صرخة من قلب الإنسانية : أعيدوا بناء الإنسان

بقلم الدكتور : مصطفى عبد الله  الباحث في العلوم الإنسانية

في زمان ليس ببعيد  كانت البيوت ملاذا والمدارس منارات والقلوب لا تزال تنبض بالخوف من الله والخجل من الخطأ والحرص  على السمعة.

كنا نسمع عن الجرائم فنرتجف، نرى مشهدا مؤلمًا فنُصاب بالذهول، ونربي أبناءناعلى عيب قبل أن نعلمهم حرام.

لقد أصبحنا اليوم نعيش زمنا تغلغلت فيه الجرائم فى تفاصيل حياتنا اليومية، حتى صارت واقعا مريرا نراه ونعتاد عليه دون أن نستنكر.

جرائم قتل داخل الأسرة تمزق الروابط وتطفئ دفء البيوت، وتفكك أسري بلا نهاية ينهش استقرار المجتمع،تحرش في الشوارع والمدارس، وبلطجة تتجول بلا رادع ولا خوف.

تشرد يفتك ببراءة الطفولة، وشباب وفتيات غرقوا في إدمان المخدرات حتى غاب وعيهم وتلاشت أحلامهم.

تعد صارخ على الحيوانات، وجرائم لفظية، ومعنوية، ومادية تبث أمام أعيننا يومياوكأنها مشاهد عبثية من فيلم رديء اعتدنا مشاهدته،حتى فقدنا بل ومات  الإحساس فينا.

أصبحنا لا نهتز أمام جريمة، ولا نرتجف لصوت ضحية، ولا يرف لنا جفن، ولا يتحرك ضميربردت القلوب، وتبلدت العيون، وفقد المجتمع إحساسه.

أصبحنا نسمع الفواجع ونشاهدها بلا مبالاة، ونجهر بها كأنها أمر عاديّ لا يستحق الوقوف لم نعد نندهش، ولم نعد نستنكر، وكأننا سقطنا في وحل اللامبالاة الجماعية.

ما السبب؟

لأننا ابتعدنا عن الله فأظلمت القلوب، وتاهت البصائر، وغاب الضميرانهارت التربية حين تخلت الأسرة عن دورها، وانشغل الوالدان عن أبنائهم، فتركوا يتخبطون في زيف الحياة.

تراجعت القيم حين ضاعت رسالة التعليم وفقد إعداد المعلم الذي يربي قبل أن يعلم ويهذب، لا من يلقي دروسا ميتة لا روح فيها.

تاه الأبناء حين لم يجدوا قدوة، ولم يروا احتراما للكبير، ولا هيبة للمعلم، ولا حنانا من والد، ولا حكمة من أم كبر الأطفال في فوضى المشهد، وتشربوا اللامبالاةمن مجتمع يصفق للباطل،ويضحك من الخطأ، ويتجاهل الصواب.

تسللت التكنولوجيا إلى العقول دون رقيب، فأصبحت الهواتف مربية، والشاشات موجهة، والعنف والانحلال جزءا من الترفيه اليومي وتحول الإعلام من وسيلة تنوير إلى أداة تخدير، يروج للسطحية، ويضخ نماذج فاشلة عبر برامج تافهة.

ومسلسلات تكرس الانحراف وتطبع القبح، حتى بات الشاب يقتدي بالممثل، والفتاة تتشبه بالمشهد، والأسرة تتابع في صمت.

ولم يكتمل هذا الانهيار إلا حين صمت المنبر، وغاب خطاب القيم عن الخطباء، وتحولت الخطب إلى أحكام وسرد بعيد عن حياة الناس وهمومهم، ولم نعد نسمع من يوقظ فينا الضمير، أو يردنا إلى الحق، أو يزرع في نفوسنا الخلق والإيمان.

وفي ظل هذا كله، تراجع القانون، وضعف الزجر والردع العام والخاص، فاستقوى المجرم، وتجرأ المعتدي، وغاب الأمان.

فمن يربي الآن؟ ومن يحمي العقول والقلوب؟ ومن يصلح هذا الخراب؟إننا بحاجة إلى يقظةلا بالكلام، بل بالفعل.

نحتاج عودة صادقة إلى الله، وتفعيلا حقيقيا لدور الأسرة، وتربية تبنى على الحب والانضباط، وتعليم ينير العقول، ومعلم مؤهل يحمل الرسالة، وقانون عادل لا يلين، وقدوة ترى في كل بيت ومدرسة وشارع.

الحل يبدأ من هنا:

اولا: العودة إلى الدين:

لا بد من العودة إلى الإيمان الصادق بالله، لأن الدين ليس مجرد طقوس نقوم بها، بل هو أسلوب حياة، أخلاق نبني بها علاقتنا مع الله ومع الناس يجب أن نتذكر أن الله يراقبنا، وأننا مسؤولون عن أفعالنا، وأن الضمير يجب أن يكون رقيبنا.

ثانيا: تفعيل دور الأسرة:

الأسرة هي الحاضن الأول للأبناء، وهي المسؤول الأول عن التربية والتوجيه، مع غرس القيم الإنسانية والعاطفية فيهم.

ثالثا: تحديث النظام التعليمي:

نحتاج إلى إصلاح حقيقي في النظام التعليمي، يبدأ بتأهيل المعلمين نفسيا، سلوكيا وفنيا من خلال إعداد معلم لا مدرس يجب أن يكون المعلم أكثر من مجرد ناقل للمعرفة، يجب أن يكون مربيا، يبني شخصيات طلابه ويزرع فيهم القيم الإنسانية.

رابعا: تفعيل دور الامن وتطبيق القانون بصرامة:

يجب أن يكون هناك رادع حقيقي ضد الجريمة، مع تطبيق القانون على الجميع دون تمييزالقانون يجب أن يكون صارما ضد أي تجاوزات سواء في المنزل أو الشارع، وأن يكون هناك رقابة فعالة تمنع الفوضى.

خامسا: إصلاح الإعلام:

يجب أن يتوقف الإعلام عن تقديم النماذج الفاسدة والتركيز على نشر العنف والفساديجب على الإعلام أن يعود إلى دوره التنويري والتربوي، وأن يعزز من نشر القيم النبيلة والقدوات الصادقة في المجتمع.

سادسا: التعامل مع التكنولوجيا بحذر:

التكنولوجيا ليست عدوا، ولكن يجب توجيه استخدامها بشكل صحيح من خلال تطبيق الرقابة الأسرية والمدرسيةعلى استخدام التكنولوجيا، وتعليم الأبناء كيفية التعامل معها بشكل مفيد وآمن يجب أن يكون هناك برامج توعية للوالدين والمعلمين حول كيفية التعامل مع هذا الواقع الجديد.

سابعا: دعم الرياضة كوسيلة لتربية النفس والجسد:

الرياضة هي وسيلة لبناء الشخصية والانضباط والاحترام والعمل الجماعي.
يجب أن نعيد الرياضة إلى مكانتها داخل المدارس والجامعات والنوادي، ونجعلها جزءا أساسيا من حياة الشباب.
الرياضة تهذب السلوك، وتفرغ الطاقات السلبية، وتمنع الانحراف، وتعلم روح التنافس الشريف.

ثامنا: تنميةالثقافةوالوعي المجتمعي:

الثقافة هي الحصن الفكري للمجتمع، لا بد من دعم الأنشطة الثقافية مثل القراءة، المسرح، الفن، والموسيقى التي ترتقي بالذوق وتفتح العقل يجب أن تتاح الفرص للشباب للمشاركة في المنتديات والمراكز الثقافية، لأنها تغذي الفكر وتقوّي الهوية، وتمنع الوقوع في فخ الجهل والتطرف.

تاسعا: تعزيز قيم التعايش والتسامح:

علينا أن نغرس في قلوب الأفراد قيمة التعايش المشترك، مهما اختلفت أديانهم، ثقافاتهم، أو خلفياتهم لا بد من العمل على تعزيز ثقافة التسامح وتقبّل الآخر، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع أفراد المجتمع.

عاشرا: الاهتمام بالصحة النفسية:

إذا كانت الصحة الجسدية حيوية للحفاظ على الحياة، فإن الصحة النفسية هي الركيزة الأساسية لاستقرار المجتمع يجب أن يكون هناك اهتمام حقيقي بالصحة النفسية للأفراد، وتوفير الدعم اللازم للذين يعانون من ضغوطات نفسية أو عاطفية، الاهتمام بالصحة النفسية يعيد بناء الإنسان من الداخل ويقيه من الانحرافات السلوكية.

الحادي عشر: العمل على تطوير مهارات الشباب:

الشباب هم المستقبل، ولكنهم بحاجة إلى تطوير مهاراتهم بشكل مستمر ليكونوا قادرين على المشاركة الفعّالة في المجتمع يجب أن يستثمر في تطوير مهارات الشباب، سواء على الصعيد المهني أو الشخصي، من خلال التعليم، ورش العمل، والتوجيه، يمكننا بناء جيل قادر على مواجهة التحديات.

الثاني عشر:الاهتمام بالبيئة الاجتماعية المحيطة:

يجب أن نعيد تقييم البيئة الاجتماعية المحيطة بالفرد. من خلال تكثيف الرقابة على الأماكن العامة والأحياء السكنية، وتعزيز الأمن والطمأنينة في المجتمعات المحليةإذا كانت البيئة المحيطة نظيفة وآمنة، فإن ذلك يعزز من استقرار الأفراد ويمنحهم فرصة أكبر للعيش بسلام.

الثالث عشر: الاهتمام بالتعليم المستمر للمجتمع:

التعليم لا يجب أن يقتصر على الجيل الصاعد فقط، بل يجب أن يشمل جميع فئات المجتمع من خلال البرامج التعليمية المستمرة والموجهة للجميع، يمكن تعزيز الوعي الاجتماعي،وتحقيق تطوير مستدام في المجتمع بشكل عام.

الرابع عشر: تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني:

مؤسسات المجتمع المدني هي شريك أساسي في بناء الوعي ومساندة الدولة في تحقيق التنمية،يجب دعمها وتمكينها من أداء دورها في التوعية، والتعليم، والرعاية الصحية، والدعم النفسي والاجتماعي،هذه المؤسسات قادرة على الوصول إلى الفئات المهمشة، وتبني المبادرات التي تغرس القيم وتعزز المواطنة.

علينا أن نبدأ بأنفسنا وأن نعمل بضمير من أجل أبنائنا وإعادة بناء الوطن على أسس من الرحمة، التعايش، والعدالة.

حينما تموت التربية، تموت الإنسانية، وتسقط المجتمعات،ولكن إذا زرعنا في قلوب الأفراد القيم النبيلة، وفعلنا ما هو لازم للحد من الجرائم، فإننا نفتح الطريق لمستقبل أكثر إشراقا، وتصبح المجتمعات أكثر أمانا وقوة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *