سلامة الصدور من الأحقاد و الشرور
3 يونيو، 2025
منبر الدعاة

بقلم د.إيمان إبراهيم عبد العظيم
مدرس بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر – واعظة بوزارة الأوقاف
تعد سلامة الصدور منهج قرآني ، ومنهج رباني ، ومنهج تربوي ، وقد جعله الله سبحانه وتعالى من لوازم التقوى ، فقال عز وجل (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال: ١].
ولما كان الحقد والغل والضغائن من صفات أهل الشقاء نزعه الله سبحانه وتعالى من قلوب أهل دار البقاء.
وسلامة القلب، في مفهوم ابن القيم : هي استقرار القلب وتخليه عن كل ما يفسده ويضره، سواء كان من الشرك أو البدعة أو الشهوة أو الغفلة أو الهوى. هي حالة من الطمأنينة والراحة النفسية، حيث يتخلص الإنسان من كل ما يعكر صفو حياته ويمنعه من التمتع بالسكينة والهدوء.
وسلامة الصدر والقلب من أفضل الأعمال في ديننا الحنيف وأكد عليها في نصوص كثيرة، قال سبحانه و تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحشر: ١٠].
وعن أنس [رضي الله عنه] أن النبيﷺ قال: (لا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام).
بل من أراد النجاة يوم القيامة فليعتن بسلامة قلبه في الدنيا فإن يوم القيامة (يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم) [الشعراء: ٨٩].
فالقلب ملك الأعضاء، إذا صلحت صلح الجسد كله، قال النبيﷺ: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
و من أسباب سلامة الصدر : البعد عن مهاوي الحقد والحسد و البغضاء والغل.
مصداقًا لقوله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ”.سورة الحشر: الآية (١٠).و كذا قوله تعالى في صفات أهل الجنة : ” إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ *وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ”.سورة الحجر الآيات (٤٥-٤٦-٤٧).
و في السنة: ما روي عن ابن ماجه في سننه بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان . قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد )
ونتأمل في تعبير النبي النبيﷺ بـ ( مخموم القلب ) والمخموم : من خممت البيت إذا كنسته أي أنه ينظف قلبه في كل وقت بين الفينة والأخرى مما يدل على أن الأمر ليس بالسهل ولابد له من مجاهدة وصبر ولا يقوى عليه إلا الأشدّاء من الناس لذلك استحق رتبة أفضل الناس وكان عند الله بالمكانة العليا لأن سليم الصدر من خيار المؤمنين، و من خيار عباد الله الصالحين
فعن أبي هريرة [رضي الله عنه] مرفوعًا: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على أثرهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض ولا تحاسد).
إن سلامة الصدر من صفات خيار عباد الله من الأنبياء وأتباعهم، والعظماء يترفعون عن مبارزة الناس بالعداوة وفتح جبهات مع فلان وعلان، وتأملوا معي قصة يوسف عليه السلام مع إخوته، كادوا له وتآمروا عليه فألقوه في البئر، ثم دارت الأيام وألجأتهم الحاجة إليه بعد أن رفعه الله ومكن له، فهل قال: اليوم أرد لكم الكيل وأنتقم منكم كما فعلتم بي؟ كلا، بل وفى لهم الكيل، وقال لهم “لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” [يوسف: ٩٢].ثم عفا عنهم، بل راعاهم حتى باللفظ وردَّ ما جرى إلى الشيطان “وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي” [يوسف: ١٠٠].
إنها أخلاق العظماء ، إنها أخلاق الكبار ، إنها أخلاق الشرفاء والعقلاء.
إنه نموذج عجيب ومثال فريد في سلامة الصدر وطهارة القلب، يحسن أن نتأمله حينما نفكر في الانتقام ممن آذانا أو جرت بيننا وبينه خصومة أو نزاع.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
أفضل الأعمال: سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها, وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء ، والبدع التي تقتضي الطعن على سلف الأمة وبغضهم والحقد عليهم واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم. ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين.
ومن أعظم أنواع الإصلاحات : سلامة الصدور و سخاوة النفوس، و الرضا بما قسمه الله.
قال ابن القيم رحمه الله : وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا وكلما كان العبد أشد رضاً كان قلبه أسلم .
اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا من الشقاق والنفاق والأحقاد ومن جميع الأمراض ، و نسألك سلامة قلوبنا و جبرها، و الرضا بما قسمته لنا .