منازل المقامات والأحوال عند الصوفية.. طريق القلب إلى الحق

بقلم الدكتور : فارس  أبوحبيب
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف المصرية

 

“السير إلى الله تعالى ليس خيالًا، بل رحلة روحية حقيقية، تبدأ من يقظة القلب وتنتهي إلى شهود الحق”… هكذا يصف أهل التصوف طريق السلوك إلى الله، حيث تتداخل الأنوار بالمجاهدات، وتتنزل الإشراقات على قلوب المتحبين.

المقامات: درجات تُكتسب بالمجاهدة:

في لغة الصوفية، “المقام” هو المرتبة التي يبلغها السالك بسعيه وجهده، ولا يرتقي من مقام لآخر حتى يتحقق بالأول. فليست المقامات خواطر طارئة أو مشاعر متقلبة، بل هي محطات تربية وتمكين، تبني النفس وتطهر القلب.

* أول المقامات هي التوبة، إذ لا يُفتح باب السير إلا بها. ثم تأتي مراتب: الورع، الزهد، الصبر، التوكل، الرضا، المحبة، المعرفة… وكل مقام له بوابة باطنية، وأدب مخصوص.

* قال تعالى: ﴿وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾ [النور: 31].

وقد لخّص الإمام القشيري في رسالته هذا المعنى بقوله: “المقام ما يتحقق به العبد بمنازلة عبوديته من صفات وأحوال مكتسبة بالمجاهدات”.

أما الإمام الغزالي فربطها بالتربية الروحية، معتبرًا المقامات لبَّ العمل وروح العبادة. بينما ابن القيم فَرَزَها في مدارج السالكين بمستويات دقيقة، تبدأ بالتوبة وتنتهي بالمعرفة والتوحيد، بأسلوب ذوقي تربوي.

* الإمام ابن عربي بدوره تجاوز المفهوم الظاهري، فرأى في المقام تجلٍّ إلهي مخصوص، وشهودًا لسر من أسرار الوجود. فـ”الزهد” عنده ليس ترك الدنيا فقط، بل شهود فَنَائها في حضرة الباقي.

الأحوال: نفحات لا تُكتسب:

في المقابل، “الحال” ليس مكتسبًا، بل هو نفحة ربانية، تَرِدُ على القلب كضوء مفاجئ من السماء، دون كسب أو طلب.

*يقول الجنيد: “الحال يهبط من سماء اللطف على أرض القلب، فيورث ذوقًا لا يُحاط بوصف”.

فمن الأحوال: الأنس، الوجد، البسط، القبض، الهيبة، السكر، الحزن، الفرح. وهي لا تُعتمد في التربية، لأنها عابرة، لكنها مؤشرات على حضور الذكر، أو لمحات من الحب الإلهي.

* قال تعالى: ﴿فاذكروني أذكركم﴾ [البقرة: 152].

الغزالي يعتبرها رزقًا خفيًّا، وابن عربي يفرّق بين “الوارد” العابر و”التمكن” الثابت، وقد يتحوّل الحال إلى مقام إن استقرّ.

* لكن التعلق بالأحوال خطر!
كما قال ابن عطاء الله السكندري:
“ربما فتح لك باب الحال، وما فتح لك باب المقام، وربما قرّبك إليه بما يُبعدك عنك، وربما أبعدك عنه بما يُقرّبك إليه”.

 كلمات من نور:

الإمام الجنيد: “المقام هو ما يستقر فيه السالك، والحال هو ما يمر عليه.”

السيدة رابعة العدوية: “ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، ولكن حبًا لك.”

الإمام عبد القادر الجيلاني: “العارف لا يرى لنفسه مقامًا، ولا لحاله ثباتًا، لأن الله كل يوم هو في شأن.”

الفرق بين المقام والحال:

إن المقامات تُكتسب بالمجاهدة، وهي درجات ثابتة في طريق السير، لا ينتقل السالك من واحدة إلى الأخرى حتى يتحقق بالأولى. أما الأحوال فهي نفحات علوية، ترد على القلب فجأة، دون كسب أو طلب. فالمقام يُبنى عليه في التربية، أما الحال فلا يُعتمد عليه، لأنه عابر قد يزول.

المقام ثمرة مجاهدة، والحال ثمرة نفحة. المقام مستقر، والحال طيفٌ يمرُّ. فالسالك الصادق لا يُفتن بالحال، ولا يغترُّ بالأنوار، بل يُقيم نفسه على مقامات الثبات والإخلاص.

 خاتمة روحية:

يا سالكًا طريق الله…
المقامات سلّم المجاهدة، والأحوال أنوار المحبة. لا تغترّ بالأنوار العارضة، بل اثبت على المجاهدة الصادقة. فـ”المحب الصادق لا يُفتن بالحال، بل يصبر على المقام”، ومن جمع بين التزكية والذوق، فقد فاز بالوصول.

اللهم اجعلنا من السالكين إليك على نور، واملأ أرواحنا بأحوال الصدق، ومقامات التمكين، ومحبة لا تزول.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.