خطبة بعنوان (إذا أردت السلامة من غيرك فاطلبها في سلامة غيرك منك)
لفضيلة الدكتور أيمن حمدى الحداد
لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
alsalamamen gaerek alhadad
نص الخطبة:
الحمد لله كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله اللهم صلّ وسلم وبارك عليه حق قدره ومقداره العظيم وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين ومن أتبع هداهم إلى يوم الدين
أما بعد؛ فيا أيها المسلمون:
إن الإنسان إذا أراد يعيش في سلام، يكفل له التفرُّغ لبناء حياته، والإسهام في بناء مجتمعه فيجب عليه أن يكف عن إيذاء الناس، وأن يعاملهم بما يُحب أن يُعاملوه، ولقد حذر ديننا الحنيف من إيذاء الناس أو الإساءة إليهم، أو التطلع إلى معرفة أسرار حياتهم الخاصة بأي وسيلة، قال تعالى:﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾(اﻷحزاب: ٥٨)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾(الأحزاب: ٦٩)، وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «من حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعنيهِ» رواه الترمذي.
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال رسول الله ﷺ: «المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه» رواه مسلم.
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسولُ اللهِ ﷺ المنبر فنادَى بصوتٍ رفيعٍ فقال: «يا معشرَ من أسلمَ بلسانهِ ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبهِ، لا تُؤذُوا المسلمينَ ولا تُعيّروهُم ولا تَتّبعوا عوراتهِم، فإنه من يتبِعْ عورةَ أخيهِ المسلمِ تتبعَ اللهُ عورتَهُ، ومن يتبعِ اللهُ عورتهُ يفضحْه ولو في جوفِ رحلهِ» رواه الترمذي.
لا تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سَتَرُوا
فَيَهْتِكَ الله سِتْراً مِنْ مَسَاوِيكَا
وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إِذَا ذُكِرُوا
وَلا تَعِبْ أَحَداً عَيْباً بِمَا فِيكَا
عباد الله: إن من أخطر مظاهر التعدى على حقوق الناس الخوض فى أعراضهم ونشر أسرارهم ومحاولة اقتحام خصوصياتهم؛ ولقد علم الصالحون أن الإنسان مسؤول عن كلّ لفظ يخرج من فمه حيث يسجل ويحاسب عليه؛ قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾(ق: ١٨)، وعنْ أَبي هُريرَة رضي الله عنه قَالَ: قال رسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ وَقَاهُ اللَّه شَرَّ مَا بيْنَ لَحْييْهِ، وشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الجنَّةَ» رَوَاه التِّرمِذي وقال: حديث حسنٌ.
وَعَنْ عُقْبةَ بنِ عامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَا رَسول اللَّهِ مَا النَّجاةُ؟ قَال: «أمْسِكْ عَلَيْكَ لِسانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بيْتُكَ، وابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» رواه الترمذي وقالَ: حديثٌ حسنٌ.
وصدق القائل:
احـفظ لســانك أيهـا الإنســـــان
لا يلــــدغـنـــك إنـــه ثعــبـــان
كـم فـي المقابر مـن قتيل لسـانه
كـانت تخــاف لقـاءه الشــجعان
لذلك كان الصالحون يحرصون على حفظ ألسنتهم عن فضول الكلام من أمثلة ذلك؛
– أبوبكر الصديق رضي الله عنه؛ لقد دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر الصديق وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مه، غفر الله لك، فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد.
– وكان عمر رضي الله عنه يقول: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به.
– وكان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيراً تغنم، أو اسكت عن سوء تسلم، وإلا أنك ستندم. فقيل له: يا ابن عباس! لم تقول هذا؟ قال: إنه بلغني أن الإنسان ليس على شيء من جسده أشد حنقاً أو غيظاً منه على لسانه، إلا من قال به خيراً، أو أملى به خيراً.
– وكان ابن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.
– وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: ما اتَّقى اللَّهَ أحدٌ حَقَّ تُقاتِه حتَّى يَخزُنَ من لسانِه.
– وقال عَمرُو بنُ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: الكَلامُ كالدَّواءِ؛ إن أقلَلْتَ منه نَفَع، وإن أكثَرْتَ منه قَتَل.
– وقال مالِكُ بنُ دينارٍ: كان الأبرارُ يتواصَون بثلاثٍ: بسَجنِ اللِّسانِ، وكَثرةِ الاستِغفارِ، والعُزلةِ.
– وعن الحَسَنِ قال: ما عَقَلَ دِينَه مَن لم يَحفَظْ لِسانَه.
– وعنه قال: اللِّسانُ أميرُ البَدَنِ، فإذا جنى على الأعضاءِ بشيءٍ جَنَت، وإن عَفَّ عفَّت.
– قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: من علم أن كلامه من عَمَلِهِ، قل كلامه إلا فيما يعنيه.
ولقد دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئاً
فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾(الحجرات: ٦)، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾(القلم: ١١﴾، وإن شئت عفونا عنك؟
فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً.
– ولقد كان إبراهيم النخعي إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية: قولي له اطلبه في المسجد ولا تقولي له ليس هاهنا كيلا يكون كذباً.
– وقال محمد بن عجلان: إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وتقرأ القرآن، وتسأل عن علم فتخبر به، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك. فليس الكلام مأمورا به على الإطلاق ولا السكوت مأموراً به على الإطلاق، بل لا بد من الكلام في الخير العاجل والآجل، والسكوت عن الشر الآجل والعاجل، واللسان ترجمان القلب والمعبر عنه وقد أمرنا باستقامة القلب واللسان، قال ﷺ: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» رواه الإمام أحمد في مسنده.
– قال جبير بن عبد الله: شهدت وهب ابن منبه وجاءه رجل فقال: إن فلاناً يقع منك، فقال وهب: أما وجد الشيطان أحداً يستخف به غيرك؟ فما كان بأسرع من أن جاء الرجل، فرفع مجلسه وأكرمه.
– ولقد اغتاب رجل عند معروف الكرخي فقال له: اذكر القطن إذا وُضع على عينيك.
–قال شيخ الإسلام ابن تيمية موضحاً حال الكثيرين: ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ من أكل الحرام والظلم والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى ذلك الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول!!
– ولقد روى الربيع بن صبيح أن رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد إني أرى أمراً أكرهه
قال: وما ذاك يا ابن أخي؟
قال: أرى أقواماً يحضرون مجلسك يحفظون عليك سقط كلامك ثم يحكونك ويعيبونك
فقال: يا ابن أخي: لا يكبرن هذا عليك، أخبرك بما هو أعجب
قال: وما ذاك يا عم؟
قال: أطعت نفسي في جوار الرحمن وملوك الجنان والنجاة من النيران ومرافقة الأنبياء ولم أطع نفسي في السمعة من الناس، إنه لو سلم من الناس أحد لسلم منهم خالقهم الذي خلقهم، فإذا لم يسلم من خلقهم فالمخلوق أجدر ألا يسلم.
– ولقد قال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأسواري مازال يذكُرك في قصصه بشرٍ.
فقال له عمرو: يا هذا، ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه أن الموت يعُمنا والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا، والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين.
– وقال محمَّدُ بنُ واسِعٍ لمالِكِ بنِ دينارٍ: يا أبا يحيى؛ حِفظُ اللِّسانِ أشَدُّ على النَّاسِ مِن حِفظِ الدِّينارِ والدِّرهَمِ.
– وإن من أبشع أنواع الأذى الذى يلحقه البعض بخلق الله التنمر والاستخفاف بشأنهم؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(الحجرات: ١١)، وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه» رواه بن حبان.
لقد نسى البعض أن الحكم على الإنسان لا يكون لمجرد هيئته؛ لقد مرَّ على سيدنا رسولِ اللهِ ﷺ رجلٌ، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: «ما تقولونَ في هذا الرَّجلِ؟ قالوا: رأيَكَ في هذا، نقولُ: هذا من أشرافِ النَّاسِ، هذا حريٌّ إن خطبَ، أن يخطَّبَ، وإن شفعَ، أن يشفَّعَ، وإن قالَ، أن يسمعَ لقولِهِ، فسَكتَ النَّبيُّ ﷺ، ومرَّ رجلٌ آخرُ، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: «ما تقولونَ في هذا؟ قالوا: نقولُ، واللَّهِ يا رسولَ اللهِ، هذا من فقراءِ المسلمينَ، هذا حريٌّ إن خطبَ، لم ينْكح، وإن شفعَ، لاَ يشفَّع، وإن قالَ ، لاَ يسمع لقولِهِ، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: «لَهذا خيرٌ من ملءِ الأرضِ مثلَ هذا» رواه ابن ماجة.
اللـــــــه قد أثنى عليك
فهل لمن أثنى عليه الهـــــــه اطراء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى
فالكل فى حق الحياة سواء
لو أن انسانا تخير ملــــــــة
ما اختار إلا دينك الفقــــــــــراء
– وعن أنس رضى الله عنه أنَّ رجلًا مِن أهلِ الباديةِ كان اسمُه زاهِرًا وكان يُهدي إلى النَّبيِّ ﷺ الهَديَّةَ فيُجَهِّزُه رسولُ اللهِ ﷺ إذا أراد أن يخرُجَ فقال رسولُ اللهِ ﷺ إنَّ زاهرًا بادِيَتُنا ونحن حاضِروه وكان النَّبيُّ ﷺُ يُحِبُّه وكان دَميمًا فأتى النَّبيُّ ﷺ يومًا وهو يبيعُ متاعَه فاحتَضَنه مِن خَلفِه وهو لا يُبْصِرُه فقال أرْسِلْني مَن هذا؟ فالتفَت فعرَف النَّبيَّ ﷺ فجعَل لا يَأْلو ما ألصَقَ ظَهرَه بصَدرِ النَّبيِّ ﷺ حينَ عرَفه وجعَل النَّبيُّ ﷺ يقولُ: «مَن يشتري العبدَ؟
فقال يا رسولَ اللهِ: إذن تجِدَني كاسِدًا فقال النَّبيُّ ﷺ: «لكنَّك عندَ اللهِ لَسْتَ بكاسِدٍ أو قال عندَ اللهِ أنت غالٍ» الأصابة لابن حجر.
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه
فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
فقد رفع الاسلامُ سلمانَ فارسٍ
وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ الشَّرِيْفَ أَبَا لَهَبْ
– ولقد جأء فى الحديث: «أَنَّ امْرأَةً سَوْداءَ كَانَتَ تَقُمُّ المَسْجِد -أَوْ: شَابًّا- فَفقَدَهَا رسولُ اللَّه ﷺ، فَسَأَلَ عَنْهَا – أَوْ: عنْهُ – فقالوا: مَاتَ. قَالَ: أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي، فَكَأَنَّهُمْ صغَّرُوا أَمْرَهَا –أَوْ: أَمْرهُ- فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ، فدلُّوهُ، فَصلَّى عَلَيه، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُور مملُوءَةٌ ظُلْمةً عَلَى أَهْلِهَا، وإِنَّ اللَّه تعالى يُنَوِّرهَا لَهُمْ بصَلاتِي عَلَيْهِمْ» متفقٌ عَلَيهِ.
فاتقوا الله عباد الله: ولا تزدروا خلق الله، ولا تنمروا بهم، واعلموا أن المسلم الحق من أمن الناس منه ومن سلم الناس منه.
أقول قولى هذا واستغفر الله لى ولكم
.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: إن العبد إذا أراد أن يعيش وينعم بالسلام الحقيقي فعليه بطهارة قلبه من الاحقاد والضغائن والحسد وغيرها من الأمراض؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَاتَحَاسَدُوا، ولَا تَنَاجَشُوا، ولَا تَبَاغَضُوا، ولَا تَدَابَرُوا، ولَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، ولَا يَخْذُلُهُ، ولَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -ويُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، ومَالُهُ، وعِرْضُه» رواه مُسْلِمٌ.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنَّا يوماً جلوساً عند رسولِ اللهِ ﷺ فقال: «يطلُعُ عليكم الآن من هذا الفجِّ رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ قال فطلع رجلٌ من الأنصارِ ينفضُ لحيتَه من وضوئِه، قد علَّق نعلَيْه في يدِه الشِّمالِ، فسلَّم، فلمَّا كان الغدُ قال ﷺ مثلَ ذلك فطلع ذلك الرَّجلُ، وقاله في اليومِ الثَّالثِ، فطلع ذلك الرَّجلُ، فلمَّا قام النَّبيُّ ﷺ، تبِعه عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ، فقال له: إنِّي لاحيْتُ أبي، فأقسمتُ ألَّا أدخُلَ عليه ثلاثًا، فإن رأيتُ أن تئويَني إليك حتَّى تمضيَ الثَّلاثُ فعلتُ؟ فقال: نعم. فبات عنده ثلاثَ ليالٍ، فلم يرَه يقومُ من اللَّيلِ شيئاً، غيرَ أنَّه إذا انقلب على فراشِه ذكر اللهَ تعالَى، ولم يقُمْ حتَّى يقومَ إلى صلاةِ الفجرِ، قال غيرَ أنِّي ما سمِعتُه يقولُ إلَّا خيراً، فلمَّا مضت الثَّلاثُ، وكِدتُ أن أحتقِرَ عملَه، قلتُ: يا عبدَ اللهِ، لم يكُنْ بيني وبين والدي غضَبٌ ولا هِجرةٌ، ولكنِّى سمِعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: كذا وكذا، فأردتُ أن أعرِفَ عملَك، فلم أرَكَ تعملُ عملًا كثيراً، فما الَّذي بلغ بك ذلك؟! فقال: ما هو إلَّا ما رأيتَ، فلمَّا ولَّيتُ دعاني فقال: ما هو إلَّا ما رأيتَ، غيرَ أنِّي لا أجدُ على أحدٍ من المسلمين في نفسي غِشّاً ولا حسَداً، على خيرٍ أعطاه اللهُ إيَّاه قال عبدُ اللهِ: فقلتُ له هي الَّتي بلغت بك، وهى الَّتي لا نُطيقُ» رواه النسائي وأحمد.
لقد حملت لنا قصة هذا الرجل فوائد عديدة من ذلك؛
– سلامة القلب لها عظيم الأثر في سعادة المرء في الدنيا والآخرة؛ فلا يكاد العبد ينتفع بشيء في دنياه وآخرته، أعظم من انتفاعه بسلامة قلبه، سلامته من الشرك والنفاق والرياء والكبر والعجب وسائر الأمراض التي تعتريه، قال خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلا تُخزِنِي يَومَ يُبعَثُونَ يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ﴾(الشعراء: ٨٧-٨٩)، وقال تعالى: ﴿وَإِبرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾(النجم: ٣٧)، فإبراهيم ابتلاه الله بكلمات فأتمهن فجعله الله للناس إمامًا: ﴿إِذ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلبٍ سَلِيمٍ﴾(الصافات: ٨٤)، والناس إذا شعر أحدهم بأي مرض عضوي يعتري قلبه من قلة نبضات أو سرعتها، أو أي نوع من تلكم الأمراض التى تُصيب القلوب، فإنه يبادر وبسرعة بالذهاب إلى الأطباء، ويسأل عن أعلم أهل الطب بطب القلوب، ويبحث عن أكثرهم خبرة وأحذقهم تطبيباً، ولم يدَّخِر وسعاً في الذهاب إليه، ولو كلَّفه ذلك الغالي والنفيس، بيد أن البعض لا يُعطى لمعاجلة قلبه من الأمراض المعنوية أدنى اهمتمام، وكأنه لا يعلم أنه لن ينتفع بشىء مثل انتفاعه بسلامة قلبه من الشك والشرك والشقاق والنفاق، والرياء، والأحقاد، والغل والحسد…
– صلاح القلب يصلح به سائر الجسد، فعن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال النبي ﷺ: «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْب» رواه مسلم.
قال العلامة ابن رجب رحمه الله: فالقلب ملك الجوارح وسلطانها، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له، المنقادة لأوامره، فإذا صلح الملك صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامر، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره و نواهيه.
وقال: فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم القيامة عند الله غيره، وهو أن يكون سليماً عن جميع ما يكرهه الله من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته، ومحبته ما يحبه الله وإرادة ذلك وكراهة ما يكرهه الله والنفور عنه.
والقلب الفاسد: هو القلب الذي فيه الميل إلى الأهواء المضلة والشهوات المحرمة، وليس فيه من خشية الله ما يَكُفُّ الجوارح عن اتباع هوى النفس.
– والقلب المنيب يورث صاحبه الجنة؛ قال تعالى:﴿وَأُزلِفَتِ الجَنَّةُ لِلمُتَّقِينَ غَيرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُون لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّن خَشِيَ الرَّحمَنَ بِالغَيبِ وَجَاءَ بِقَلبٍ مٌّنِيب ادخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَومُ الخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَينَا مَزِيدٌ﴾(ق: ٣١-٣٥)،
– والله سبحانه وتعالى ينظر إلى القلوب والأعمال، ويُجازي عليها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم»رواه مسلم.
فاتقوا الله عباد الله: واهتموا بصلاح قلوبكم وبسلامة قلوبكم تفوزوا برضوان ربكم جل وعلا.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وأقم الصلاة
كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
الجمعة ٢٤ ذو الحجة ١٤٤٦ هـجرياً
الموافق ٢٠ من يونيو ٢٠٢٥ ميلادياً