بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
في زمن أصبحت فيه التكنولوجيا الطبية في أوج تقدمها، وأصبح الجراح يتحكم في أدق الشرايين باستخدام الروبوت، لم يفقد الطب البديل مكانته في قلوب كثير من الناس، بل زادت الحاجة إليه كوجه آخر للحكمة الإنسانية القديمة في التعامل مع الألم والمرض. فالطب البديل ليس وليد العجز عن ملاحقة التقدم، بل هو تعبير عن فهم عميق للإنسان في كليته: جسدًا، ونفسًا، وروحًا. وهو علم لا يقل في قيمته عن الطب الحديث، لكنه يختلف عنه في المنهج والرؤية والأدوات.
الطب البديل هو منظومة علاجية قديمة، نشأت منذ آلاف السنين، واعتمد فيها الإنسان على الطبيعة كمصدر أول وأصيل للشفاء. استخدم الأعشاب، والماء، والزيوت الطبيعية، والعسل، والصيام، والطاقة الحيوية، بل وحتى التأمل والدعاء والسكينة الداخلية، كوسائل لعلاج النفس والجسد معًا. لم يكن الطب عند القدماء مجرد تناول دواء، بل كان أسلوب حياة متكامل يربط الإنسان بالعالم من حوله، ويؤمن بأن الجسم إذا توازن داخليًا فلن يُصاب بأذى خارجي بسهولة.
ومن هذا المنطلق، يتميز الطب البديل برؤية شمولية، فهو لا يعالج العَرَض فقط كما يفعل الطب الحديث في كثير من الأحيان، بل يبحث عن الجذور النفسية والغذائية والبيئية لأي مرض. فعند مريض بالصداع المزمن، لا يكتفي الطب البديل بوصف مسكن، بل يبحث: هل يعاني من قلة النوم؟ هل طعامه مليء بالمواد الحافظة؟ هل يتعرض لضغط نفسي؟ هل جسده محمّل بالسموم؟ وهنا تظهر قوة هذا الطب في النظر للإنسان كحالة متكاملة، وليس كأجزاء منفصلة.
أما الطب الحديث، فقد أحدث طفرة هائلة في تشخيص الأمراض، ودقة التحاليل، وتطور العلاجات. ولا يمكن إنكار الفضل الكبير للطب المعاصر في إنقاذ الملايين من الأمراض القاتلة، مثل أمراض القلب، والسرطان، والعدوى البكتيرية، وحوادث الطوارئ. الطب الحديث يقوم على التجارب السريرية والأدلة العلمية والإحصاءات الدقيقة، وهو ما يجعل منه أساسًا لا غنى عنه في العلاج الحديث.
لكن مع كل ذلك، يعاني الطب الحديث من أزمة ثقة لدى كثير من المرضى، لأسباب عديدة. أولها أن الاعتماد الزائد على الأدوية الكيميائية قد يترك آثارًا جانبية خطيرة. ثانيها أن بعض الأطباء يتعاملون مع المرضى بلغة المهنة الباردة، دون التفات كافٍ للجانب النفسي والإنساني، وهو ما يجعل المريض يشعر بأنه “رقم في طابور طويل”، لا “إنسان في أزمة”. وهنا يظهر الطب البديل كملاذ إنساني وروحي، يعيد المريض إلى طبيعته الأولى، ويشعره بالطمأنينة.
وبين هذين الخطين المتوازيين، ظهرت في السنوات الأخيرة دعوة قوية إلى دمج الطب البديل والحديث معًا، فيما يعرف بالطب “التكاملي”. هذا الاتجاه لا يرى في الطب البديل بديلاً عن الطب الحديث، بل مكملًا له، حيث يتم استخدام الوسائل الحديثة في التشخيص والتدخل الطبي، إلى جانب اعتماد أساليب الطب البديل في تحسين المناعة، وتخفيف الآلام، ودعم الجانب النفسي. وهذا الدمج يُستخدم الآن في أكبر المستشفيات العالمية، ويخضع لأبحاث وتجارب علمية تؤكد فعاليته.
وعلى المستوى العلمي، بدأت مؤسسات بحثية مرموقة توثّق فوائد الطب البديل بطرق علمية. فهناك دراسات أثبتت أن الوخز بالإبر الصينية يُقلل من آلام الظهر والمفاصل، وأن الحجامة تساعد في تنشيط الدورة الدموية وتقوية المناعة، وأن الزيوت العطرية تقلل التوتر والاكتئاب، وأن التأمل المنتظم يعيد تنظيم هرمونات الجسم ويعزز الهدوء الداخلي.
لكن الطب البديل أيضًا ليس معصومًا من الخطأ. ففي ظل الإقبال الشعبي المتزايد عليه، انتشرت المراكز غير المرخصة، وظهر من يتاجرون بآلام الناس تحت ستار الطب البديل، مستغلين جهل المرضى وعدم تنظيم السوق. ولهذا فإن من الضروري أن تخضع ممارسات الطب البديل لقواعد علمية، وألا يُسمح لأحد بممارسة هذا النوع من العلاج إلا بعد الحصول على تدريب وتأهيل موثق، تمامًا كما هو الحال مع الأطباء في الطب الحديث.
الطب في النهاية ليس عِراكًا بين القديم والجديد، بل هو تجربة إنسانية مستمرة، تبدأ من فطرة الإنسان وتتطور عبر القرون، وما بين حِكمة الجدّ القديم وأجهزة الطبيب المعاصر مساحة واسعة من التكامل، لا التناقض. وإذا ما وُضعت القواعد، واحتُرم العلم، وأُخذ من كل علمٍ بأحسن ما فيه، فإن الطب – بكل أنواعه – سيصبح وسيلة حقيقية للشفاء الشامل، لا مجرد علاج للعرض.
وهنا يكمن المستقبل… أن نُعيد للطب روحه، وأن نمنح للمريض حقه الكامل في أن يُعالج بإنسانية، وأن يُنظر إليه ككائن متكامل لا كمرض في ملف.