بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
في عمق النفس الإنسانية نزعة إلى العطاء، وفي قلب كل كريم رغبة صادقة في أن يُشبع جائعًا، أو يُطعم فقيرًا، أو يُكرم ضيفًا، أو يُسعد محتاجًا. وليس أسمى من عبادةٍ تقوم على سدّ الجوع ومواساة القلب. وقد أولى الإسلام هذه العبادة مكانة عظيمة، فربط بين إطعام الطعام وبين صفات أهل الجنة، بل جعله دليلًا على صدق الإيمان وكمال المروءة.
لكن هذه العبادة العظيمة، حين تُنتزع من معناها الطاهر وتُداس بأقدام الرياء، تُصبح وبالًا على صاحبها إن هو وضعها على موائد لا تستحقها، ومدها لأفواه لا تعرف للفضل وزنًا، ولا للكرامة قدرًا، ولا للنعمة حرمة.
كثير من الناس يقعون في خطأ كبير حين ينقلون موائدهم من ساحة الإخلاص إلى حضرة اللئام، ويخلطون بين الكرم ومهانة النفس، وبين الجود وتملق الوجوه الزائفة، فيسرفون على من لا يستحق، ويبسطون أيديهم للجاحدين الذين لا يعرفون معروفًا، ولا يشكرون نعمة، ولا يصونون مروءة.
اللئيم لا يُكرم بطعام، لأنه يراه ضعفًا لا إحسانًا، ويتخذه مدخلًا للغمز واللمز، وينقلب على من أحسن إليه إذا أدرك أنه في لحظة احتياجٍ وجد من يعينه. إنه لا يحمل في قلبه امتنانًا، بل يحمل إحساسًا دفينًا بالاحتقار لكل يد امتدت إليه بالعطاء، ولو كانت يدًا طاهرة لا تنتظر إلا وجه الله.
وقد قيل في المأثور: “لا تُكرمن لئيمًا فيملكك، ولا تبذلن إلى جاهلٍ معروفًا فيُهينك”، لأن المعروف إذا وُضع في غير موضعه انقلب نقمة، والكرامة إذا وُضعت أمام من لا يعرف معناها، ضاعت وذُلّت.
إن البعض اليوم يجهل هذا التمييز الدقيق بين الكرم المُخلص والكرم المُستعرض، فينفق أمواله على الولائم التي تُقام أمام الكاميرات، وعلى موائد يُدعَى إليها المتملقون والمنافقون، وعلى دعوات ظاهرها الإحسان وباطنها المجاملة، وقلّما يجد مكانًا للفقراء المستورين الذين لا يطرقون بابًا ولا يرفعون صوتًا.
والمؤلم أن بعض من يسمون أنفسهم “وجهاء” و”أهل جاه”، يُقيمون الموائد ويتفاخرون بعدد المدعوين لا بحاجة المدعوين، بل وربما يضعون أقداح الكرم على طاولة فاسقٍ أو متغطرس أو جاحدٍ أثخن البلاد فسادًا، ليكسبوا مجده أو ينالوا من رضاه، فيبيعون كرامتهم باسم الكرم، ويتنازلون عن مبادئهم تحت عباءة الإحسان.
الطعام في ثقافتنا ليس مجرد طعام، بل هو رمزية أصيلة من رموز المحبة والمروءة، لكنه إذا تُرك للمراءاة، أو استُخدم كأداة للتمكين الاجتماعي أو المجاملة السياسية، أو بُذل لأهل الشهرة والسطوة دون اعتبار لقيمتهم الأخلاقية، فإنه يتحول إلى صكّ خيانة للقيم، وتزييف لمعنى الصدقة، وتزوير لنية العطاء.
وقد كان السلف الصالح يحرصون على أن يعرفوا لمن يطعمون. فإذا أرادوا صدقة، وجهوها إلى فقير محتاج، وإذا أرادوا إكرامًا، منحوه لضيف مستور أو مسافرٍ عابر، وإذا أرادوا كرامة نفسهم، لم يضعوها على طاولة من لا يصون العهد. ولذا كانوا يُخفون عطاءهم كما يُخفون صلاتهم، ويطعمون الطعام كأنهم يقيمون شعيرة قلبية، لا استعراضًا اجتماعيًّا.
الكرم لا يُقاس بكثرة الطعام، ولا بكثرة المدعوين، ولا بارتفاع قيمة اللحوم والمشروبات، بل يُقاس بطهارة النية، ونبل المقصد، وكرامة من وُضع له الطعام. وكل طعام يُهدر على موائد التفاخر هو حسرة يوم القيامة، وكل لئيم أُكرم من مال الله بغير حقه سيكون خصمًا لصاحبه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
إن من المؤسف أن نرى بعض المجالس العامرة بالطعام خاوية من القيمة، وأن نشهد موائد تغصّ بضحكات الزيف لكنها تخلو من بركة النية. فليتنا نعيد ترتيب أولوياتنا، ونُبصر الفرق بين الكرم الصادق والكرم الفارغ، ولتكن موائدنا طريقًا إلى الله لا بوابةً للتصفيق والمجاملة.
فموائد الكرم لا تُبسط للناكرين، ولا تُمدّ للجاحدين، ولا يُسرف فيها على من لا يعرف قدرها. إنها تُقام للمساكين في الحارات، للمكروبين في الأزمات، للغرباء عند الأبواب، وللأيتام في الظلمات، تُقام حبًّا في الله، لا حبًّا في الظهور.
اللهم اجعل إطعامنا طُهرًا لا رياء، وكرمنا سترًا لا استعراضًا، واحفظ كرامتنا من أن تُلقى على موائد لا تليق بنا ولا بقيمنا. اللهم اجعلنا من الذين قال فيهم: “ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا”.