احترام الخصوصية من لوازم الشخصية ومن آداب المسلم في الشريعة الإسلامية

جمع وترتيب د : محمد سالم الصعيدي الشافعي الأزهري
الأستاذ المشارك بجامعة الأزهر الأنور

 

لتحميل الملف pdf اضغط أدناه
aihtiram alkhususiat min lawazim alshakhsiat al’iislamia

 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه ومن والاه وبعد؛؛

لا شك أن الشريعة الغراء جاءت لإسعاد البشرية, وذلك من خلال تنظيم العلاقات, والحفاظ على الحرية الشخصية, إعمالا بمبدأ أنت حر مالم تضر!

وفي الحديث الذي رواه الإمام مالك عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «‌لَا ‌ضَرَرَ ‌وَلَا ‌ضِرَارَ » وقد علق العلماء على هذا الحديث بقولهم: “‌لا ‌ضرر ‌ولا ‌ضِرار”، أيْ لا يضُرُّ الانسان أخاه فينْقصُه شيئا من حقه، ولا يجازى من ضَرَّه بإدخال الضرر عليه، بل يعفو. فالضرر فعلُ واحد، والضِرَار فعل اثنين. فالأول ‌إلَحاق ‌مفسدة بالغير مطلقا، والثاني الحاقها به على وجه المقابلة، أيْ كل منهما يقصد ضرر صاحبه بغير جهة الاعتداء بالمثل

فهذه قاعدة عامة، أغلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها منافذ الضرر والفساد، سواء أكان الضرر فيه منفعة تعود على المضر أم لا، وإذا نهي عن الضرر كان الأمر بضده، وهو مراعاة المصالح بين الناس، ثابتاً بالمفهوم المخالف، لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما.

ثالثاً: قوله صلى الله عليه وسلم:«الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ – أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ – شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» ( صحيح مسلم) فقد حدد الحديث حقيقة الدين بين طرفين اثنين، يبدأ أولهما بعقيدة التوحيد، حيث يمتد الدين من هذه البداية منتهياً بأبسط شيء يعود على المجتمع بالمصلحة العامة، وهو إماطة الأذى عن الطريق, فما بالك بإماطة الأذى عن أخيك المسلم!

 

 

من نماذج احترام الخصوصية في البيت النبوي

كان بيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج الأعظم, والقدوة الحسنة, ليس فقط في شخص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل وفي أزواجه وكل من دنا من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما رأينا مثلا؛ أن إحدى أزواجه صلى الله عليه وسلم تسترق السمع, أو تتسلل خلسة لتعرف ما يدور في بيت صاحبة من صواحبها! بل التزمن الأدب, وحدود الخصوصية, ولم تفكر واحدة منهن, – رضوان الله عليهن- أن تفكر مجرد تفكير أن تسترق السمع, أو تستمع لحديث يدور بين الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وبين إحدى زوجاته!

 

الخصوصية من خلال سورة النور

بل وأبعد من ذلك, فإن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تأتيه المرأة من النساء, تستفتيه أو تسأله في حكم أو أمر من الأمور في الدنيا والدين, فما تسلل الشك يوما إلى قلب إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم أن تستمع أو تختلس فتعرف ما يدور بينهما, وهذا أمر فطري, غريزي في قلوب النساء, ولكن عند أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بات في حكم المحرم, فما اقتربن منه أبدا, ولا فكرن فيه, والدليل على ذلك ما ورد من أمر المرأة التي جاءت تشكو لسيدنا رسول الله صلى الله من زوجها وصور القرآن تلك المجادلة في سورة عرفت بالمجادلة, تبين تلك الحالة تبدأ بقول الحق جل جلاله: “قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ ”  [المجادلة: 1] ففي الحديث عَنْ السيدة عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتْ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، تَشْكُو زَوْجَهَا، وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1](سنن ابن ماجة) فأمنا عائشة –رضي الله عنها- لم تشأ أن يدفعها الفضول لترى أو تتسمع ما يحدث في بيتها بين زوجها صلى الله عليه وسلم، وبين أحد الضيوف؛ خاصة عندما يكون امرأة, ذلك الملمح الذي يبين مدى سعة أفق أمنا عائشة، ومدى السمو في العلاقات الزوجية، ومدى الثقة التي ينبغي أن تكون  بين الزوجين, واحترام الخصوصية, حتي في البيت الواحد, وهذا ينقلنا للحديث عن أمر أخر ألا وهو الآداب الإسلامية, وما يتعلق منها بالخصوصية واحترام تلك الخصوصية.

سورة النور, من أعظم سور القرآن, التي تناولت مجموعة من القيم والمبادئ والتشريعات, التي تنظم العلاقات بين الناس, منها تنظيم علاقات الأفراد بعضهم البعض, وتنظيم العلاقات داخل المجتمع المسلم, وعدم تعدي فرد على حقوق غيره, وكذا, تنظيم العلاقات داخل البيت المسلم.

حيث تبدأ بقول الله جل جلاله ﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النور1)والحق أن هناك العديد من القيم التربوية التي تضمنتها تلك السورة العظيمة, من بين هذه الآداب

احترام الخصوصية متمثلا فيما يعرف بالاستئذان وذلك في أكثر من موضع
ولكن أولا: ما معني الاستئذان؟
والفرق بينه وبين الاستئناس؟ وعلاقته بالخصوصية.

الاستئذان في اللغة معناه طلب الإذن, وفي عرف الفقهاء طَلَبُ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ لِمَحَلٍّ لَا يَمْلِكُهُ الْمُسْتَأْذِنُ, أما الاستئناس طلب الإيناس، والإيناس من الأنس وهو ضد الوحشة, وهنا ملمح لطيف, أن الآية لا تكتفي بمجرد الإيذان, بل وتنوه على الأنس, واللطف, فربما يقابلك الرجل مجبرا, أو مضطرا, لشيء بينكما! أو لأنه لديه ما يشغله عن تقديم واجب الضيافة لك في تلك اللحظة, كأن تكون لديه مشكلة في بيته, أو عنده مكروه, أو عنده أمر لا يريدك أن تطلع عليه, فلذا نجد جمال التعبير القرآني في قول الله جل جلاله  ” يَٰٓأَيُّهَاٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَبُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ 27 فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَدٗا فَلَا تَدۡخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤۡذَنَ لَكُمۡۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ٱرۡجِعُواْفَٱرۡجِعُواْۖ هُوَ أَزۡكَىٰ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ 28″ [النور] 

وهو أن يفعل الزائر أو يقول قدر ما يعلم أن أصحاب البيت قد شعروا به: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) (6) (النساء) فادخلوا. ولمّا سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الاستئذان قال: «يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة، وينحنح ويؤذن أهل البيت» أخرجه ابن ماجه.

والسنّة في الاستئذان ثلاث مرات إلا لو علم المستأذن أنه لم يسمع، وفي هذا الحديث درس عظيم, حيث يروي الشيخان –y- عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: كُنْتُ جَالِسًا بِالْمَدِينَةِ فِي مَجْلِسِ الْأَنْصَارِ، فَأَتَانَا أَبُو مُوسَى فَزِعًا أَوْ مَذْعُورًا قُلْنَا: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ آتِيَهُ، فَأَتَيْتُ بَابَهُ فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَرَجَعْتُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنَا؟ فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُكَ، فَسَلَّمْتُ عَلَى بَابِكَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ» فَقَالَ عُمَرُ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا أَوْجَعْتُكَ. فَقَالَ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَا يَقُومُ مَعَهُ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، قَالَ: أَبُو سَعِيدٍ: قُلْتُ أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، قَالَ: فَاذْهَبْ بِهِ(الشيخان)

وفي هذا الحديث عدة فوائد لعل من أهمها كما أوضح الإمام ابن حجر – رحمه الله- أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْكَبِيرَ الْقَدْرِ الشَّدِيدَ اللُّزُومِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ أَمْرِهِ وَيَسْمَعُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْبَلُ الْخَبَرَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ, ولعل ما يعنينا فيه هو الاستئذان ثلاثا, فإن لم يؤذن له رجع

والاستئذان ترك الناس العمل به لاتخاذهم الأبواب والأجراس وسمّاعات الصوت. وإذا سئلت: من بالباب؟ فلا تقل أنا، بل قل اسمك وحاجتك، وابدأ بالسلام، وفي الحديث: «من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له»

فمن الأدب الرباني, ومن القيم النبوية, أن تتبع الآتي:

  • إن دخلت بيتا غير بيتك أو غير بيت أهلك من الدرجة الأولى عليك بالقرع على الباب أو الدق على الجرس أو استخدام أي وسيلة تنبيه ثلاث مرات متفرقات, بقدر التسبيح والتحميد والتهليل

  • ثم السلام علي أهلها سلاما كاملا بقولك السلام عليكم أو السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت

  • التعريف بنفسك فلا تقل أنا! وإنما تقول أنا فلان

  • ثم أن تأنس من جانب أهلها بشرا ولطفا وإقبالا وفرحا وإلا فعد

  • فإن قيل لك أن الوقت غير مناسب فلتعد ولا تبتئس فإن القرآن قال وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ

  • غض البصر وعدم محاولة الاطلاع على ما في جوف البيت, أو التفيش والسؤال على النوايا, أو محاولة معرفة أمر لم يبده صاحب البيت لك, ولذا نجد أن الحق جل جلاله يتبع تلك الآية بقوله ﵟقُللِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡأَبۡصَٰرِهِمۡﵞ[النور: 30] 

  • احترام الخصوصية وعدم الاطلاع وتتبع العورات ولذا في الحديث المسلمُ أخو المسلمِ لا يظلِمُه ولا يُسلِمُه مَن كان في حاجةِ أخيه كان اللهُ في حاجتِه ومَن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّج اللهُ بها عنه كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ ومَن ستَر مسلمًا ستَره اللهُ يومَ القيامةِ (صحيح ابن حبان)

ولذا نجد الشريعة حريصة علي اختيار الصديق, وتخير من يدخل البيوت من ذلك قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تصاحبْ إلا مؤمنًا ، ولا يأكلْ طعامَك إلا تقيٌّ.( أبو داود)

ولا شك أننا بحاجة لهذا الأدب, في كل حياتنا, فربما يتصل عليك الشخص وأنت في عمل أو في وضع لا يسمح لك أن ترد عليه, فإذا ما اغلقت الهاتف أو لم ترد عليه, زمجر واتهمك بالكبر والصلف, دون أن يجد لك مبررا!  أو يختلق لك عذرا!

مع أن الأصل حسن النية, والاستئذان أولا, بأن ترسل له رسالة نصية مثلا؛ خصوصا وأن الكثير ربما يستخدم الهاتف فيما لا يفيد, وربما كان الحديث لا طائل منه! وعليه فإن الأصل أن تستشعر وأن تلمس لطفا من صاحبك الذي تهاتفه فإن علمت منه أنك تثقل عليه لأمر عنده, أو عمل ينجزه فاحترم حقه, ولا تثقل عليه!

موضع أخر في أدب الاستئذان مع الأهل وملمح بلاغي غاية في اللطف صرح به كتاب ربنا في قول الحق جل جلاله ” يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ  وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ لَّكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ وَلَا عَلَيۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّٰفُونَ عَلَيۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ” [النور: 58] 

فتلك الآية الراجح أنها محكمة, تشتمل على آداب عظيمة, وقيم رفيعة, فإن كان ولدك الذي من صلبك, عليه أن يستأذن

سَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ فَقَالَ: ‌أَسْتَأْذِنُ ‌عَلَى ‌أُمِّي؟ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا رَأَيْتَ مَا تَكْرَهُ(أخرجه الإمام مالك بلفظ أخر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه الإمام البخاري بسند صحيح عن حذيفة رضي الله عنه )فالحق أنها محكمة وهي أدب عظيم يلزم الخدم والصغار البعد عن مواطن كشف العورات حماية للأعراض من الانتهاك وحفظا للأنظار أن ترى ما لا تليق رؤيته في أوقات الراحة, هذه الأوقات الثلاثة سماها القرآن الكريم عورة لماذا ؟ لأن الإنسان في هذه الأوقات قد يضطر إلى تبديل ثيابه ، أو قد يضطر إلى التخفيف منها ، أو إلى أن يكون مع أهله . فإما أن يبدل ثيابه وإما أن يتخفف منها وإما أن يكون مع أهله ، فأغلب الظن أن حفظ العورة يكون أقل انضباطا في هذه الأوقات منه في بقية الأوقات ، ولذلك فهذا الوقت الذي يتخفف فيه المؤمنون من ملابسهم أو يخلعونها ليرتدوا ثياب النوم ، أو ليلتقوا مع أهليهم هذه الأوقات الثلاثة سماها القرآن الكريم عورة لأنه غالبا تنكشف فيها العورات ، وغالبا يكون حفظ العورات في هذه الأوقات أقل انضباطا من حفظها في بقية الأوقات ، فإذاً لهذه الأوقات الثلاثة أحكام خاصة ..

وعليه فإن الشريعة واضحة في احترام الخصوصية, وأن لكل فرد مساحته الخاصة, حتي وإن كان من أهل بيتك, ومن عشيرتك المقربين, واحترام الخصوصية بضوابطها الشرعية أمر إسلامي خالص.

 

الخصوصية في الحضارة الإسلامية

إن المدينة الفاضلة التي أسسها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت على المحبة والمودة, والتراحم والمؤاخاة, وأن لكل فرد فيها حقوقه مقابل واجبات عليه, وهذا ما لمسناه في دستور المدينة, أن لكل فرد كامل الحقوق والواجبات, وفي هذا يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش ‌على ‌ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف ‌على ‌ربعتهم يتعاقلون الأولى، كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،,,

وهذا يضع الخطوط العريضة والفاصلة في العلاقات الإنسانية داخل مجتمع المدينة, حتي مع المخالفين معنا عقيدة وفكرة ودينا, وإني لأعجب من بعض هؤلاء الموتورين الذين يهدرون دماء الناس المختلفين معهم فكريا وعقديا, دون وازع من دين أو ضمير أو إنسانية!

مع أن الناظر للحضارة الإسلامية يجد أنها حافظت على مساحة الخصوصية, واعطت كل فرده حقه حتى في الاتباع.

فكل فرد لم يرتضي هذا الدين بوذيا كان أم مجوسيا أم أي ديانة ارتضاها, نهى الإسلام إكراهه وإجباره على اعتناق الدين فقال صراحة ﵟلَآإِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗوَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 256 ﵞ [البقرة: 256] وقال جل جلاله ” وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَفَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَفَلۡيَكۡفُرۡۚ ”  [الكهف: 29] أي أنت مأمور بتبليغ الرسالة بأدوات أهمها الحكمة والموعظة الحسنة, فما آمن أهلا به أصبح مننا له ما لنا وعليه ما علينا, ومن يكفر, هذا شأنه وحسابه عند ربه, فإن كان في بلادنا كيهود المدينة فعليه أن يلتزم قوانين البلد التي يحييا فيها, فإن التزم اصبح أمنا سالما, ومن مسه بسوء فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسول بنص الأحاديث الصريحة الصحيحة, وإن كان في غير بلادنا فله علينا حقوق المعاملة, وفي كل له عندنا حقوق الجوار, وحسن الخلق, وعدم التدخل فيما لا يعنينا!

فكما أني كمسلم لا أحب أن يعيرني أحد بديني, أو يتدخل أحد فيما بيني وبين ربي, وبيني وبين خالقي, لا اتدخل كذلك في عقيدة غيري!

فإن قال قائل ولكننا مأمورون بالتبليغ والدعوة, قلت: فيه تفصيل فالأمر بالتبليغ للدعاة بالحكمة والموعظة الحسنة, ولك بحسن الخلق, وحسن الجوار وعدم التدخل فيما لا يعنيك, ولا يخصك, فكن عنوانا لدينك بحسن خلقك, وأجعل الأخر يرى منك إنسانية وخلقا وفضلا, يرى أثر دينك في معاملاتك, ومن أهمها احترام خصوصية غيرك.

وعلى مدار التاريخ الإسلامي: مذ جاء الهادي البشير صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا لم نشهد إجبارا على اعتناق أحد أو حمله على الدخول إلى الدين كراهية, بل كان النهج بالدعوة السلمية, والحكمة وإقامة الحجة.

بل إن الناظر إلى خلفاء العباسيين, وسلاطين المماليك وغيرهما, يجد أن عددا منهم ليس بالقليل استخدم أهل الذمة في الدواوين, سواء بجعلهم كتابا, أو في مناصب ووظائف متعددة, أو حتى الاستعانة بهم في الطب, والفلك وسائر العلوم, ولم يتخوف الرشيد من طبيبه جبريل بن بختيشوع, بل سلم نفسه له, ولم يتدخل الرشيد وهو الخليفة واسع النفوذ قوي الكلمة, أن يجبره على ترك دينه, بل لم يتدخل أصلا ولم يتطرق إلى الحديث في هذا الأمر معه.

الأمر نفسه في دولة المماليك والعثمانيين وغيرها, حتي في المناظرات التي كانت تعقد داخل النسيج الإسلامي, لم يكن الهدف منها أبدا هدر دم أحد, أو تكفيره, وإنما بيان فساد منهجه وتحذير الناس منه, والدلائل والشواهد في ذلك كثيره؛ أذكر منها:

بين أبي نواس والشافعي:
‌أبو ‌نواس، الحسن بن هانئ بن عبد الأول شاعر العراق وعالمها اللغوي المفلق, الذى قال عنه الجاحظ ما رأيت رجلا أعلم باللغة ولا أفصح لهجة من أبي نواس، وقال عنه الإمام ‌الشافعي رضي الله عنه لولا مجون أبي نواس لأخذت عنه العلم، توفي سنة 198 هـ/ 814م, وكان أبو نواس مشهور بشعره المتهتك المبتذل, وأفكاره التي تشذ عن الجمع, ومع هذا لم يكفره أحد من علماء المسلمين, مات أبو نواس في نفس اليوم الذي مات فيه معروف الكرخي, فأخرجت جَنازة معروف، فغُلِّقت الأسواق ببغداد، ولم يبق بِكرٌ ولا عانس، فحُزر الجميعُ ثلاثَ مئةِ ألف (300 ألف)، وأُخرجت جنازةُ أبي نُواس، فلم يتبعْها سوى رجلٍ واحد، فلما رجع الناسُ من جنازة معروف، قال قائل: أليس قد جَمَعَنا وإياه الإسلام؟ فرجع الناس فصلَّوا عليه، فرُئي تلك الليلةَ في المنام وهو يقول: غُفر لي بصلاة الذين صلَّوا على معروف وعليّ!

بين الإمام أبي حنيفة ومقاتل:
كان مقاتل بن سليمان من مغالاة المشبهة والمجسمين, اعتمد تفاسير الإسرائيليات واعتبرها معتمدة الأسانيد صحيحة المتون, فأنشأ أراء شاذة وبنى قاعدة اعتمدت تلك الأقوال, لا زلنا نعاني من جمودها وتحجر أفكارها, وقد ناظره الإمام رضي الله عنه ولم يكفره, وإنما بين فساد معتقده, وقال قولته المشهورة عنه وعن الجهم حيث قال:

أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبهومع هذا لم يصرح بكفرهما ولم يهدر دمهما, ولم يحرض علي قتلهما, بل كان النهج السليم بيان عوار فكر المخالف دون التجريح أو التفتيش في نواياه أو تتبع عوراته.

أفرط جهم في النفي حتى قال انه ليس بشيء، وأفرط ‌مقاتل في الإثبات حتى جعل الله مثل خلقه, ومع هذا لما سأله الخليفة بلغني انك تشبه! فقال: انما أقول: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) . فمن قال غير ذلك فقد كذب) فما قال أحد بكفره, ولا شق عن قلبه, وحتى وإن زلت قدم عالم في تفسير آية أو فهم مسألة, أو عدم الاحاطة بكامل الأمر, أو حتى خالف إجماع الأمة, ما قال أحد بكفره, ولا جعل ذلك مبررا للهجوم عليه, والتندر والسخرية والتقليل منه, وجعل حياته الشخصية على المشاع, وتتبع زلاته!

 

عليك بأمر خاصة نفسك وكما تدين تدان وأحبب للناس ما تحب لنفسك

ما أختم به تلك التوصيات التي أهدانا إياها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، وَكَانُوا هَكَذَا “، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: ” الْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ ” (المسند بسند صحيح) فالوصية الغالية في قوله صلى الله عليه وسلم عليك بأمر خاصة نفسك, ولا تتدخل فيما لا يعنيك, – من حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعنيهِ(الترمذي) ولعل سائل يقول, كيف أوفق بين ذلك وبين حديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وبين المشاركة والتألف, قلت أن هذا في وقت خفة الناس وكثرة الهرج والقتل, وعدم الالتزام بالمواثيق والعهود, فإن كنت في زمان أو بين قوم تحققت فيهم تلك الصفات, فمن الأفضل والأجد أن تغلق عليك بابك, وأن تملك عليك لسانك, وأن تتجنب مواطن الخلاف والزلل, وأن يكفيك نفسك وأهل بيتك, أما إذا كنت في قوم تأمن مكرهم, يسهل معشرهم, لينة عريكتهم, فشاورهم ولاطفهم, وأسمع منهم, وأنهاهم  عن غيهم بالتي هي أحسن, فالكيس هو من دان نفسه, ووطن نفسه ولم يلقها موارد الهلاك.

أحب للناس ما تحب لنفسك:

وصية أخرى غالية من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا أردت أن تحيا بسلام وأمان, وأن تكون مؤمنا صادقا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وَسَلم: مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي خَمْسَ خِصَالٍ فَيَعْمَلَ بِهِنَّ, أَوْ يُعَلِّمَهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟ قَالَ: قُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا, ثُمَّ قَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ, وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ, وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا, وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا, وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ, فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ. (المسند)

يقول بعض الصالحين: اشتغل بإصلاح حالك وافتقر إِلَى رَبك وتنزه عَن الشُّبُهَات وأقلل حوائجك إِلَى النَّاس وَأحب واحب لَهُم مَا تحب لنَفسك واكره لَهُم مثل ذَلِك وَلَا تكشفن سترا

نصائح غالية

  • اشتغل بعيوب نفسك عن عيوب غيرك, كما قال الشاعر: ابدأ بِنَفسِكَ وَانَها عَن غِيِّها فَإِذا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكيمُ, فالعاقل من شغلته عيوبه عن عيوب غيره, وفي ذلك يقول مولانا الإمام الشافعي:

‏إِذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى — وديُنك موفور وعْرِضُكَ صينُ

فلا ينطقنْ منكَ اللسانُ بَسوْأةٍ — فكلك عورات  وللناسِ أعينُ

وعينُكَ إِن أبدتْ إِليك معايباً — فصُنْها وقُلْ يا عينُ للناسِ أعينُ

وعاشرْ بمعروفٍ وسامحْ من اعتدى — ودافعْ ولكن بالتي هي أَحْسَنُ

  • كن فقيرا إلى مولاك مستغنيا به عما سواه سبحانه فكلنا فقراء إلى الله, وكن كما قال الشاعر: “لاَ تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً — وَسَلِ الَّذِي أَبوَابُه لاَ تُحْجَبُ

اللهُ يَغْضَبُ إِن تَرَكْتَ سُؤَالَهُ — وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ.

  • أحبب للناس ما تحبه لنفسك, وأعلم أنه كما تدين تدان, وعاملهم بما تحب أن يعاملوك به وَلَا تحدثن نَفسك بخطيئة وَلَا تصرن على صَغِيرَة وافزع إِلَى الله عِنْد كل فاقة وافتقر إِلَيْهِ فِي كل حَال.

وفي قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ ، وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُهَا ، وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسنٍ (أحمد والترمذي) أي عامل الناس بما تحب أن ‌يعاملوك به مِن: كفِّ الأذى وبَذْل النَّدَى وطلاقةِ الوجهِ؛ أي ‌عامل ‌النَّاس بما تحت أن ‌يعاملوكَ به فتجتمع القلوب ويتفق السرُّ والعلانية، فتأمن الكيد والشر، وذلك جِماعُ الخير ومِلاكُ الأمر -إن شاء الله تعالى- وأثقل مَا وُضِعَ في الميزان: خلقٌ حسنٌ.

أقبل على الناس متواضعاً مؤنساً مستأنساً، وإذا حدثك أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، ومن هذا المعنى: ما جاء في حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً) يعني: لا تتعاطوا أسباب البغضاء فيما بينكم، بل أبعد هذه الأسباب التي تفسد العلاقة بينك وبين أخيك، ولا تعط دبرك -أي: ظهرك- لأخيك وتنصرف من الناحية الأخرى، لأن هذا قد يكون من باب المخاصمة، ومن باب الكبر والغرور، حيث إنه يرى نفسه أفضل منه