خطبة بعنوان ( الإسلام دين الوسطية والاعتدال ) لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف


خطبة بعنوان ( الإسلام دين الوسطية والاعتدال )

لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف

الحمد لله عظيم الشان قوي البرهان واسع السلطان ، ما شاء الله كان ، وكل شيء عنده بمقدار..

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،أصدق كلمة فاهت بها الشفاه ، وخير جملةٍ نطقت بها الأفواه..سبحانه الذي وجبت له كل صفات الكمال ، الجميل الذي ظهرت به كل نعوت الجمال ، العظيم الذي حاز صنوف الجلال ، ويكفي في بيان كمال جماله وجلاله -سبحانه- ما جاء عن النبي –عليه الصلاة والسلام: في وصف الرحمن : “حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ -أي: أنواره- مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ” (رواه مسلم)..

وأشهد أن سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم نبي الرحمه وشفيع الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فإنَّ دين الإسلام دينٌ وَسطيٌّ، ويُستَدلُّ على وسطيَّته من خلال النَّظر في عقائده، ومبادئه، وأصوله العلميَّة، وأخلاقه، وعباداته، وشرائعه، وأحكام..
وتعتبر الوسطية في الإسلام واحدة من أبرز خصائص هذا الدين، وهي أيضا الركيزة الكبرى لهذه الأمة التي ارتضت بالإسلام وشريعته وأحكامه..أي أنَّ الاعتدال والوسطيَّة سمةٌ بارزةٌ لكلِّ ما له علاقةٌ بدين الإسلام ..
وهدف هذا المقال كشف زيف المفاهيم الخاطئة عن الوسطية وبيان مفهومها وضوابطها وأثرها ومعالمها في الإسلام ؛ فالبعض يرى أن النظر للقنوات الفضائية ومشاهدة الكاسيات العاريات وسماع المعازف والأغنيات من الوسطية وأنه لا حرج شرعي في ذلك البته وأن من لا يفعل ذلك متشدد يحتاج إلى شىء من العلاج.
* والبعض الآخر يرى أبعد من ذلك فهو يرى أن الحديث مع النساء والاختلاط بهم والخلوة معهم هو أمر مباح لا مانع منه وأن من لايفعل ذلك محروم متطرف يحتاج إلى مناصحة وتوجيه (الألوكة)..
ومن هنا فالوسطية لا تعني هدمَ القيم، والقضاءَ على الأخلاق، ونشر الرذيلة، والدعوة إلى الإباحية، ومعارضة النصوص الصحيحة الصريحة..
لقد جاء في العديد من الآيات وَصف الإسلام بالصِّراط المُستقيم، كما في قوله -تعالى-: (وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقونَ).
وطَلب العباد من الله -تعالى- أن يُيسِّر لهم الهداية للصِّراط المستقيم ، فالمسلم يدعو في صلاته المكتوبة نحو سبعة عشر مرة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) في سورة الفاتحة التي هي ركن أساسي في كل صلاة ..

ويشتمل هذا المقال على عدة عناصر منها ما يلي :
العنصر الأول : مفهوم الوسطية:

إن كلمة الوسطية مأخوذة من الوسط، وهى كلمة عربية فصيحة فى مبناها ومعناها، نطق بها القرآن الكريم، واستعملها الرسول عليه الصلاة والسلام ..
قال تعالى{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [سورة البقرة ، الآية 143]وفى الحديث «خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا» .. رواه ابن السمعانى فى ذيل تاريخ بغداد بسند فيه مجهول عن على مرفوعًا ..

والوسطية عرفها العرب قبل الإسلام ، وجرى الحديث عنها فى أشعارهم،
قال الشاعر :
كَأَنِّى لَمْ أَكُنْ فِيهِمْ وَسِيطًا وَلَمْ تَكُ نِسْبَتِى فِى آلِ عَمْرِو ..

وأوسط الشىء أفضله وخياره ، كوسط المرعى فإنه خير من طرفيه؛ وكوسط الدابة للراكب فإنه خير من طرفيها ، فكلمة الوسط اسم لما بين طرفى الشىء؛ وتأتى فى الأمور المعقولة كالمحسوسة تمامًا، قال أعرابى للحسن: «علمنى» يعنى: دينًا متوسطًا بين الغالى والجافى ..

وقال ابن الأثير فى معنى «خير الأمور أوسطها» كل خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان، فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كلَّ وصف مذموم، وتجنبه بالتعرى عنه، والبعد عنه، فكلما ازداد منه بعدا ازداد منه تعريا، وأبعد الجهات والمقادير والمعانى من كل طرفين وَسَطُها، وهو غاية البعد عنهما، فإذا كان فى الوسط فقد بعُد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان ..

وهذا الكلام فى غاية الأهمية، وهو وثيق الصلة بموضوع البحث؛ حيث يؤكد أن الاعتدال فى الأمور هو بغية كل باحث ، وأن البعد عن الوسط والاعتدال إلى أحد الطرفين مذموم ؛ إما من حيث الإفراط أو التفريط ، وكلاهما مذموم..
(بحث للدكتور مصطفى عمارة موقع إحسان)..

والوسط في اللغة: اسم لما بين طرفي الشيء.(تاج العروس)..

كما أن الوسطية في لغة العرب تدور على ثلاثة معان:
المعنى الأول: العدل والعدالة، كما في سورة القلم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}[القلم:28]، ومعنى أوسطهم أي أعدلهم. قال الشاعر:

همُ وسط يرضى الأنام بحكمهم .. .. إذا نزلت إحدى الليالي العظائم….. أي هم عدول.

وقال سبحانه عن أمة الإسلام: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} أي عدولا أخيارا. “والشهادة لا تقوم إلا بالعدل، ولا تقبل إلا من العدل”[انظر فتح الباري: ج13، ص613].

المعنى الثاني: الخيرية
قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110]. قال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان: “بين وصف الأمة بالخيرية ووصفها بالوسطية تلازم، إذا أن الوسط في لغة العرب الخيار”[أضواء البيان: ج1، ص87], وكما في قولهم: “كان رسول الله أوسط العرب نسبا” أي خيرهم نسبا.

المعنى الثالث: الوسط بين طرفين، والفضيلة بين رذيلتين، أو الحسَن بين سيئتين..
* (وقال زهير بن أبي سلمى: هم وسط ترضى الأنام بحكمهم … إذا نزلت إحدى اللّيالي بمعظم) * . 19-* (وقال آخر: (لا تذهبنّ في الأمور فرطا … لا تسألنّ إن سألت شططا وكن من النّاس جميعا وسطا) * (طريق الإسلام)..

والدلالة الاصطلاحية لمفهوم الوسطية أنها تعني التوازن والاعتدال بين طرفي الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط، والإسراف والتقتير.. فكل أمر له طرفان مذمومان، إما إلى إفراط، وإما إلى تفريط، والوسط هو التوازن بينهما (إسلام ويب)..

والوسطية هي الاعتدال في كل أمور الحياة من تصورات ومناهج ومواقف، وهي تحر متواصل للصواب في التوجهات والاختيارات، فالوسطية ليست مجرد موقف بين التشدد والانحلال؛ بل هي منهج فكري وموقف أخلاقي وسلوكي،

والوسط يفيد معنى البعد عن الإفراط والتفريط، والزيادة على المطلوب في الأمر إفراط والنقص عنه تفريط، وكلٌّ من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة؛ فهو شر ومذموم، والخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسط بينهما؛ ولذلك يقول القرطبي: ((لما كان الوسط مجانبًا للغلو والتقصير كان محمودًا))

يقول محمد الحبر يوسف: والحق أن الوسطية في مفهوم الإسلام منهج أصيل ووصف جميل، ومفهوم جامع لمعاني العدل والخير والاستقامة، فهي حق بين باطلين واعتدال بين تطرفين وعدل بين ظلمين..
ومن ضوابط الوسطية في الإسلام ١-الملائمة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر..
٢-فهم النصوص الجزئية للقرآن والسنة في ضوء مقاصدها الكلية..
٣- التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة.. (ويكيبيديا)..

العنصر الثاني : نصوص الإسلام تدعو إلى الوسطية في كل الأمور

الوسطية في القرآن ورد لفظ الوسطيَّة صريحاً في القرآن الكريم في عدَّة مواضع، كما ورد بتصاريفه المُتعدِّدة: وَسطاً، أوسط، وأوسطُهم، وفي مواضع ثانية جاءت الوسطيِّة بألفاظٍ أخرى مختلفة، ومن المواضع الصَّريحة في ذكر الوسطيَّة في القرآن الكريم، قوله -تعالى-: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا).. وقال المفسِّرون في تفسير هذه الآية أنَّ الأمَّة الإسلاميَّة هي الأمَّة الوسط بكلِّ معاني الوسط؛ سواءً كان هذا الوسط بمعناه الماديّ الحِسّيِّ، أو الوسط بمعنى الاعتدال والاقتصاد، أو الوسط في التَّصورات والاعتقادات، أو الوسط في المشاعر والعلاقات، وفي كل الأمور قاطبة، والوسط هو العدل والأفضل دائماً؛ لأنَّه يتوسَّط بين الإفراط والتَّفريط، وقال بعض المفسِّرون إنَّ معنى وسط يُقصد به الوسط في الإيمان والاعتقاد.

ولا بدَّ أن يكون الوسط بين طرفين مختلفين في الاتجاه، فهذه الأطراف هي طرفٌ نفى وجود الإله، والطَّرف الآخر من أسرف بتعدُّد الآلهة، وكلِا الطَّرفين مُخطئ، وأمَّا عقيدة الإسلام فتتضمَّن شهادة التَّوحيد؛ لتُعلن أنَّ هناك إلهاً خالقاً للكون، ولكنَّه واحدٌ ولا شريك له، وهي وسطٌ في الشَّريعة أيضاً؛ فلا هي مُتضمِّنة للتشديدات، ولا هي مُتهاونة في الأحكام، بل جاءت وسطاً بين هذا وذاك..

ولكلمة الوسطيَّة مرادفات عديدة؛ منها الاعتدال، والقَوام، والانتصاف، والاستقامة ..

والكلام يفسر الكلام ومثاله أن اعرابيا سأل سيدنا عبداللَّه بن عباس ـ رضى اللَّه عنهما. فقال: إن العرب تقول: حب التناهى شطط ـ خير الأمور الوسط ـ هل هذا موجود فى القرآن؟. قال ابن عباس. رضى اللَّه عنهما: نعم فى أربعة مواضع منها:فى قوله تعالى فى وصف بقرة قوم موسى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى. قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك). «البقرة: 68». «اى وسط بين الكبر والصغر». وفى قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا). «الاسراء: 110» (هذا السبيل هو الوسط). وفى قوله تعالى فى مدح المعتدلين من كرماء المؤمنين: (وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا). «الفرقان:67». «أى الوسط».وفي قوله تعالى(وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)الاسراء/١١٠ ، ففهم الأعرابي..(طريق أخوات الإسلام)..

وبالشرح المبسط لذلك: أن المتأمل في نصوص الشريعة يجدها كلها وجميعها بلا استثناء وسطا وعدلا؛ فهي تتوسط بالعبد في كل أمر، ففي باب الإنفاق يقول القرآن: (وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان: 67]،
والقَوام هو الشَّيء الذي يكون وسطاً بين أمرين، ومن ذلك إنفاقُ المؤمن بين الإسراف والإمساك، وكلُّ شرع الله -تعالى- وسطاً..
ومثل ذلك أيضاً ما جاء في قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)/(الإسراء، الآية: 29)، وقد بيّن في آيات عديدة مضارّ الإسراف وعاقبة المسرفين لتتربّى الأمة على التوازن والاعتدال في الجانب الاقتصادي.

وفي الموازنة بين الدنيا والآخرة يقول: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[القصص: 77]، وفي الجمع بينهما يقول: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)[البقرة: 201]..

كما أكّد القرآن الكريم في العديد من الآيات على مبدأ الوسطية والاعتدال في جميع نواحي الحياة، وهو بهذا يؤسّس لمنهج أمة، وحياة يتحقّق فيها التوازن القيمي والعقائدي والأخلاقي والسلوكي بعيداً عن الإفراط والتفريط..

وفي قوله تعالى: (…وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)/(الإسراء، الآية: 110)، إشارة واضحة إلى الوسطية في الإسلام، حتى في صوت العبد في صلاته، وهذا السبيل هو الهدف بعينه الذي ترمي إليه الشريعة من أصغر الأمور إلى أكبرها لتثبيت هذا المنهج المنطقيّ والفطريّ، فلا إفراط ولا تفريط، ولكن أمر بين أمرين..

والوسطية في السنة النبوية هناك العديد من الأحاديث النبويَّة التي تُثبت مشروعيَّة الوسطيَّة في الإسلام، وتدلُّ دلالةً صريحةً عليها؛ من هذه الأحاديث ..
حديث سيدنا ابو هريرة رضي الله عنه ،قال ﷺ :”لَنْ يُنَجِّيَ أحَدًا مِنكُم عَمَلُهُ، قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ برَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا”..
(أخرجه الإمام البخاري)..

«والقَصْدَ القَصْدَ» أي: اقْتَصِدوا في الأمورِ، والزَموا الطَّريقَ الوَسَطَ المعتَدِلَ، وتجنَّبوا طَرَفَيِ الإفراطِ والتَّفريطِ، فالقَصْدُ هنا هو التوسُّطُ (الدرر السنية)..

وحديثُ سيدنا أنس بن مالك -رضي الله عنه- حيث قال : (جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا، أما واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي)..

وهذا الحديث يؤكد على معنى وسطية الإسلام في العبادات ؛ حيث يُظهر هذا الحديث جانب الوسطيَّة والاعتدال حتى في نطاق العبادات والتَّقرب من الله -سبحانه وتعالى-، ليتمكَّن المسلم من أداء كلِّ الواجبات التي عليه تجاه نفسه والآخرين ممن حوله وتجاه خالقه، فيتحقَّق بعدها التَّوازن في حياته ، فلا غلو ولا تهاون في العبادات ..

وتجدر الإشارة إلى أنَّ الوسطيَّة في العبادات هي الأصل وليس استثناءً، إذ إنَّ كلَّ العبادات المَفروضة أو النَّافلة منها وباختلافها من صومٍ، وزكاةٍ، وحجٍّ، وطَهارةٍ، وصَلاةٍ، وغيرها، جميعها تَشترك باليُسر والسَّماحة، والبُعد عن الغُلوِّ والتَّشدُّد، وأنَّها في ذاتها سهلةُ الأداء، وما تحتويها من مَشاق تندرج ضمن المَشاق المُعتادة والمُحتملة، فضلاً عمَّا لها من فوائد عظيمةً على حياة المسلم الدُّنيويَّة، وتَحسين علاقاته الاجتماعيَّة، وتهذيب أخلاقه، وتَحسين علاقته بخالقه -سبحانه وتعالى-، وهذه هي الغاية الأسمى من وجود الإنسان في الكون..

الوسطية في المعاملات وأثرها:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ، قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى»صحيح البخارى (2076).حسن المعاملة والتسامح في البيع والشراء واقتضاء الديون سبب في نجاح الإِنسان في تجارته وأعماله، وفوزه بكل ما يصبو إليه من مال وصحة وولد، لأنّ النبي ﷺ دعا له بالرحمة،ودعوته مستجابة، فهو ولا شك مشمول برحمة الله ونعمته وعنايته.(منار القارى (3/258).

فما اليسر والسماحة في الإسلام إلا فرع من فروع الوسطية ، ولون من ألوانها لذا ؛ حذَّر الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- من الغُلوِّ في أحاديث أخرى ، فقال : (إياكم والغُلُوَّ في الدينِ، فإِنَّما هلَكَ مَنْ كانَ قبلَكُم بالغُلُوِّ في الدينِ)..

والمقصود بالغُلوّ التَّشدُّد ومُجاوزة الحدِّ، أي أنَّه خلاف معنى الوسطيَّة والاعتدال، ومن نِعم الله -تعالى- على البشريَّة أن بَعث الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، واختصَّه من الأنبياء ليكون خَاتمهم، وجعل كلَّ صفاته وأعماله مُتَّصفة بالاعتدال والوسطيَّة، ولم يجعل في هَديه أيّ تشدُّدٍ أو غُلوٍ يُرهق المسلمين، بل على العكس كان مَجيئه رحمةً مُهداةً للعَالمين جميعاً، خير النَّاس خلقاً، وعدلاً، ورحمةً، وتواضعاً، لذا وجب على مَن آمن به الاقتداء به، واقتفاء هَديه، والتَّجمُّل بالتَّوسط، والابتعاد عن كلِّ مافيه تشدّدٌ وغُلوٌّ، فلن يعود هذا التَّشدد على أحدٍ بخير، لا على صاحبه ولا على غيره..

قال ابن القيم -رحمه الله-: “ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان؛ إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر … فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين”….

ويقول الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله-: “وعلى الجملة فالأولى بالمرء أن لا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جلبُ مصلحة أو درءُ مفسدة، مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير”.

وقال شيخ المفسرين الطبري الإمام رحمه الله: “وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك”. وعلى هذا فليس في هذه الآية دليل على ما ذهب إليه هؤلاء فالوسطية هنا متعلقة بالملة وليس بتصرف الأشخاص..

العنصر الثالث :وسطية الأمة منحتها شرف الشهادة على جميع الأمم

قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }[ البقرة : 143].
فالأمةُ الإسلامية المنتسبة حقا للإسلام المستوعبة قيمة ومكانة وشرف هذا الدين وسطٌ في كلِّ شيءٍ، وسطيةٌ شاملةٌ ..
فهي وسطٌ في التصورِ والاعتقادِ ، وسطٌ في العلاقاتِ والارتباطاتِ، وسطٌ في النظم والتشريعاتِ ، حريٌّ بالمسلمينَ أنْ يعودُوا إلى وسطيتِهِم التي شرفَهُم اللهُ بهَا في كتابه وسنة رسوله ﷺ ..
وهنا إعجاز عددي في هذه الآية الكريمة ، فعددُ آياتِ سورةِ البقرةِ 286 ÷ 2 = 143 ، هذا هو رقمُ هذه الآيةِ، فكأنَّ الآيةَ نفسَهَا جاءتْ وسطًا، وكفى بها رسالة للأمة لتكون وسطاً في كل شئ ..
وهذه الوسطيةُ أهلتْ هذه الأمةَ ومنحتهَا الشهادةَ على جميعِ الأممِ، وهذه الشهادةُ قسمان:
١-شهادةٌ على نفسِهَا في الدنيا
٢-وشهادةٌ على غيرِهَا في الآخرةِ ..
كيف ذلك ؟!
فشهادتُهَا على نفسِهَا في الدنيا: أنْ يشهدَ بعضُهُم على بعضٍ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ” مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي ، مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ!!! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ” ( متفق عليه واللفظ لمسلم )..

وشهادةُ الأمةِ في الدنيا سببٌ من أسباب دخولِ الصالحِ الجنة، والطالحِ النار ..
أمَّا شهادةُ هذه الأمةِ في الآخرةِ فتكونُ على الأممِ السابقةِ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : هَلْ بَلَّغْتَ ؟ فَيَقُولُ : رَبِّ نَعَمْ ، فَيَقُولُ لأُمَّتِهِ : هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ ، فَيُقَالُ : مَنْ يَشْهَدُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ ﷺ وَأُمَّتُهُ ، قَالَ : فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ “.
سورة البقرة آية 143 ، قَال : وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ ” ( البخاري). فأمةُ مُحمدٍ ﷺ تشهدُ لنوحٍ وغيرِهِ بأنّهُم بلغُوا ونصحُوا بموجبِ ما جاءَ في القرآنِ الكريمِ، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام ..

وختاماً: هذا فيض من غيض من خصائص دين الإسلام بوسطيته واعتداله ورحمته ، وإن قوة الإسلام في عقيدته وشريعته وأخلاقه في عصر لا يعترف إلا بلغة بحق القوة وليس بقوة الحق ، لقد استطاعت باكستان المسلمة فرض إرادتها على أعدائها ، لقوة عقيدتهم وإيمانهم ، وأخذهم بأسباب القوة ومعالم القوة في عصرنا الحاضر ..

ولن يتأتى النصر على الأعداء إلا بعد أن تتوحد هذه الأمة على منهج الكتاب والسنة، ونقف صفًّا واحدًا في مواجهة الأعداء ، و الأفكار المنحرفة، والتي تهدف إلى الطعن في الدين والأخلاق، وبثّ الفرقة والاختلاف ..
يا إخوة الإسلام لقد حمل رسالة دين الإسلام في عصره الزاهر بوسطيته وشموله ، وعدله واعتداله ، وأخذه بما وسع اتباعه من أسباب ، خير الأجيال والقرون ، وحضارتهم كانت هي أوسع الحضارات امتدادا عبر الزمان والمكان، فعمت أرجاء الأرض، وحكمت العالم ثلاثة عشر قرنا، ورغم هذا الاتساع الهائل والمدة الطويلة فإنها أقل الحضارات البشرية سفكا للدم، وتعذيبا للبشر، ونشرا للجوع والفقر؛ لأن دعاتها فتحوا قلوب الناس للإسلام قبل فتح بلدانهم بالسنان، ورأى الناس منهم الرحمة والعدل والإحسان فسلموا لهم، وفضلوهم على حكم غيرهم، وأكثر بلاد الأرض إبان الفتوح دانت للمسلمين سلما، ورضي أهلها بحكمهم قبل الحرب..
إذا كانت هذه سمات حضارتنا الإسلامية المكللة بكل قيمة روحية ومادية؛ فلم الغفلة عنها وإغفالنا لها؟! ولماذا الهرولة نحو الحضارات الغربية؟! وليت شعري ما الذي أعجب ثلة كبيرة من المخدوعين بها؟! وما الذي أغراهم وجذبهم إلى تلك الحضارات الخالية من المبادئ والقيم الإنسانية والأخلاقية، الملوثة بسفك الدماء وإشعال الحروب وابتزاز الشعوب وإذلالها والكيد بالمجتمعات الضعيفة أو الفقيرة ، أو المحافظة على موروثها الطيب الأصيل، والمتمسكة بشرعة ربها الجليل، لجرها في وحل التخلف والجهل..حسب أدعياء الحضارة الغربية اليوم؛ القائمة على العنصرية والطبقية والرأس مالية والكذب والبهتان، والكيل بمائة مكيال ، والعلو والاستكبار ونشر الخوف والتنازع في العالم والترويج للحروب والاقتتال.. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا واصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر وانصر الإسلام والمسلمين على الصهاينة المعتدين ، واحفظ بلدنا مصر وسائر بلاد المسلمين أجمعين ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين..

اترك تعليقاً