خطبةُ بعنوان ( الوطنُ ليس حفنةً منْ ترابٍ ) لفضيلة الشيخ أحمد عبدالله عطوة


خطبةُ بعنوان ( الوطنُ ليس حفنةً منْ ترابٍ )

لفضيلة الشيخ أحمد عبدالله عطوة

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
أحمد عبد الله عطوة. الأوطان ليست حفنة من تراب (1)

العناصر الرئيسية التالية

1/أغلى ما يملك المرء الدين والوطن

2/حنين رسول الله صلى الله عليه وسلم لوطنه مكة

3/ارتباط الإنسان بوطنه مسألة متأصلة في النفس

4/ من حقوق الوطن

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله أهلِ التقوى والمغفرة يحبُّ القلوبَ الشاكرةَ والألسنةَ الذاكِرةَوهو ربنا الكريم وإلهنا الرحيم.

يا أكرمَ مسؤولٍ ويا أعزَّ مأْمُول:

يا من يرى ما في الضميرِ ويسمعُ *** أنتَ المُعدُّ لكلِّ ما يُتَوَقعُ

يا من يُرجّى للشدائدِ كلِّهَا *** يا مَنْ إليه المُشْتَكَى والمَفْزَعُ

يا من خزائنُ فضلِهِ في قَوْلِ كُنْ *** امنُنْ فَإِنَّ الخَيْرَ عِنْدَكَ أجْمَعُ

مالي سوى فقري إليكَ وسِيلةٌ *** فبالافتقارِ إليكِ فَقْرِي أَدْفَعُ

مالي سوى قرْعي لبابِكَ حِيلةٌ *** فإذا ردَدْتَّ فأَي بَابٍ أَقْرَعُ

ومن الذي أرجو وأهتفُ باسمِهِ *** إنْ كانَ جُودكَ عن فَقيركَ يَمْنَعُ

حَاشَا لفَضْلِكَ أن تُقَنِّطَ رَاجِياً *** الجودُ أجزلُ والمواهبُ أوْسَعُ

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، يذكر من ذكره ويمنحه رضاه، ويجيب المضطر إذا دعاه.

وأشهد أن سيدنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، رحمة الله للعالمين وأول الغر المحجلين.. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

عباد الله:

إن حب الأوطان من الإيمان وليس كما يزعم البعض أنها عبارة عن حفنة تراب بل هي تاريخ وثقافة وحضارة مستدلاً ببكاء النبي ﷺ بينما كان مهاجرًا إلى المدينة حزنًا على فراقه مكة وقوله: “إنك لأحب الأرض إلى قلبي ولو أن قومك أخرجوني منك ما خرجت”.

فالله تعالى خلق الإنسان مفطورًا على حب وطنه والأُنس به فهو راحة قلبه وطمأنينة نفسه وموئل الأحبة والخلَّان والأمان والذكريات وحب الوطن شعور تخفق له القلوب، وشوق تتحدث به الأفئدة، وحنين يكمن في الوجدان ومودة وألفة تتزيَّن بها كِرام النفوس وأهل المروءات والشيم.

 

إن حب الأوطان خالط مشاعر الأنبياء ووجد في قلوب الصحابة والأصفياء، ومن أعجب العجب أن حبَّ الأوطان تغلغل في دواخل الحيتان تحت الماء ورفرفت له أجنحة الطير في السماء.

 

وقد ربط القرآن بين حب الوطن وبين حب النفس؛ كما في قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 66]، وفي القرآن ربط بين الدين والوطن: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ﴾ [الممتحنة: 8].

 

والنبي صلى الله عليه وسلم ابتلاه الله بترك وطنه، فوقف يخاطب مكة شرفها الله؛ قائلًا: ((والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت)).

ويواسي المولى تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [محمد: 13].

 

إنها نعمة هذا البلد الأمين الذي أقسم الله تعالى به فقال: ﴿ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 3]، وسماه أمينًا؛ لأنه آمن؛ كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ﴾ [العنكبوت: 67].

 

ومن شكر الله على نعمة الوطن تحقيق عقيدة المسلم في الولاء له، ومحبته، وبذل الغالي والنفيس دونه، فقد كان حب مكة والمدينة في سويداء قلب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكةَ أو أشد))؛ [رواه البخاري].

 

ومن لوازم هذه العقيدة الدفاع عنها؛ لأنها بيضة الإسلام، وحوزة المسلمين، وقبلتهم، ومهوى أفئدتهم، أمنُها أمنُ المسلمين، واستقرارها استقرار العالمين: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ﴾ [المائدة: 97].

 

إن الوطن الآمن المستقر نعمة ومِنَّة من الله تعالى، تتطلب شكرًا وعرفانًا، تترجمه الأقوال والأفعال: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 3، 4].

 

الوطن الآمن يقوم على الائتلاف والاجتماع وانتظام الناس تحت ولاية واحدة، وقد عُلِم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة؛ لأن مآلات الاجتماع ونبذ الافتراق، فيها قيام الدين والدنياوانتظام الحياة ولا يتأتى ذلك إلا بالسمع والطاعة لولي الأمر في المعروف؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59]، ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].

 

الانتماء لهذا الوطن المبارك التزام بالعقيدة والدين، واتباع منهج السلف الصالحين، ومراعاة الثوابت والأخلاق، وجميل الأعراف والعادات.

 

الانتماء للوطن برهانه الحرص على سلامته، وصون مكوناته واحترام أفراده وتقدير علمائه واحترام النظام والحفاظ على موارد الوطن ومكتسباته وعوامل بنائه ورخائه.

الوطن الآمن يُبنى على خُلُق التعاون والأخوة الإيمانية، ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10].

 

شكر نعمة الوطن الآمن يكون برفع رايته وعدم خيانته وحراسته من دعاة الفساد والفتن والخراب الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

 

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله، وكفى وسمع الله لمن دعا؛ أما بعد:

 

الواجب علينا تجاة وطننا :

 

١-بناؤه وتعميره والترقي به: فقد حثنا الإسلام على تعمير الوطن بكل أنواع التعمير، فقال رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”(أحمد)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: “ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة”(متفق عليه)، ومثل الزراعة الصناعة والتجارة.. الواجب الرابع: الحفاظ على أمنه واستقراره ووحدة كلمته: ومحاربة كل ما من شأنه تفريق المجتمع الإسلامي الواحد، امتثالًا لقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103]، وتطبيقًا لقوله -عز وجل-: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)[الأنبياء: 92].

 

٢- نشر التكافل والتعاون بين أهله: فعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”(متفق عليه)، وقد مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأشعريين قائلًا: “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد، بالسوية، فهم مني وأنا منهم”(متفق عليه).

 

٣’حمايته والدفاع عنه؛ ففي الحديث الصحيح الذي رواه سعيد بن زيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد “(النسائي في الصغرى)، ونتساءل: أين يُحفظ المال ويصان؟ وأين تستقر الأم والابنة والزوجة والعمة..؟ وأين تقام شعائر الدين؟ وأين تحصن النفس وتعصم؟ أليس في أرض الوطن وعلى أرض الوطن؟! فالدفاع عن الوطن هو في الحقيقة دفاع عن المال والأهل والدين والدم..
إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه؛ فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على النبي المصطفى المختار، وعلى المهاجرين والأنصار وعلى جميع الآل والصحب الأخيار.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين.

 

​‏‏اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.

 

اللهم وفق ولي أمرنا وولي عهده لِما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى.

 

عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]

اترك تعليقاً