خسر تاجر من التجار في بعض صفقاته، فيعزيه ويواسيه بعد أصحابه في خسارته، وإن شاء الله ربنا يعوضك، وخيرها في غيرها، فيقول التاجر الخاسر: والله لا أحزن على الخسارة ولكن أحزن على شماتة بعض الناس بخسارتي، فيقول له صاحبه لا تحزن أيضاً على شماتة بعض الناس فقد شمت المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم حينما تأخر عنه نزول الوحي، فقالوا وَدَّعك ربك وقَلاك، وقال تعالى عن شماتهم: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا }[آل عمران: 120]، فأنزل الله تعالى في شماتتهم سورة الضحى {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}[الضحى: 1 – 3]، ففرح التاجر بهذا الموقف النبوي الذي خفف عنه بعض آلامه وبعض أحزانه. فنتعلم من السيرة النبوية التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}[الأحزاب: 21]، وقد نزلت هذه الآية في سورة الأحزاب، حينما اجتمع الأحزاب حول المدينة المنورة وَطَوَّقُوها من كل الجهات حتى ما يقدر أحد أن يخرج لقضاء حاجته من شدة الخوف، والصحابة يحفرون الخندق وإمامهم النبي صلى الله عليه وسلم يحمل التراب على كتفه الشريف.
وجاءت لفظة (أسوة) في آية الأحزاب نكرة لتفيد عموم التأسي به صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، وصبره ومصابرته ومجاهدته وانتظار الفرج من ربه عز وجل، وكيفية التعامل الأمثل مع المحبين والمبغضين، فالقدوة في صفةٍ واحدة أو شيءٍ واحد، أمَّا الأسوة فهي في كل شيءٍ.
والأسوة أصلها من الأسى أي الحزن، فالأسوة هو مَن يواسيك ويعالجك ويساعدك وتنتفع بسيرته الزكية، ويقويك في الثبات على الحق، فالنبي صلى الله عليه وسلم طبيب لحُزنك وأساك، فهو المعالِج وأنت المعالَج.
والاقتداء يكون بالعمل نفسه؛ أما التأسي فيكون بالشخص في كل تفاصيل حياته؛ لذلك لن يتحقق التأسي إلا بمعرفة سيرة وأحوال الـمُتأسَى به، وفي السيرة النبوية المباركة أسوة ونور يُسْتَضاء به في ظلمات الحياة.
فما يمر الإنسان بأحزان أو آلام أو مصاب أو ابتلاء إلا و قد مر النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو بأصعب منه، والسيرة النبوية تبين كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم بحكمة ورشد مع هذه المواقف كلها، وكيف حول قلوب الأعداء إلى محبين وأصفياء، وكيف استل قلبه من الأحزان التي تكدر صفو الإنسان، كما تُستخلص الشعرة من العجين؛ ليتفرغ القلب بصفائه لله رب العالمين.
ولا يزال المحب للسيرة النبوية يتعلم منها ويستنير بنورها ويستضيئ بصاحبها صلى الله عليه وسلم حتى تستنير حياته ويصبح هذا المحب هو القدوة وهو الأسوة للناس من حوله وللأجيال من بعده، وفي ذلك يردد عباد الرحمن دوما هذه الدعوات الطيبات: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان: 74].