خطبة عيد الأضحى المبارك بعنوان ( الفداء والتضحية )
لفضيلة الشيخ : ياسر عبدالبديع
10 ذى الحجة 1446 هجرية 6 يونيو 2025 م
الحمدُ للهِ الذي جَعَلَ الأعْيَادَ فِي الإسْلامِ مَصْدرًا لِلْهنَاءِ والسُّرُورِ، الحمدُ للهِ الذِي تفضَّل في هذِه الأيَّامِ العَشْرِ علَى كلِّ عبدٍ شَكُورٍ، نشهد أن لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده سُبحانَه غافِرُ الذَّنْبِ وقابِلُ التَّوبِ شَديدُ العِقَابِ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمٍ أَتَمَّهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَمِحَنٍ رَفَعَهَا، وَكُرُوبٍ كَشَفَهَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا شَرَعَ لَنَا مِنَ المَنَاسِكِ، وَمَا عَلَّمَنَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ، وَلَوْلَاهُ سُبحانَه لَضَلَلْنَا.
وَأَشْهَدُ أَنَّ محمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَاحِبُ الْوَجْهِ الأَنْوَرِ، وَالْجَبِينِ الأَزْهَرِ، وَأَفْضَلُ مَنْ صَلَّى وَزَكَّى وَصَامَ وَحَجَّ وَاعْتَمَرَ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَدِيدًا وَأَكْثَرَ، أما بعد:
فَلْنَتَّقِ اللهَ تَعَالَى فِي أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا، وَمَا نَأْتِي وَمَا نَذَرُ، الْزَمُوا التَّقْوَى تَسْعَدُوا: ﴿ ﴿ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأعراف: 35]، الله أكبر الله أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وللهِ الْحَمْدُ.
اللهُ أَكْبَرُ خَلَقَ الْخَلْقَ وأَحصَاهُمْ عَدَدًا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا، اللهُ أَكْبَرُ عَزَّ رَبُّنَا سُلْطَانًا وَمَجْدًا، وَتَعَالَى عَظَمَةً وَحِلْمًا، عَنَتِ الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ، وَخَضَعَتِ الْخَلائِقُ لِقُدْرَتِهِ، اللهُ أكْبَرُ مَا ذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ، وَاللهُ أَكْبَرُ مَا هَلَّلَ الْمُهَلِّلُونَ وَكَبَّرَ الْمُكَبِّرُونَ، اللَّهُ أَكْبَرُ مَا ضَحَّى مُضَحٍّ وَنَحَرَ، اللَّهُ أَكْبَرُ مَا رَمَى حَاجٌّ الْجَمَرَاتِ وَكَبَّرَ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
عِبَادَ اللَّهِ، تَجْتَمِعُ الْبَهْجَةُ وَالسُّرُورُ وَالْفَرْحَةُ وَالْحُبُورُ عَلَى مُسْلِمِي الْعَالَمِ الْيَوْمَ بِاجْتِمَاعِ مَرَاسِمِ بَهْجَةِ الْعِيدِ وَفَرْحَتِهِ، فَهَذِهِ الْأيَّامُ تَجْتَمِعُ فِيهَا عِبَادَاتٌ جَلِيلَةٌ وَعَظِيمَةٌ؛ فبِالْأَمْسِ وَقَفَ النَّاسُ بِعَرَفَاتَ، وَقَبْلَهُ كَانَتِ الْأيَّامُ الْمُبَارَكَاتُ، وَالْيَوْمَ يُصَلِّي الْمُسْلِمُونَ صَلاَةَ الْعِيدِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ أعْظَمُ الْأيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي مَوْسِمِ الْحَجِّ إِلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرامِ الْمُعَظَّمِ، الَّذِي هُوَ أعْظَمُ مُنَاسَبَةٍ شَرْعِيَّةٍ فِي الْعَامِ، وَيَنْحَرُ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْأيَّامِ ضَحَايَاهُمْ، هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتُ الْعِظَامُ وَهَذِهِ الرَّحَمَاتُ الْجِسَامُ، نَعَمْ! يَمُنُّ اللهُ بِهَا عَلَيْنَا، قَالَ سُبْحَانَه: ﴿ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37]. ونحن فى هذا اليوم نتذكر خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل وموقفهما من البلاء المبين
العُنْصُرُ الْأَوَّل : الْبَلاءُ الْمُبِينُ
أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ كَلِمَةٌ تُقَالُ وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ ذَاتُ تَكَالِيف، وَأَمَانَة ذَات أَعْبَاء، وَجِهَاد يَحْتَاجُ إلَى صَبْرِ وَجَهْد يَحْتَاجُ إلَى احْتِمَالِ فَلَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ النَّاسُ امَنَّا وَهُمْ لَا يَتْرُكُونَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى حَتَّى يَتَعَرَّضُوا لِلْفِتْنَة فَيُثْبِتُوا عَلَيْهَا وَيَخْرُجُوا مِنْهَا صَافِيَة عَنَاصِرِهَمْ خَالِصَةً قُلُوبَهُمْ كَمَا تُفْتَن النَّار الذَّهَب لِتَفْصِل بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَنَاصِر الدَّخِيلَة الْعَأَلْقِه بِهِ.
لِذَلِكَ ابْتَلَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَا الدَّيْنِ وَأَمَرَنَا أَنْ نُضَحِّيَ لَه وَنَتْجرد لَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ لَا نُقَدِّمُ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِذَلِكَ تَوَعَّدَ كُلَّ مَنْ قَدِمَ الدُّنْيَا وَالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالدَّيْن الْإِسْلَامِيّ.
فَقَالَ تَعَالَى ﴿ قُلْ إنْ كَانَ ابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التَّوْبَة: 24].
وَلَنَا فِي الْحَجِّ الْأَعْظَم دُرُوسٍ وعِبَرٍ فَفِيه يَتَجَلَّى لَنَا دَرْس التَّضْحِيَة وَالِاسْتِسْلَام الْكَامِل وَالثَّبَات إمَام الْمِحَن.
فَهَذَا خَلِيلُ الرَّحْمَنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَعَرَّضُ لِلْمِحَنِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فَيَثْبُت وَيَكُونُ حَالُهُ الِاسْتِسْلَام الْكَامِل لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
لَقَدْ ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَمْرِ عَظِيمٍ، ابْتَلَاه بِذَبْحِ ابْنِهِ إسْمَاعِيلَ بِنَفْسِه، فَلْذَةِ كَبِدِهِ، وَثَمَرَة سَعْيِه، فَلَمْ يَتَرَاجَع أَوْ يَتَوَانَى مَعَ حُبِّهِ الشَّدِيدِ لَهُ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بَنِي أَنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصَّافَّات: 103 – 105].
لَقَدْ كَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِثَالًا رَائِعًا وَنَمُوذَجًا فَرِيدًا فِي الِامْتِثَالِ الْكَامِل لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّسْلِيمَ الْمُطْلَق لِحُكْمِهِ ﴿ إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْت لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الْبَقَرَة: 131].
أَسْمِحُوا لِي أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْأَحْبَاب أَنْ نَطُوفَ سَوِيًّا مَعَ هَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَهُزّ الْقُلُوب هَزًّا وَيُحَرِّك فِيهَا الْإِيمَانُ بِالْغَايَة وَبِالْمُبَدَإ فَهَذَا الشَّيْخُ الوَقُور الْمَقْطُوعِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْقَرَابَةِ الْمُهَاجِرِ مِنْ الْأَرْضِ وَالْوَطَن هَاهُو ذَا يَرْزُق فِي كَبَّرَته وَهَرِمَة بِغُلَام طَالَمَا تَطَّلِع إِلَيْهِ فَلَمَّا جَاءَهُ جَاءٍ غُلَامًا مُمْتَازًا يَشْهَدُ لَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ غُلَامٌ حَلِيم، وَهَاهُو ذَا مَا يَكَادُ يَأْنَسُ بِهِ وَصِبَاه يَتَفَتَّح وَيَبْلُغ مَعَهُ السَّعْيَ وَيَرْافِقُه فِي الْحَيَاةِ، هَاهُو ذَا مَا يَكَادُ يَأْنَس وَيَسْتَرْوِح بِهَذَا الْغُلَامِ الْوَحِيد حَتَّى يُرَى فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ يَذْبَحُهُ وَيُدْرِك أَنَّهَا إشَارَةٌ مِنْ رَبِّهِ بِالتَّضْحِيَة.
فَمَاذَا أَنَّهُ لَا يَتَرَدَّدَ وَلَا يُخَالِجَه إلَّا شُعُور الطَّاعَةِ وَلَا يَخْطِرُ لَهُ إلَّا خَاطِر التَّسْلِيمُ.
نَعَمْ إِنَّهَا إشَارَة مُجَرَّد إشَارَة وَلَيْسَتْ وَحْيًا صَرِيحًا وَلَا أَمْرًا مُبَاشِرًا وَلَكِنَّهَا إشَارَةٌ مِنْ رَبِّهِ وَهَذَا يَكْفِي لِيُلَبِّي وَيَسْتَجِيب وَدُونَ أَنْ يَعْتَرِضَ وَدُونَ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ لِمَاذَا يارَبِّ أَذْبَح ابْنِي الْوَحِيد؟ وَلَكِنَّهُ لَا يُلَبِّي فِي انْزِعَاجٍ وَلَا يَسْتَسْلِمَ فِي جَزَعٍ وَلَا يُطِيعُ فِي اضْطِرَابِ كُلًّا! إنَّمَا هُوَ الْقَبُولُ وَالرِّضَى وَالطُّمَأْنِينَة وَالهُدُوء. يَبْدُو ذَلِكَ فِي كَلِمَاتِهِ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ الْهَائِلُ فِي هُدُوءٍ وَفِي اطْمِئْنَان عَجِيبٌ.
﴿ قَالَ يَا بَنِي أَنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصَّافَّات: 102] فَهِي كَلِمَات الْمَالِك لَاعَصَابَة الْمُطَمْئِنُ لِلْأَمْرِ الَّذِي يُوَاجِهُهُ، الْوَاثِق بِأَنَّهُ يُؤَدِّي وَاجِبَةٌ وَهِيَ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ كَلِمَات الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَهُولُهُ الْأَمْرَ فَيُؤَدِّيهِ فِي انْدِفَاعِ وَعَجَّلَه لِيَخْلُص مِنْه وَيَنْتَهِي وَيَسْتَرِيحَ مِنْ ثِقَلِهِ عَلَيَّ أَعْصَابُه وَالْأَمْر شَاقّ مَا فِي ذَلِكَ شَكٌّ فَهُوَ لَا يُطْلَبُ إلَيْهِ إنْ يُرْسِل بِابْنِه الْوَحِيدَ إِلَى مَعْرَكَةِ وَلَا يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ بِابْنِه الْوَحِيدَ إِلَى مَعْرَكَةِ وَلَا يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يُكَلِّفَهُ أَمْرًا تَنْتَهِي بِهِ حَيَاتُهُ، إنَّمَا يُطْلَبُ إلَيْهِ إنْ يَتَوَلَّى هُوَ بِيَدِهِ مَاذَا؟ يَتَوَلَّى ذَبْحِهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَتَلَقَّى الْأَمْرِ هَذَا التَّلَقِّي وَيُعْرَضُ عَلَى ابْنِهِ هَذَا الْعَرْضَ وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَتَرَوَّى فِي أَمْرِهِ وَإِنْ يَرَى فِيهِ رَأْيَهُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ ابْنِهِ عَلَى غِرَّةٍ لِيَنْفُذ إشَارَة رَبِّه وَيَنْتَهِي، إنَّمَا يَعْرِضُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ كَاَلَّذِي يَعْرِض الْمَأْلُوفِ مِنْ الْأَمْرِ، فَالْأَمْرُ فِي حِسُّه هَكَذَا! رَبُّهُ يُرِيدُ فَلْيَكُنْ مَا يُرِيدُ عَلَى الْعَيْنِ وَالرَّأْس، وَابْنُه يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ وَأَنْ يَأْخُذَ الْامِرَ طَاعَة وَإِسْلَامًا، لَا قَهْرًا وَاضْطِرَار لِيَنَال هُوَ الْاخَرُ أَجْرُ الطَّاعَة وَلْيُسَلِّمْ هُوَ الْاخَرُ وَيَتَذَوَّق حَلَاوَة التَّسْلِيم، فَمَاذَا يَكُونُ مِنْ الْغُلَامِ الَّذِي يَعْرِضُ عَلَيْهِ الذَّبْحُ تَصْدِيقًا لِرُؤْيَا رَاهَا أَبُوهُ.
أَنَّهُ يَرْتَقِي إلَى الْأُفُقِ الَّذِي ارْتَقَى إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَبُوهُ ﴿ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصَّافَّات: 102] أَنَّهُ يَتَلَقَّى الْأَمْرِ لَا فِي طَاعَةِ وَاسْتِسْلَام فَحَسْب وَلَكِنْ فِي رِضَى كَذَلِكَ وَفِي يَقِين.
يَا أَبَتِ فِي مَوَدَّةٍ وَقُرْبَى فَشِبْح الذَّبْحُ لَا يُزْعِجُهُ وَلَا يَفْقِدُهُ رُشْدِه بَلْ لَا يَفْقِدُه أَدَّبَه وَمَوَدَّتِه ﴿ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾. فَهُو يُحِسُّ مَا أَحَسَّه مِنْ قِبَلِ قَلْب أَبِيه يُحِسُّ إِنْ الرُّؤْيَا إشَارَةٌ وَأَنَّ الْإِشَارَةَ أَمَر وَأَنَّهَا تَكْفِي لِكَيْ يُلَبِّي وَيَنْفُذ بِغَيْر لِجُلُجه وَلَا تَمَحَّلَ وَلَا ارْتِيَابٍ.
ثُمَّ هُوَ الْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ حُدُود قُدْرَتِه وَطَاقَتِه فِي الِاحْتِمَالِ وَالِاسْتِعَانَة بِرَبِّه عَلَى ضَعْفِهِ وَنَسَبَه الْفَضْلِ إِلَيْهِ فِي إعَانَتِهِ عَلَى التَّضْحِيَةِ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى الطَّاعَةِ. ﴿ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصَّافَّات: 102]. لَمْ يَأْخُذْهَا بِطُولِه وَلَمْ يَأْخُذْهَا شَجَاعَة وَلَمْ يَأْخُذْهَا انْدِفَاعًا إلَى الْخَطَرِ دُون مُبَالَاة وَلَمْ يَظْهَرْ لِشَخْصِه ظِلًّا وَلَا حَجْمًا وَلَا وَزْنًا إنَّمَا ارْجِعْ الْفَضْلِ كُلِّهِ لِلَّهِ أَنْ هُوَ إعَانَةٌ عَلَى مَا يُطْلَبُ إلَيْهِ.
يَا لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ، وَيَا لِرِوَعه الْإِيمَانُ، وَيَا لِنَبِل الطَّاعَةُ، وَيَا لِعِظَمِه التَّسْلِيم.
بُرّ عَظِيم، وَتَوْفِيقٍ مِنْ اللَّهِ أَعْظَمُ، وَأَيْمَان وَثِيق، وَنَفْس رَاضِيَةٌ بِمَا أَرَادَ اللَّهُ وَقَدَر.
وَهُنَا يُسْدَل السِّتَارُ عَلَى مُوَفَّقٍ الْأَبِ وَالِابْنِ وَيَكْشِف السِّتَارُ عَلَى الْعَدُوِّ الْأَكْبَر لِبَنِي الْإِنْسَانِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَفْسُدَ عَلَى الْأَبِ وَابْنِهِ طَاعَتِهِمَا لِلَّهِ وَإِنْ يُعَطِّل عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (إنْ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ وَلَكِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَه مِنْ أَعْمَالِكُمْ).
جَاءَ الشَّيْطَانُ الْأَكْبَرُ لِخَلِيلِ الرَّحْمَنِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ أَيْمَانُ الْقِمَّة.
جَاء لِيَقُولَ لَهُ مَا الَّذِي تَتَوَلَّى أَنْ تَفْعَلَهُ بِابْنِك الْوَحِيد وَمَا مَعْنَى أَنَّ تَذْبَحَه وَأَنْتَ شَيْخُ كَبِيرٌ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ وَكَيْفَ تَصْدُقُ هَذِهِ الرُّؤْيَا أَنَّهَا كَاذِبَةٌ. وَالشَّيْطَانُ لَا يَيْأَسُ مِنْ أَيِّ جُزْئِيَّة يَدْخُلُ مِنْهَا بَلْ يُحَاوِلُ أَنْ يَدْفَعَ الْإِنْسَانُ إلَى الْمَعْصِيَةِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَتْرُكْ وَسِيلَة مَعَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَهَاجَر إلَّا اتَّبَعَهَا عِلَّة يَفْسُد طَاعَةٍ مِنْ أَعْلَى الطَّاعَات وَأَكْثَرُهَا ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ طَاعَةُ الْإِيمَان الْقُمِّيّ.
وَبِمُجَرَّدِ أَنْ غَادِر إِبْرَاهِيمُ وَابْنُهُ إسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا الْبَيْتَ، بَدَأَ الشَّيْطَان مُهِمَّتِه وَهُوَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ هَذِهِ مِحْنَة،هَذَا ابْتِلَاء عَظِيمٌ فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُفْتَنَ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْمِحْنَة فَلَنْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَفْتَنهم أَبَدًا.
وَجَاء لَهَاجر وَقَالَ لَهَا أَتَعْرِفِين إِلَى أَيْنَ ذَهَبَ إبْرَاهِيمُ بِابْنِك فَقَالَتْ ذَهَبَ بِهِ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ لَهَا الشَّيْطَانُ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِهِ لِحَاجَتِهِ، إِنَّمَا ذَهَبَ بِهِ لِيَذْبَحَهُ فَقَالَتْ هَاجَر وَلِمَاذَا يَذْبَحُه فَرَدَّ عَلَيْهَا الشَّيْطَان زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَتْ أَغْرَب عَنْ وَجْهِي مَادَامَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ فَلَابُدَّ أَنْ يُطَاع.
انْصَرَف الشَّيْطَانُ عَنْهَا مَدْحُورًا وَأَسْرَع لِيَلْحَق بِإِبْرَاهِيم وَابْنُهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَبَدَأ بِإِبْرَاهِيم لَقَدْ حَاوَلَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ مَا الَّذِي أُعْلِمُك أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ رُبَّمَا كَانَتْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَاذَا يَسْتَفِيد اللَّهُ مِنْ ذَبْحِ ابْنُك , لَا تُطِعْ الْأَمْرِ وَإِلَّا فَسَوْفَ تَنْدَم طُولَ حَيَاتِكَ، إِذَا قُمْتَ بِذَبْحِه فَلَنْ يُفَارِقْك وَجْه ابْنَك وَهُوَ يَمُوتُ سَيَظَلّ وَجْهِه دَائِمًا أَمَامَك يُعَذِّبَك طُولَ حَيَاتِكَ وَأَنْتَ شَيْخُ كَبِيرٌ فِي الرَّابِعَةِ وَالثَّمَانِينَ لَنْ تُرْزَق وَلَدًا بَعْدَه , وَظِلّ يُحَاوِل مَعَ إبْرَاهِيمَ وَلَكِنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَسْتَمِعْ إلَيْهِ.
وَلِمَا يَئِسَ مِنْ إبْرَاهِيمَ ذَهَبَ إلَى إسْمَاعِيلَ وَقَالَ لَهُ أَنْ أَبَاك سَيَذْبحك فَقَالَ إسْمَاعِيلُ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ مَا أَرَادَ اللَّهُ، حِينَئِذ حَاوَل إبْلِيسُ أَنَّ يَمْنَع إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ مِنْ الذَّهَابِ إلَى مَكَان الذَّبْح , حَاوَلَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَمْنَعَ إبْرَاهِيمَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى فِي مِنًى مِنْ الِاسْتِمْرَارِ فِي السِّيَرِ لِتَنْفِيذ أَمَرَ اللَّهُ , فَأَمْسَك إِبْرَاهِيم بِالْجَمْرَات السَّبْعِ وَرُجِم إبْلِيس , وَلَكِنْ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ لَمْ يَيْأَسُوا وَتَابَعُوا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَّهُمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَمْنَعُوهُمَا مِنْ تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ فَرَجَمَهُم إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ لِيَنْصَرِفُوا وَيَبْتَعِدُوْا عَنْهَا.
هُنَا يُسْدَل السِّتَارُ عَلَى مُحَاوَلَةِ الأَبَالِسَة مَع الأَسِرَّة الْمُبَارَكَة، وَنَعُودُ إِلَى الشَّيْخِ الوَقُور وَابْنُهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عِنْدَا هُمَا بِتَنْفِيذ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ [الصَّافَّات: 103] وَمَرَّةً أُخْرَى يَرْتَفِع نَبْل الطَّاعَة وَعَظْمِه الْإِيمَان وَطُمَأْنِينَة الرِّضَى وَرَاءَ كُلِّ مَا تَعَارَفَ عَلَيْهِ بَنَوْا الْإِنْسَانِ.
أَنْ الرَّجُل يَمْضِي فَيَكُبّ ابْنِهِ عَلَى جَبِينِهِ اسْتِعْدَادًا لِلْامِرِ وَإِنْ الْغُلَام يَسْتَسْلِم فَلَا يَتَحَرَّكُ امْتِنَاعًا , لَقَدْ وَصَلَ إلَى أَنْ يَكُونَ عِيَانًا , لَقَدْ أَسْلَمَا فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ فِي حَقِيقَتِهِ ثِقَة وَطَاعَة وَطُمَأْنِينَة وَرَضِي وَتَنْفِيذ وَكِلَاهُمَا لَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ إلَّا هَذِهِ الْمَشَاعِرِ الَّتِي لَا يَصْنَعُهَا غَيْرِ الْإِيمَانِ الْعَظِيمِ.
ثُمَّ أَرَادَ إسْمَاعِيلَ أَنَّ يُخَفِّفُ عَلَى أَبِيهِ لَوْعَة الثُّكْل وَيُرْشِدُهُ إلَى أَقْرَبِ السُّبُل إلَى قَصْدِهِ فَقَالَ يَا أَبَتِ اُشْدُدْ وَثَاقِي وَأَحْكَم رِبَاطِي حَتَّى لَا أَضْطَرِبُ وَاكْشِفْ عَنِّي ثِيَابِي حَتَّى لَا يَنْتَضِح عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمِي فَيَنْقُص أَجْرَى وَتَرَاه أُمِّي فَيَشْتَدّ حُزْنُهَا وَتُفِيض شُئُونَهَا (دُمُوعُهَا) وَأَشَحذ شَفْرَتَك وَأَسْرَع إمْرَارُهَا عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَى فَإِنْ الْمَوْت شَدِيد وَوَقْعَة أَلِيم وَأُقِرَّا عَلَى أُمِّي السَّلَامِ وَإِنْ أَرَدْت أَنْ تَرُدَّ قَمِيصِي عَلَيْهَا فَافْعَلْ فَإِنْ ذَلِكَ فِيهِ تَسَرِّيه لَهُمْها وَسَلُوهُ لَهَا فِي مُصَابُهَا وَهُو ذِكْرَى لَوْلَيدَةِا تَشَمُّ مِنْه عَبِيرِه وَتَتَنسم فِيهِ أَرَىجه وَتَعُودُ إلَيْهِ حِينَ تَبْحَث حَوْلَهَا فَلَا تَجِدُنِي وَتُفَتِّش عَنِّي فَلَا تَرَانِي. قَالَ إبْرَاهِيمُ نِعْمَ الْعَوْنُ أَنْتَ يَا بَنِي عَلَى أَمْرٍ اللَّهِ ثُمَّ ضَمَّهُ إلَى صَدْرِهِ وَأَخَذ يَقْبَلُه وَتَبِاكِيًا وَانْتَحَبَا.
ثُمَّ أَسْلَمَ إبْرَاهِيمَ ابْنِهِ فَصَرَعَهُ عَلَى شِقِّهِ وَأَوْثَقَه بِكِتَافه وَأَمْسَكَ السِّكِّينَ وَأَخَذَ يُصَوِّب النَّظَرُ إلَيْهِ مَرَّةً وَيُحْدَق فِي ابْنَةِ مَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ تُدْفَقت عَبَّرَاته وَتَتَابَعَتْ زَفَرَاتُه رَحْمَةً بِهِ وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِ وَأَخِيرًا وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ وَأَمَرَهَا فَوْق عُنُقِه وَلَكِنَّهَا لَمْ تُقْطَعْ لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ قَدْ كُسِرَتْ حِدَتِهَا وَفُلَّتْ مِنْ غَرْبِهَا.
فَقَالَ إسْمَاعِيلُ: يَا أَبَتِ كَبَنِي عَلَى وَجْهِي فَإِنَّك إذَا نَظَرْت إلَى أَدْرَكَتْك رَحِمَه بِي تَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَ تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى , فَفَعَلَ ثُمَّ وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى قَفَاهُ فَلَمْ تَمْضِ الشَّفْرَة وَأَدْرَكْتُ إِبْرَاهِيمَ الْحِيرَة وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فَتَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ إِنَّ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا فَرَحِمَ اللَّهُ ضَعَّفَهُ وَاسْتَجَاب لِدُعَائِه وَكَشْفِ غُمَّتِهِ، وَتَحَرَّكَتْ الْكَائِنَات بِقُوَّة حَرَكَاتِهَا وَاسْتَغَاث الْكُلّ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ اللَّهُمَّ ارْحَمْ هَذَا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَافِد هَذَا الطِّفْلِ الصَّغِيرِ فَجَاء النِّدَاءَ مِنْ الْعَزِيزِ الْجَلِيلِ ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصَّافَّات: 104 – 107].
فَاَللَّهُ لِإِيريد إلَّا الْإِسْلَامُ وَالِاسْتِسْلَام بِحَيْث لِإِيبقي فِي النَّفْسِ مَاتَكنه عَنْ اللَّهِ أَوْ تَعْزِه عَنْ أَمْرِهِ أَوْتَحْتَفِظْ بِهِ دُونَهُ وَلَوكَان هُوَ الِابْنُ فِلْذَة الْكَبِد وَلَوْ كَانَتْ هِيَ النَّفْسُ وَالْحَيَاة , وَأَنْتَ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ فَعَلْت , جُدَّتْ بِكُلِّ شَيْءٍ وَبِأَعز شَيْءٌ وَجَدَتْ بِهِ فِي رِضَى وَفِي هُدُوء، فَلَمْ يَبْقَى إلَّا اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَهَذَا يَنُوبُ عَنْهُ أَيْ ذَبْحِ مَنْ دَمِ وَلَحْم وَيَفْدِي اللَّهُ هَذِهِ النَّفْسَ الَّتِي أَسْلَمَتْ وَأَدَّتْ يَفْدِيهَا بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قِيلَ إنَّهُ كَبْش وَجَدَه إِبْرَاهِيم مُهَيَّأ بِفِعْلِ رَبِّهِ وَإِرَادَتِه لِيَذْبَحَه بَدَلًا مِنْ إِسْمَاعِيل.
وَمَضَتْ بِذَلِكَ سُنَّةُ النَّحْرِ فِي الْأَضْحَى ذِكْرِي لَهَا الْحَادِث الْعَظِيمِ الَّذِي يَرْتَفِعُ مَنَارَة لِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَجَمَال الطَّاعَة وَعَظْمِه التَّسْلِيم ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الْحَج
العُنْصُرُ الثَّانِي : الْأُضْحِيَّة
تَعْرِيفِهَا: الْأُضْحِيَّة وَالضَّحِيَّة اسْمٌ لِمَا يُذْبَحُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
مَشْرُوعِيَّتِهَا: وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ الْأُضْحِيَّةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الْكَوْثَر: 1 – 3]. وَقَوْلُه: ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾ [الْحَجّ: 36].
وَالنَّحْرِ هُنَا هُوَ ذَبَحَ الْأُضْحِيَّةَ. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضَحَّى وَضَحَّى المُسْلِمُونَ وَأَجْمَعُوا عَلَى ذَلِك.
فَضْلِهَا: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا عَمِلَ ادَمِيٌّ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ النَّحْرِ أَحَبُّ إلَيَّ اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمَ. أَنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا “.
حُكْمُهَا: الأُضْحِيَّةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَيُكْرَهُ تَرْكُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ.
حِكْمَتِهَا: وَالْأُضْحِيَّة شَرَعَهَا اللَّهُ إحْيَاء لِذِكْرِي إِبْرَاهِيم وَتَوْسِعَةٌ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْعِيدِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلّ.
مِمّ تَكُونُ: وَلَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلَا تُجْزِئُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ [الْحَجّ: 34].
وَيُجْزِئُ مِنْ الضَّأْنِ مَا لَهُ نِصْفُ سَنَةٍ، وَمِنْ الْمَعْزِ مَا لَهُ سَنَةٌ، وَمِنْ الْبَقَرِ مَا لَهُ سَنَتَانِ، وَمِنْ الْإِبِلِ مَا لَهُ خَمْسٌ سِنِينَ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى.
وَقْتَ الذَّبْحِ: وَيُشْتَرَطُ فِي الْأُضْحِيَّةِ إلَّا تُذْبَحُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْعِيدِ وَيَمُرُّ مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يُصَلِّي الْعِيدَ، وَيَصِحّ ذَبْحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَيَخْرُجُ الْوَقْتُ بِانْقِضَاءِ هَذِهِ الْأَيَّام.
فَعَنْ الْبَرَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إنْ أُوِّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيِّ “.
وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: ” مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَوَجَّهَ قِبْلَتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَلاَ يَذْبَحْ حَتَّى يُصَلِّيَ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ ذَبْحِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ فَقَدْ أَتَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ “.
كِفَايَةٌ أُضْحِيَّة وَاحِدَةً عَنْ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ:
إذَا ضَحَّى الْإِنْسَان بِشَاةٍ مِنْ الضَّأْنِ أَوْ الْمَعْزِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَهِيَ سُنَّةٌ كِفَايَةٌ. رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ قَالَ: ” كَانَ الرَّجُلُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ حَتَّى تَبَاهَى النَّاسُ فَصَارَ كَمَا تَرَى
تَوْزِيعُ لَحْم الْأُضْحِيَّة: