رحلة الروح من التعلّق بالمخلوق إلى الاتصال بالخالق… ما بين الفناء والبقاء

بقلم الدكتور : فارس  أبوحبيب
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف المصرية

 

“تعلّق الفاني بالفاني يُفنيه، وتعلّق الباقي بالباقي يُبقيه”… هكذا نُسب إلى جلال الدين الرومي، الشاعر الصوفي الكبير، الذي التقط ببصيرته النورانية هذا المعنى العميق في كلمات وجيزة، لكنها تكشف فلسفة حياة، ومسار نجاة، ومفتاح صفاء.

إن الإنسان في جوهره كائن متعلّق منذ ولادته وهو يبحث عن الأمان، ثم الحب، ثم الانتماء، ثم التقدير، لكنه حين يُخطئ الاتجاه ويتعلّق بما لا يدوم، يصبح هذا التعلّق بابًا للألم والانكسار، وربما الضياع.

فالفاني إذا تعلّق بالفاني، فهو فناءٌ فوق فناء.
يُعلّق قلبه بمال، بجاه، بشخص، بمنصب، بل حتى بصورة في ذهنه عن السعادة، ثم حين تزول هذه الأشياء – وهي لا محالة زائلة – يتساقط القلب كمن سُحبت الأرض من تحت قدميه.

قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26-27]

هي الحقيقة التي لا بد أن تُعلن في كل نفس: كل ما نراه زائل… لا يبقى إلا الله، فكيف يطمئن القلب لما لا يبقى؟

وجاء في الأثر: “من أحبّ شيئًا عذِّب به” [ورد في بعض آثار السلف]

ومعناه: إذا كان هذا الحبّ خارج دائرة محبة الله، ومتعلقًا بشيء دنيوي، فلا بد أن يُذيقه الله مرارة التعلّق، حتى يرجع إلى معية الباقي سبحانه.

فماذا عن تعلّق الباقي بالباقي؟
هنا تكمن النجاة، وهنا تثمر الحياة… حين يعلّق الإنسان قلبه بمن لا يزول، بمن خلق الحب وأجمل ما في الوجود، بمن يُبقيك وإن فنيَ كل ما حولك.

قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]

ولم يقل “فرّوا من الله”، بل “إلى الله”، لأن القلب لا يجد مأمنًا إلا عنده، ولا حبًا لا يُذِلّ إلا حبه، ولا تعلّقًا لا يُهين صاحبه إلا تعلّقه به.

يقول أحد الصالحين: “في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته…”

إشارة رمزية:

تعلق الفاني بالفاني كمن يسكب ماءه في الرمال… يذهب سعيه هباء.

أما تعلق الباقي بالباقي، فكمن يغرس شجرة في أرض الجنة… لا تموت.

رسالة المقال:
لا تُعلّق قلبك بما يُتعبك ويُفنيك… فكل ما في هذه الدنيا إلى زوال، وقلوب العاشقين إنما سكنت حين استقرت في حضرة الباقي، وانقطعت عما سواه.

اختر اليوم: أن يكون قلبك حرًا… بتعلّقه بالحر الذي لا يُستعبد أحدًا: الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *