بقلم فضيلة الشيخ : أحمد عزت
الباحث فى الشريعة الاسلامية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد
فإن إتقان العمل سمة إسلامية وأحد السمات الإسلامية التي يتميز بها المسلمون، ولذلك يجب أن يلتزم جميع المسلمين بإتقان كافة الأعمال، سواء أكان العمل تعبدي، أو عمل سلوكي، أو عمل حياتي، فالله سبحانه وتعالى يقول: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام:١٦٢
فإتقان عمل واحد والتميز به والنجاح فيه أفضل من القيام بمجموعة من الأعمال، والفشل في أدائها
* وإتقان العمل في الإسلام يعتبر من شعائره وعلاماته المميزة، ويكفي أن الله جلا وعلا جعله من صفاته فقال: “صُنع الله الذي أتقن كل شىءٍ” النمل ٨٨
* وهو من المحبوب إلى الله تعالى، يقول النبي ﷺ: “إن الله يحب إذا عمِل أحدُكم عملًا أن يتقنه”
* وقد حثت الشريعة على الإتقان؛ لأن إتقان العمل من الأمانة التي أمر اللَّهَْ أَنْ تُؤَدّى إلى أهلها.
والإتقان ليس مجرد أداءٌ للعمل بل تجويده وتحسينه، وهذا التجويد والتحسين يُضفي الجمال على العمل، ويشيعه -الجمال- في الكون كله، تحدث المولى عز وجل عن خلق السموات والأرض والنجوم فقال عن السماء: “وزيّناها للناظرين”، “ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح” الملك
وقال عن الأرض: “وأنبتنا فيها من كل زوجٍ بهيجٍ” ق
وبعد أن تحدث سبحانه وتعالى عن خلق السموات والأرض والأنعام في أول سورة النحل قال: “ولكم فيها جمالٌ”
وإتقان العمل يكون: بإحكام الشيء وضبطه على أحسن وجه، وإكماله وعدم تركه ناقصًا. قال -عليه الصلاة والسلام-: “مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ.فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ ، وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا بُنْيَانًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِلَّا هَذِهِ اللَّبِنَةَ ، هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ، فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّين” متفق عليه
* إنه لا يَكفِي الفَردَ أَن يُؤَدِّيَ العَمَلَ صَحِيحًا، بَل لا بُدَّ أَن يَكُونَ مَعَ صِحَّتِهِ مُتقَنًا،
إتقان الله في مخلوقاته
ولقد ضرب الله لنا المثل بالإتقان بنفسه فإنه سبحانه وتعالى قد أحسن كل شيء خلقه، وقال -عز وجل- “صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ” النمل: ٨٨ ، فأحسنه وجوده وأتقنه، وجعله بديعاً في هيئته ووظيفته على حسب ما تقتضيه حكمته سبحانه وتعالى، يتجلى إتقان الله -عز وجل- في هذه المخلوقات التي خلقها فلو بحث الباحث المدقق عن خللٍ في خلق الله ما وجد، “مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ”، وكلما تدبرت آثار خليقته ترى التقدير بميزان، والحساب بإتقان، “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ”
أمر الله عباده بالإتقان
أمر عباده بالإحسان في أعمالهم، وأحب ذلك، فقال -عز وجل-: “وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” البقرة: من الآية ١٩٥. هذا الإحسان، هو إتقان العمل الذي قَالَ عنه ﷺ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَن يُتقِنَهُ» (رَوَاهُ البَيهَقِيُّ في الشُّعَبِ ).
* وَينهى عن الغش وعدم الإتقان؛ لأنه نوعٌ من الفساد
قَالَ عز وجل: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيهَا وَيُهلِكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ” البقرة: ٢٠٤- ٢٠٥
وَيَقرَأُ كَثِيرُونَ هَذِهِ الآيَاتِ وَأَمثَالَهَا، وَيَسمَعُونَ فِيهَا الأَمرَ بِالإِحسَانِ وَالنَّهيَ عَنِ الفَسَادِ، وَيَمُرُّ بهم مَدحُ المُحسِنِينَ وَذَمُّ المُفسِدِينَ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا إِنَّمَا قُصِدَ بها أَصحَابُ الوِلايَاتِ العَامَّةِ وَالمَنَاصِبِ الكُبرَى، مِنَ الحُكَّامِ وَالقُضَاةِ وَالأُمَرَاءِ وَالوُزرَاءِ، وَيَغفُلُونَ عَن أَنَّ الإِتقَانَ وَالإِحسَانَ وَرِعَايَةَ الأَمَانَاتِ وَالقِيَامَ بِالمَسؤُولِيَّاتِ، مَأمُورٌ بِهِ في كُلِّ عَمَلٍ جَلَّ أَو حَقُرَ، وَمُطَالَبٌ بِه كُلُّ أَحَدٍ صَغُرَ أَو كَبُرَ، وَأَنَّ الأُمَّةَ وَالمُجتَمَعَ بُنيَانٌ وَاحِدٌ، لا يُمكِنُ أَن يَكُونَ مُتقَنًا مُتَّزِنًا، وَفِيهِ لَبِنَةٌ مَائِلَةٌ أَو خَارِجَةٌ عَن مَوقِعِهَا،
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «كُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهلِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالمَرأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيتِ زَوجِهَا وَمَسؤُولَةٌ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «المُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا» -ثم شَبَّكَ بَينَ أَصَابِعِهِ- (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).
* إِنَّ الإِتقَانَ سِمَةٌ أَسَاسِيَّةٌ في الشَّخصِيَّةِ المُسلِمَةِ، يُرَبِّيهَا الإِسلامُ في كُلِّ عَمَلٍ مِنَ الأَعمَالِ، عِبَادَةً كَانَ أَو مُعَامَلَةً أَو سُلُوكًا، وَفي قِصَّةِ رُؤيَا عَبدِاللهِ بنِ زَيدٍ لِلأَذَانِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ: «فَقُمْ مَعَ بِلالٍ فَأَلْقِ عَلَيهِ مَا رَأَيتَ؛ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَندَى صَوتًا مِنكَ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ)،
* بَل حَتى فِيمَا لا يُتَصَوَّرُ الإِحسَانُ فِيهِ وَالإِتقَانُ لِهَونِهِ عَلَى النُّفُوسِ، نَجِدُ الأَمرَ فِيهِ بِالإِحسَانِ وَالإِتقَانِ حَاضِرًا، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَإِذَا قَتَلتُم فَأَحسِنُوا القِتلَةَ، وَإِذَا ذَبَحتُم فَأَحسِنُوا الذِّبحَةَ» (رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ).
مجالات الإتقان
ومجالات الإتقان كثيرة، نراها في العبادات والمعاملات الدنيوية بأنواعها فعلى على سبيل المثال،
* الإتقان في العبادة: يعتبر الإتقان في العبادات شرطا في قبولها، ومن مظاهر ذلك: قوله تعالى: “وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ”
وهذه الإقامة تتضمن الإتقان والإحسان والإتمام، وكذلك فإن هذا الإتقان يعود على صاحبه بالمنفعة العظيمة، ويكون بالاستعداد لها بالطهارة وإتقان الوضوء، ويكون بأداء فرائضه وسننه على أكمل وجه، قال ﷺ: «مَنْ تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ».
والخشوع والطمأنينة وتحسين الهيئة، قال تعالى: “خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ”، وأداؤها بخشوع وسكينة ووقار، قال ﷺ: (مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ وَتَطَهَّرَ فَأَحْسَنَ طُهُورَهُ وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَمَسَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ وَلَمْ يَلْغُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى)
* وقد أنكر رسول الله ﷺ على رجل صلاته لإسراعه فيها، فقال له: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ».
* إتقان الصيام: مطلوب فيه الإحسان وذلك بشروطه وأركانه مع اجتناب كل ما يبطله أو ينقص من أجره، قال ﷺ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْل فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
* إتقان الحج: وذلك بأداء المناسك من فرائض وواجبات ومستحبات على أحسن وجه، قال ﷺ: «مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
* وفي موضوع التكفين، يقول النبي ﷺ: (إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ) رواه مسلم .
* وفي حفر القبر قال ﷺ: (احْفِرُوا، وَأَعْمِقُوا، وَأَحْسِنُوا) رواه النسائي وهو حديث صحيح.
فهذا هو الإتقان في التوسعة والعمق، لا توسعوا كثيرًا ولا تضيقوا أيضًا. عن عاصم بن كليب عن أبيه قال: شَهدت مَعَ أَبِي جَنَازَة شَهِدَهَا رَسُوْلُ الله ﷺ وَأَنَا غُلاَمٌ أَعْقِلُ وَأَفْهَمُ، فَانتُهي بِالْجَنَازَةِ إِلَى الْقَبْرِ وَلَمْ يمكَّن لَهَا، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُوْلُ الله ﷺ يَقُولُ: (سَوّوا لَحْدَ هَذَا) حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ سُنَّة، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِم فَقَالَ: (أَمَا إِنَّ هَذَا لاَ يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَلاَ يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِن)
وفي لفظٍ (ولكن أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، فقوله: (إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) أي عمل، لأن النكرة عملاً في هذا السياق سياق الشرط تفيد العموم، ويُلفت هذا الحديث أنظار أصحاب المهن والأعمال بأن يُتقنوا أعمالهم؛ كي يكسبوا محبة الله ورضوانه
* وفي التربية (أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ، فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا .. …..) رواه البخاري.
الإتقان في العلم
العلم لا بد فيه من الإتقان، بأي شيء، بمراجعة الحفظ، بالفهم والتدبر فيه، وبالنظر والمطالعة والمذاكرة، وبالعمل به، وبتدريسه والاستعانة بذلك على تثبيته،
* والإتقان في طلب العلم بالبدء بالأصول والقواعد،
قال العلماء: من لم يتقن الأصول؛ حُرم الوصول.
فهنالك أصول للدين ولا بد من إتقانها والإلمام بها لإحكام عملية الطلب، إتقانه شيئًا فشيئًا، وأخذه يكون بالبدء بكباره قبل صغاره، والأسس والقواعد قبل الفروع، ومن رام العلم جُملة ذهب عنه جُملة.
فعن أبي عبد الرحمن السّلمي أنه قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبد الله ابن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبيّ ﷺ عشر آياتٍ لم يجاوزوها حتى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل.
قالوا: فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا.
فالعلماء الربانيون يتميزون بالحفظ والإتقان .
قال أبو عيسى الترمذي في سننه: إنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان. وقال ابن عبد البر: “أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر (الأحاديث والسنن المرويات) والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والمَيْز [التمييز بين الصحيح والضعيف] والفهم .
الإتقان في قراءة القرآن
* ويفرّقُ النبي ﷺ بين يقرأ القرآن بمهارة وإتقان، وبين من يتتعتع فيه، فقَالَ ﷺ: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ) متفق عليه
* وجعل إتقان القراءة سببًا مُقدّمًا للإمامة، فَقَالَ ﷺ: «يَؤُمُّ القَومَ أَقرَؤُهُم لِكِتَابِ اللهِ» (رَوَاهُ مُسلِمٌ).
فهو ذو الحذق والإتقان، والمهارة، هذا الذي يقرأ دون توقف، متقن للحروف، عارف بالوقوف، مجود على القواعد.
لقد حرص المسلمون على إتقان تجويد كتاب الله تعالى، وإخراج كل صوت من مخرجه، ولما كان بعض الحروف فيها تقارب في المخرج ضبطوها، وبينوا صفاتها، وحفظوها من الطغيان والتطفيف فلم يهملوا تحريكاً ولا تسكيناً ولا تفخيماً ولا ترقيقاً، وضبطوا مقادير المدَّات في التجويد، وتفاوت الإمالات، وميزوا بين الحروف والصفات، ولذلك صار في علم القرآن وقراءة القرآن مجال عظيم للإتقان،
الإتقان في جمع القرآن
أما مسألة جمع القرآن فقد كان الإتقان فيه عجبًا، فقد أسندت المهمة إلى رجل شاب عاقل هو زيد بن ثابت رضي الله عنه، وكان من كتبة الوحي، قال له أبو بكر رضي الله عنه: “لا نتهمك فتتبع القرآن فاجمعه”.
وتأمل الموقف الإحساس بعظم المهمة يدل على رغبة هذا الشخص وما استجمع له من قواه لأجل الأداء، قال زيد: “فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ -جَمْع عَسِيب وَهُوَ جَرِيد النَّخْل-، وَاللِّخَافِ -جَمْع لَخْفَة، قيل هي: الْحِجَارَة الرِّقَاق. أو صَفَائِح الْحِجَارَة الرِّقَاق وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ”. رواه البخاري .
فانظر كيف اختار الصديق رحمه الله ورضي عنه وأرضاه لهذه المهمة شاباً بهذه المؤهلات وهذه الصفات، وفي عهد عثمان تم أيضًا الجمع الثاني بغاية الإتقان، فكان الجمع الأول موجودًا في هذه الألواح واللخاف والصحف، وهذه العُسب ونحوها من عظام الأكتاف التي كان يكتب عليها، في عهد عثمان تم جمع هذا كله في مصحف واحد، فكانت الخطوات كما يلي:
– أن تنسخ الصحف الأولى التي جمعها زيد بن ثابت رضي الله عنه في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مصاحف متعددة
– أن ترسل نسخة إلى كل مصر من الأمصار فتكون مرجعا للناس هناك.
– تحرق ما عدا هذه النسخ.
وكان التنفيذ في لجنة من الصحابة، وحددت الأسس التي سيتم العمل بناء عليها:
– لا يكتب شيء إلا بعد التحقق من أنه قرآن .
– لا يكتب شيء إلا بعد العلم بأنه استقر في العرضة الأخيرة .
– لا يكتب شيء إلا بعد التأكد أنه لم يُنْسخ لفظه.
– لا يكتب شيء إلا بعد عرضه على جمع من الصحابة.
– إذا اختلفوا في شيء من القرآن كتبوه بلغة قريش.
– المحافظة على القراءات المتواترة ولا تكتب قراءة غير متواترة.
– اللفظ الذي لا تختلف فيه وجوه القراءات يرسم بصورة واحدة.
– اللفظ الذي تختلف فيه وجوه القراءات ويمكن رسمه في الخط محتملاً لها كلها يكتب برسم واحد مثل: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} ،بدون نقط، يمكن أن تقرأ أيضاً (فتثبتوا). أما اللفظ الذي تختلف فيه وجوه القراءات ولا يمكن رسمه في الخط محتملاً لها يكتب في نسخة برسم يوافق بعض الوجوه وفي نسخة أخرى برسم يوافق الوجه الآخر. مثل {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب}، وفي نسخة أخرى {وأوصى إبراهيم بنيه ويعقوب} فلا يمكن أن تكتب: وصى وأوصى برسم واحد. وبهذا المنهج الدقيق والأسس السليمة كتب المصحف العثماني في غاية الدقة والضبط والتحري والإتقان، وصدرت الأمة عنه.
الإتقان في جمع السنة النبوية
إذا جئنا للإتقان في جمع السنة النبوية، والمهمة التي انتدب لها عمر بن عبد العزيز رحمه الله الجمع العظيم من المحدثين من أهل الإتقان، كالزهري وغيره، وفي النصف الأول من القرن الهجري الثاني ضُمت الأبواب بعضها إلى بعض وخرج موطأ مالك آية، وبعده البخاري ومسلم وأصحاب السنن، ولما رأي البخاري هذه التصانيف الجامعة للحسن وغيره، مما نزل عنه اتجهت همته لجمع الحديث الصحيح، وقوى ذلك ما سمعه من أستاذه إسحاق بن راهويه حيث قال لمن عنده والبخاري فيهم: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله ﷺ، قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح.
لقد أتقنه أيما إتقان، حتى غدا أصح كتاب بعد القرآن، وقال: صنفت جميع كتبي ثلاث مرات، و ما زال ينقحه ويراجعه، وقال: صنفت (الجامع الصحيح) من ستمائة ألف حديث، فتم انتخاب صحيح البخاري من ست مائة ألف حديث في ستة عشر سنة، قال: وجعلته حجّة فيما بيني وبين الله، وقال: ما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله تعالى، وتيقنت صحته بعد صلاة ركعتين، وسماه: الجامع الصحيح المسند
* كل محدث له تلاميذ، وتلاميذ الشيخ طبقات، فالطبقة الأولى من لازموه في حضره وسفره وأخذوا عنه في أحواله وراجعوا وسمعوا منه الحديث مراراً وتكراراً، إلى أن تنزل إلى واحد ما سمع منه الحديث إلا مرة واحدة، وكان البخاري رحمه الله يلتزم في إخراجه أحاديث الطبقة الأولى، وقد ينزل للثانية عن الراوي، ثم اشترط أنه لا بد أن يكون الراوي ثبت سماعه من الراوي الذي قبله ولو مرة.
* المعاصرة وإمكان اللقاء شرط مسلم، أما البخاري فعنده قضية ثبوت السماع، ولذلك جاء هذا الصحيح آية في الإتقان، في علم الحديث الإتقان هو الميزان الذي يقبل به حديث الراوي أو يُرد، فمن شرط حديث الراوي الضبط، وهو الدقة في الحفظ، وإتقان الحفظ، قالوا: تُقبل رواية المتقن الضابط وليست العبرة بكثرة المرويات بل بما يتقنه.
قال الذهبي: “لا ريب أن ابن لَهيعة كان عالم الديار المصرية، هو والليث معًا، كما كان الإمام مالك في ذلك العصر عالم المدينة، والأوزاعي عالم الشام، ومعمر عالم اليمن، وشعبة والثوري عالما العراق، وإبراهيم بن طهمان عالم خراسان، ولكنَّ ابن لهيعة تهاون بالإتقان، وروى مناكير، فانحط عن رتبة الاحتجاج به عندهم. فرواية ابن لهيعة ليست مثل روايات اللليث ومالك والأوزاعي وشعبة، إبراهيم بن طهمان”
* قال مَالِكٌ: لَقَدْ أَدْرَكْنَا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ سَبْعِينَ مِمَّنْ يَقُولُ قَالَ فُلَانٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ ائْتُمِنَ عَلَى بَيْتِ مَالٍ لَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ، فَمَا أَخَذْت مِنْهُمْ شَيْئًا، لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ [ما كانوا متقنين له]، وَيَقْدَمُ عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَهُوَ شَابٌّ فَنَزْدَحِمُ عَلَى بَابِهِ، وهو شاب لأنه متقن.
هذا الإتقان الذي ميز شعبة بن الحجاج عن غيره، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع، فإن شئت تسألني عن الكلام فأخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك عن الكلام. مناقب الإمام .
الإتقان في تعلم اللغات
قضية الإتقان هذه وجدناها حتى في تعلم اللغات. فقد تعلم اللغة السرياينية، لغة اليهود. قال: فَكُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ إِذَا كَتَبَ، وَأَقْرَأُ لَهُ إِذَا كُتِبَ إِلَيْهِ. رواه الترمذي وأبو داود وهو حديث صحيح.
[لما قال له النَّبي ﷺ: أخشى -من اليهود- أَنْ يُزِيدَوا فِيهِ أَوْ يُنْقِصَوا -رسائلهم- قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ. [أَتْقَنْته وأحكمته].
تعلم زيد بن ثابت الفارسية من رسول كسرى في ثمانية عشر يومًا، وتعلم الحبشية والرومية والقبطية من خدام رسول الله ﷺ. البداية والنهاية
ولا نستطيع أن نأتي على كل صور الإتقان في الإسلام
الإتقان في الأعمال الدنيوية
لقد كانت قضية الإتقان عند المسلمين ليست خاصة بالشعائر التعبدية، ولا بالعلوم الشرعية، وإنما أيضًا في الأعمال الدنيوية، لأن الدين يُخدم بها، ومن صور ذلك:
* الإتقان في البناء
ألا ترى فن التشييد والبناء يُخدم به بنيان المساجد، قص الله علينا في كتابه إتقان ذي القرنين في البناء، “حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً . قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً” ما أخذ منهم قرشاً {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} (الكهف:٩٤-٩٥)
فأعينوني: استثارهم، نأتي للهدف والنتيجة وهي تحصل بماذا: {أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} (الكهف:٩٣).
وضع خطة العمل، وما أعطاهم كتالوج ضخم كبير، بل أعطاهم الخطة مفصلة على أجزاء، على مراحل:
– “آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ” أي: تجميع قطع الحديد،
– ثم اجعلوا بعضها فوق بعض {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}.ثم جاءت مرحلة {قَالَ انْفُخُوا}
– وأوقدوا النيران، وهاتوا المنافخ، حتى إذا جعله نارًا لتصهر هذه القطع المنفصلة، فتلتحم وتصير قطعة واحدة.
– {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أي: النحاس المذاب، لتكون سبيكة من الحديد والنحاس غير قابلة للاختراق، فملأ المسافة بين الجبلين بما يشبه الجبل الثالث، وصار سدًا منيعًا محكمًا ملتصقًا من هذه الجهة لهذا الجبل، ومن هذه الجهة لهذا الجبل مرتفعًا في علو الجبلين،
– {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}.
– وملأ الفراغات، {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فما استطاعوا أن يظهروه} من ارتفاعه، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} من سمكه وإتقانه وأحكامه،
تضمين الشريعة غير المتقن في الحرف والمهن:
جاءت الشريعة لقضية تضمين غير المتقن، لتعلمنا الإتقان حتى في المهن والحرف، ما هو فقط في المصنوعات والبناء، والأعمال، فقال النبي ﷺ: “مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ” رواه أبو داود والنسائي.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: “وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ لَمْ يَضْمَنْ، بِأَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحِذْقِ فِي صَنْعَتِهِ.
إذا كان ماهرًا مشهودًا له خلاص هذا قضاء الله وقدره، وإما إذا لم يكن من أهل ذلك وحصل ضرر للمريض يضمن، إذا حصل الإهمال والتفريط ضمن”
قال ابن قدامة في المغني: “وَلَا ضَمَانَ عَلَى حَجَّامٍ، وَلَا خَتَّانٍ، وَلَا مُتَطَبِّبٍ إذَا عُرِفَ مِنْهُمْ حِذْقُ الصَّنْعَةِ، وَلَمْ تَجْنِ أَيْدِيهمْ -يعني لم يتعدوا- ويفهم منه وجوب تضمين من لا يتقن عمله،
عوامل إتقان العمل
ما هي العوامل التي تجعلنا نتقن في الأعمال، وبعض الناس يحدثونك بقضية ويقولون أسباب تخلف المسلمين، فالإتقان قليل نادر في أشياء كثيرة، حتى في العبادات، ولذلك يلزم الإخلاص في العمل، وإذا كان الواحد لا يتقن إلا إذا صار المدير فوق رأسه، فأنت عندما تصلي لا بد أن تعلم أن الله فوقك، أن تعبد الله كأنك تراك، هذا سبب الإتقان الأول، وبالتالي فإن عملية الإتقان عند المسلم لا ترجع في الأصل إلى نظام رقابي، ولا إلى وجود كاميرات وعيون، وإنما داخله هو الذي يضبط له القضية .
ثمرات الإتقان
وثمرات الإتقان كبيرة فمنها:
* ينال الإنسان به رضا الله، وتحصل البركة والرفعة في الآخرة والدنيا وتتحقق مطالب الشريعة،
* وإذا أردتَ كرامةً من مهنة أَتقنْ فإن أتقنتها تتسوَّد
* كسب محبة الناس ومحبتهم للدين يكسب الشخص المُتقن لعمله محبة الناس له، ومحبتهم لدينه أيضًا، فالإنسان الذي يُتقن عمله يكبر في عيون الآخرين، والذي يُهمل عمله يصغر في عيون الناس،
* ويُفسَّر إتقان العمل بحسن الدين، ومن تفسيرات إهمال العمل خلل واضح في العقيدة وانتقاص للدين، فالعمل هو الذي يعكس صحة ومعتقد دين صاحبه، وبه يُمكن الوصول إلى الدين كلّه، وبالتالي لا بدّ من إتقان العمل من أجل اكتساب محبة الناس، وعدم انتقاص الدين
* نجاح ورقي المجتمع تنبع أهمية إتقان العمل من كونه يُعبّر عن نجاح الفرد في المجتمع والبلد الذي يعيش فيه، فعندما يُؤدي كلّ شخص عمله على أتمّ وجه فإنّ المجتمع يرتقي، ويصلح حال البلد كلّه،
* صلاح المجتمع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بصلاح عمل كلّ فرد، وانتشار الإتقان يُؤدي إلى استحالة الفشل، والتقاعس، والتكاسل، وظهور النشاط والقوة في المجتمع، وبالتالي تحقيق المراد، ولذلك فإن الله -سبحانه وتعالى- يحب من سلوك المؤمن الإتقان، وهذا يشمل أعمال الدنيا وأعمال الآخرة،
* المسلم مطالب بالإتقان في أعماله التعبدية والمعاشية، إحكامًا وإكمالاً، تحسينًا وتجويدًا وإتقانًا، فحُق عليه أن لا يأتي بشيء من أعماله إلا صححه وأكمله وكمله، ولذلك يقبل ويكثر ثوابه، والإحسان والإتقان والإكمال
#وإذا كان الإتقان في الدعوة، إتقان أساليب الدعوة، بعد إتقان منهج الدعوة، طرق الدعوة، وسائل الدعوة، التبليغ، الداعية بناء الدعاة، التربية، بناء المربين، التربية أحكام التربية وإتقان التربية،
* زرع المفاهيم كيف تؤسس القواعد في النفوس،
* يحتاج أهل الإسلام اليوم إلى الإتقان في المواجهة، لأن طريقة العرض والتقديم والإعلام والإعلان وتعبئة هذا المنتج وكيف نغزو به نفوس الآخرين، فيدخل فيها برداً وسلاماً، المسألة تحتاج إلى تعاون ومثابرة،
* وأخيرًا يجب أن نعلم أن الإتقان هو روح العمل
كانت العرب تنفي العمل كله إذا انتفى التجويد والإتقان، فتقول للصانع الذي ما أحكم صنعته: لم تعمل شيئاً، وتقول للسامر والمتكلم الذي ما أحسن قوله: لم تقل شيئًا
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.