الطريق إلى الله

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

 

حين تتكاثر الخطايا، وتُرهق النفس بحمل الذنوب، ويظنّ الإنسان أنه قد بلغ حدّ الطرد من رحمة الله، وأنه لا مغفرة بعد ما فعل، ولا عودة بعد ما مضى… يظهر الطريق الأوسع، والأرحب، والأبقى: الطريق إلى الله.

إنها ليست دعوة للتساهل في الذنب، لكنها رسالة من السماء بأن الباب لا يُغلق أبدًا… نعم، لا يُغلق أبدًا، حتى لو زنى العبد، أو سرق، أو قتل، أو طغى، فإن الله يقول في كتابه العظيم: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]
هذه ليست آية عابرة، بل نداء من الله إلى كل قلبٍ موجوع، وكل نفسٍ أثقلتها الذنوب، وكل عينٍ ذرفت دمعًا من الخوف والندم.

يحدّثنا رسول الله ﷺ عن هذا الباب المفتوح فيقول:
«إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» [رواه مسلم]
ما أعظم هذا المشهد! رب العالمين، الذي لا تغيب عنه ذرة، يفتح لك الباب ليلًا ونهارًا، لا يسألك عن ماضٍ، ولا يعاتبك على ما أذنبت، بل يقول لك: “تعال”، تعال بقلب منكسر، وستجد من الرحمة ما تنسى به ذنوبك، بل وتُبدَّل سيئاتك حسنات.

ويزيد النبي ﷺ الأمر وضوحًا فيقول: «لو أن أحدكم أتى من الذنوب مثل الجبال، ثم تاب، لتاب الله عليه»

والأثر عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: “لا يكن أحدكم بما نزل به من ذنب أرجى من أحدكم بما لم ينزل به من الطاعة، فربّ ذنب أدخل صاحبه الجنة، وربّ طاعة أورثت صاحبها الكبر فدخل النار.”

نعم، قد تزني، وقد تسرق، وقد تقع في أبشع الذنوب، لكن إن صحت منك التوبة، ولو كانت بعد ألف سقوط، فإن الله يغفر، ويمحو، ويعفو، ويفرح بعودتك، كما قال النبي ﷺ:
«للهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبدِه حين يتوبُ إليه، من أحدِكم كان على راحلتِه بأرضِ فلاةٍ، فانفلتتْ منه وعليها طعامُه وشرابُه، فأيس منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلِّها وقد أيس من راحلتِه، فبينا هو كذلك، إذا هو بها قائمةٌ عنده، فأخذ بخِطامِها، ثم قال من شدةِ الفرحِ: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدةِ الفرحِ» [متفق عليه].

هذا هو ربك… لا ينتظر منك الكمال، لكنه يحب منك الصدق، والرجوع، والاعتراف، والانكسار بين يديه، فالله لا يعامل عباده كالبشر، لا يفضح، لا ينتقم، لا يشمت، بل يستر ويغفر، بل ويفرح، بل ويبدل السيئات حسنات، كما قال تعالى:
﴿فَأُوْلَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان: 70].

وما أجمل ما قاله أحد الصالحين: “لو كانت ذنوبي جبالًا، لرجوت أن تمحوها دمعة واحدة في جوف الليل بين يدي ربي.”

الطريق إلى الله مفتوح لمن طرقه، مهما ضل، مهما خان، مهما أذنب، لأن الله خلقنا ويعلم ضعفنا، قال سبحانه: ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28]، لكنّه أراد منّا الاعتراف، والخضوع، والتوبة، والانكسار، أراد قلوبًا لا تتعالى، بل تركع وتبكي وتطلب.

وقد جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ بعدما زنا، وقال: يا رسول الله طهّرني، فقال له ﷺ:
«أبِه جنون؟»
ثم أعرض عنه مرة بعد مرة، لعله يتراجع، لكنه أصرّ، فاعترف، فأقيم عليه الحد، وبعد ذلك قال النبي ﷺ لأصحابه: «لقد تاب توبةً، لو قُسِمت على أهل المدينة لوسعتهم»

وهذا دليل على أن الزنا والسرقة وأعظم الذنوب لا تُغلق دونها رحمة الله، إن كانت التوبة صادقة.

فالطريق إلى الله لا يحتاج منك إلا خطوة صدق، ومهما أغلقت الدنيا أبوابها في وجهك، مهما لفظك الناس، وشمت بك القريب والبعيد، وتذكّرت ذنبك في كل نفس… فإن الله لا ينظر إلى ماضيك، بل إلى قلبك الآن.

قل: “يا رب”، وستجد أن الجواب كان ينتظرك من قبل أن تنطق، وستشعر أن الله كان أقرب إليك مما كنت تظن، فقط كنت غافلًا.

الطريق إلى الله طويل لمن أراد أن يبنيه بالعقل وحده، لكنه يسيرٌ قريبٌ لمن طرقه بالقلب، فسر إليه، ولو حبواً، ولو ببطء، ولو خائفًا، فإن الله لا يرد أحدًا، ولا يخيب عبدًا، ولا يعامل خلقه إلا بكرمٍ لا يُحدّ، ورحمةٍ لا توصف، ومغفرةٍ تسع السماوات والأرض وما بينهما.

وفي ختام هذا الطريق، يبقى الأمل مشرعًا، والمحبة ربانية لا تشبه محبة البشر، ويبقى الأمان حقيقيًا لا تهزّه المصائب ولا تطفئه الدموع. مع الله لا خوف، لا قلق، لا ضياع. مع الله، كل شيء يُغفر، كل شيء يُعوّض، كل شيء يُشفى. فقط قل: يا رب، وسيتبدّل الظلام إلى نور، والضياع إلى سكينة، والذنب إلى حسنات. يا من ضاقت بك السبل، تذكّر دائمًا: لا باب يُفتح بعد أن يُغلق إلا باب الله، ولا قلب يضيع إن عاد إلى الله.