما حواه كتابه، ولكن من الممكن أن نذكر إجمالًا بأنَّ هذا كله راجع إلى فكرة الإسلام وأصول الحكم، والذي كتب فيها بهذا العنوان الشيخ علي عبد الرازق رحمه الله، وهو مشروع قائم على أساس القضاء على فكرة الخلافة من أساسها، وأن الإسلام دين وليس دولة أو خلافة، وأن سيدنا النبي كان رسولًا وليس ملكًا، وأنه لا يوجد في القرآن ولا في الأحاديث ما يدعم أن الإسلام دين ودولة، ومعاذ الله أن يجعل عز الدين وذله منوطين بنوع من الحكومة، ولا بصنف من الأمراء، ولا يريد الله جل شأنه لعباده المسلمين أن يكون صلاحهم وفسادهم رهن الخلافة، ولا تحت رحمة الخلفاء؛ كما يقول الكاتب عبد السميع جبيل.
والذي عليه العلماء المعتبرون عبر القرون أنه لا تعارض بين الدعوة للوحدة الوطنية وبين الشريعة الإسلامية، والدولة في الإسلام، فإنها تؤلف بين مواطنيها جميعًا وتوحد صفوفهم على خير نظام لإدارة شؤون الدنيا والحياة في إطار سيادة القانون.
وأن الإسلام دينًا ودولة، يدعو إلى التعايش السلمي والتماسك بين طوائف المجتمع، والبناء على الأسس المشتركة، ونبذ العنف والفتنة بين رعايا الدولة وأطيافها؛ قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ١٣﴾[الحجرات: 13].
وأن الله سبحانه جعل التعددية سببًا دافعًا للتعارف والتواصل لا للتصارع والتقاطع، فأمر عز وجل بدعوة الآخرين إلى سبيل الرشاد بالكلمة الحكيمة التي تستنير بها العقول، وبالموعظة الحسنة التي تهتز لها القلوب، وإذا تطلب الأمر الجدال لإظهار الحق فليكن بالتي هي أحسن؛ حتى لا يئول إلى التعصب الأعمى والبغضاء، فإذا حصل البيان وظهر البرهان وعاند المخاطَب فأعرض عن قبول الحق فحينئذٍ تنتهي مهمة تبليغ الرسالة الإلهية الأخيرة إلى البشر، وأمره إلى الله، ولله الحجة البالغة؛ قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾، وقال سبحانه:﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256].
وأن الدولة في الإسلام يأمن فيها أصحابُ الديانات السماوية على حريتهم التامة في البقاء على عقائدهم وشعائرهم، كما أثبت ذلك التاريخُ الطويلُ لتعايشهم مع المسلمين على مر العصور في الأوطان الإسلامية، وأنه في حالة وقوع العدوان من الآخرين على أبناء الإسلام، فالجزاء المستحق هو المعاقبة بالمثل دون زيادة أو إفراط في الانتقام.
فلم تكن إمبراطورية استعمارية كما ادَّعى صاحب الكتاب، ولم يكن إسلامًا سياسيًّا بالمعنى الذي وصلت إليه جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسهم جماعة الإخوان؛ لأن السياسة في النسق الإسلامي كانت تتسق وتنضبط ضمن معايير القِيَم والأخلاق، وما به صلاح الدنيا وعمارتها، وما يدفع عن الناس الأذى والضرر؛ فهي كما قال ابن عقيل: ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، فالسياسة الشرعية -كما ذكرنا في ثنايا البحث- جزءٌ لا يتجزَّأ من الدين، لا تُناقض أصوله، ولا تُخالف أحكامه، ولا تكرُّ على مقاصده الشرعية ومصالح المرعيَّة بالتعطيل والبطلان.
لقد تواتر واقع المسلمين الفعلي على أن الإسلام دين ودولة، وأنهما متلازمان، وأنَّ قضية بناء الدولة مقصدٌ عظيمٌ من مقاصد الدين، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وخلفاءه من بعده- إلى جانب الدعوة وإبلاغ الدين أقاموا حكمًا وشيَّدوا دولة لها مقوماتها وأركانها، ولها دستورها وكيانها.
وقد ألَّف أبو القانون عبد الرزاق باشا السنهوري كتابًا ماتعًا حافلًا أسماه (فقه الخلافة وتطورها)، يقول فيه (ص: 105، ما بعدها): [الإسلام دين ودولة.. وكما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حامل الرسالة الإسلامية، فلقد كان مؤسس الدولة الإسلامية أيضًا] اهـ.
([1]) سعيد شعيب صحفي عمل مديرا لتحرير صحيفة اليوم السابع، وشغل منصب رئيس مركز صحفيون متحدون، كما عمل في العديد من الصحف المصرية والعربية.