ولكنّ هذا السرورَ يجبُ أن يكونَ في حدودِ ما أباحَ اللهُ ، فلا يخرجُ إلى معصيةِ اللهِ ، والاعتداءِ على حقوق الآخرين وإيذائِهم ، ففي أعيادِنا لا إسرافَ ولا غرور ، ولا اعتداءَ ، ولا تعري ،ولا سفورَ ولا إزعاج . يفرحُ فيه المؤمنون بفضلِاللهِ ،قال جل وعلا( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) ، فكونوا بهذا اليومِ فرحينَ ، متجملينَ مكبرينَ ومهللين ، ولبعضِكم البعض مهنئين ، وعلى الألفةِ مجتمعين ، ولقضاءِ حوائجِ إخوانِكم حريصين ، وإلى نداءِ ربِّكم عز وجل مستجيبين، حين ناداكم ربُّكم بقوله : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) ، ونداكم نبيُّكم ﷺ بقوله : ( وكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) .
يومُنا ها مَا أَعْظَمَهُ مِنْ يومٍ تَتَأَلَّقُ فِيهِ ءايَاتُ المَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَ المسلِمينَ، وها هِيَ مَظَاهِرُ العِيدِ مِنْ فُرَصِ التَّزَاوُرِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ تَغْمُرُ قُلوبَ المؤمِنِينَ أُنْسًا وَمَحَبَّةً وَمَوَدَّةً، وَهَا هُم أخوتُنا عِنْدَ الحبِيبِ مُحمَّدٍ وَحَوْلَ الكَعْبَةِ يُؤَدُّونَ الشَّعَائِرَ وَالْمَنَاسِكَ وُيُرَدِّدُونَ كَلِمَاتِ التَّعظِيمِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكبِيرِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، لَبَّيْكَ اللهُمَّ لبَّيْك، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالملكَ لا شَرِيكَ لَك. وفي هذا اليوم العظيم ودَّع النبيُّ – ﷺ- أمَّتَه، فعلِم بعضُ الصحابة بقرْب أجَلِه – ﷺوقف نبيُّنا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – في منًى خطيبًا في الحجَّاج، فذَكَر تعظيم مكان الحج، وتعظيم زمانه، وتعظيم يومه الأكبر الذي هو يوم النحر، وتعظيم أمر الدماء والأعراض والأموال؛ كما روى جَابِرٌ – رضي الله عنه – قال: خَطَبَنَا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم النَّحْرِ، فقال: ((أيُّ يَوْمٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟))، فَقَالُوا: يَوْمُنَا هذا، قال: ((فأي شَهْرٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟))، قالوا: شَهْرُنَا هذا، قال: ((أي بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟))، قالوا: بَلَدُنَا هذا، قال: ((فإن دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، هل بَلَّغْتُ؟))، قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد))؛ رواه أحمد.
عبادَ اللهِ : إنكم تستقبلون غداً أيامَ التشريق الثلاثة التي تبدأُ بخيرها وأعظمها ، وهو يوم القَرّ ، وفي أيام التشريق يقول تعالى : ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ )، إِنَّ يَوْمَكُمْ هَذَا هُوَ آخِرُ الأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَأَوَّلُ الأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير) [الحج: 28]، وَقَالَ فِي شَأْنِ الْحَجِيجِ: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [البقرة: 203((ومن فضلِها أن اللهَجل وعلا يزيدُعبادَه في إجابةِ دعواتِهم ، وقبولِ أعمالِهم ، ومضاعفةِ أجورِهم ، ومغفرةِ ذنوبِهم ، وعتقِهم من النارِ ، فعظّموا هذه الأيامَ المباركةَ الجليلةَ بفعل ما شرّع الله تعالى فيها من التكبيرِ والتهليلِ والتحميدِ والذكرِ ، ولا سيما في أدبارِ الصلواتِ المفروضةِ إلى صلاةِ العصرِ آخر أَيَّامِ التَّشْرِيقِ،، وبما شَرَعَه فيها من ذبحِ الأضاحي ، مع الأكلِ والإهداءِ والصدقةِ منهافَقَالَ ﷺ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ في يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِـعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. فَاشْكُرُوا اللهَ وَاحْمَدُوهُ عَلَى نِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَاجْعَلُوا عِيدَكُمْ، عِيدَ طَاعَةٍ وَشُكْرَانٍ، وَلَا تُكَدِّرُوهُ بِالذُّنُوبِ وَالْعِصْيَانِ.
لبَّيكَ ربِّي وإنْ لم أكنْ بينَ الزحَامِ مُلبيًّا ** لبَّيكَ ربِّي وإنْ لم أكنْ بينَ الحجيجِ ساعيًا
لبَّيكَ ربِّي وإنْ لم أكنْ بينَ عبادِكَ داعيًا ** لبيك ربي وإن لم أكنْ بينَ الصفوف مصليا
ثانيــًــا :الرحمةَ الرحمةَ المغفرةَ المعفرةَ في يومَ العيدِ عبادَ اللهِ.
أيُّها السادةُ:الرحمنُ والرحيمُ اسمان من أسماء الله جل وعلا، والرأفة والرحمة من نعوت جماله، تتنزل بها النفحات الربانية، والرحمات الإلهية، فتجدُ في كلِّ تقديرٍ تيسيرًا، ومع كلِّ قضاءٍ رحمةً، ومع كلِّ بلاءٍ حكمةً، فإنْ كان اللهُ قد أخذَ منك فقد أبقى، وإنْ منعَ فلطالمَا أعطَى، وإنْ ابتلاكَ فكثيرًا ما عافاك، إنْ أحزنَكَ يومًا فقد أفرحَكَ أيامًا وأعوامًا ،فاللهُ أرحمُ الراحمين.ورحمةُ اللهِ أوسعُ بنا، وعافيتُه أنفع ُلنا، ولو آخذنا بذنوبِنا لأهلكنا وهو غيرُ ظالمٍ لنا، ولكنه بعبادِه رؤوفٌ رحيمٌ، لو فتح سبحانه بابَ رحمتِه لأحدٍ من خلقِه، فسيجدها في كلِّ شيء، وفي كلِّ موضعٍ، وفي كلِّ حالٍ، وفي كلِّ مكانٍ، وفي كلِّ زمانٍ، فرحمتُه وسعتْ كلَّ شيءٍ، كما إنه لا مُمسك لرحمته قال ربُّنا: (مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم) (فاطر:2)وليس في الكونَ كلِّه من هو أرحمُ من اللهِ، فاللهُ أحكمُ الحاكمين وأعدلُ العادلين وأرحمُ الراحمين.
فمن عَجَائِبِ رَحْمَةِ اللهِ بِنَا مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَنَا حِينَـمَا رَأَى امْرَأَةً وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ»؟ قَالُوا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» الله أكبر رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وفي الصَّحيحينِ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ:” إنَّ اللَّهَ خلقَ الرَّحمةَ يومَ خلقَها مائةَ رحمةٍ أنزلَ منْها رحمةً واحدةً فبِها يتراحمُ الخلقُ حتَّى إنَّ الدَّابَّةَ لترفعُ حافرَها عن ولدِها ))
ومن أعظمِ أسبابِ نيل رحمةِ اللهِ تعالى: أن يرحمَ العبدُ غيرَه من المخلوقاتِ؛فمن علاماتِ سعادةِ العبدِ: أن يكون رحيمَ القلبِ؛ فالرحيمُ أولى الناسِ برحمةِ الرحمنِ جلّ جلالٌه، وهو أحبُّ الناسِ إلى الناسِ، وأقربُ الناسِ إلى قلوبِ الناسِ، وهو أحقٌّ الناسِ بالجنةِ؛ لأن الجنّةً دارُ الرّحمةِ لا يدخلُها إلّا الرحماءُ، ففي الصحيحين من حديثِ جريرِ بنِ عبد الله -رضي الله عنه- قالَ: قال رسولُ اللهِ -ﷺ((مَنْ لا يَرْحَمْ الناسَ ، لا يَرْحَمْهُ اللهُ عزَّ و جلَّ))
وفي السنن : الرَّاحِمونَ يرحَمُهم الرَّحمنُ تبارَك وتعالى؛ ارحَموا مَن في الأرضِ يرحَمْكم مَن في السَّماءِ ((فالجزاءٌ من جنسِ العملِ، فكن رحيمًا مع جميعِ الخلقِ، لطيفًا مع كلِّ عبادِ اللهِ، وإن لم تستطعْ نفعَ إنسانٍ فلا تضرُه، وإن لم تفرحْه فلا تغمْه، وإن لم تمدحْه فلا تذمْه، وإن لم تقفْ معه فلا تعنِ عليه، وإن لم تفرحْ بنعمته فلا تحسدْه، وإن لم تمنحْه الأملَ فلا تحبطْه.. لا تكن جافَ المشاعرِ، بخيلَ اليدِ، قاسيَ القلبِ، ولكن كن رحيمًا فـ” الرَّاحِمونَ يرحَمُهم الرَّحمنُ ))وروى أنَّ بغيًّا زانيةً مِن زوانِي بنِى إسرائيل دخلتْ الجنةَ في كلبٍ، مرتْ على كلبٍ يلهثُ الثرَى مِن العطشِ فنزلتْ إلى بئرٍ فيه ماء، فملأتْ خفَّهَا بالماءِ وقدمتْهُ للكلبِ فشربَ فغفرَ اللهُ لهَا بذلك)) وللهِ درُّ القائل:
إذا كانت الرحمةُ بالكلابِ ****تغفرُ الخطايا للبغايافكيف تصنعُ الرحمةُ**** بمَن وحّدَ بربِّ البرايا
أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلّا لهُ وبسمِ اللهِ ولا يستعانُ إلّا بهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وبعدُ