خطبة بعنوان «فأما اليتيم فلا تقهر» أو حقوق اليتيم في الإسلام
إعداد فضيلة الشيخ: أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة ٥ من شوال ١٤٤٦هـ الموافق ٤ من إبريل ٢٠٢٥م
العناصر
لتحميل الخطبة pdf اضغط على الرابط أدناه
famaa alyatim fala taqharahmedezat
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد.
فإن الإنسان منا في هذه الحياة يسعى ليوفر لأبنائه سبل الحياة الكريمة، ويعمل جاهدًا لضمان تأمين مستقبل أيامهم، وإن أكثر مما يُنغص عليه عيشته ويجعله يخاف عليهم هو “الموت” الذي يُفرّق بينه وبينهم؛ لذلك طلب الإسلام من أتباعه ألا يحملوا همّ هذا الموضوع فقط عليهم بتقوى الله التي تُأمّن حياة أبنائهم فقال جلا وعلا: “وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريّةً ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولًا سديدًا” النساء
ومن الناحية العملية جعل المجتمع كله مسؤلًا عن هؤلاء الأيتام فطلب منه أن يرعاهم ويكفلوهم، ولا عجب فإن الدين الإسلامي هو دين الرحمة، وكتابه كتاب رحمة، ونبيه هو نبي الرحمة، والرحمة تعني الرفق والرأفة، والعطف والعناية والرعاية، ومن محاسن الشريعة الإسلامية أنها اهتمت بالفئات الضعيفة اهتمامًا عاليًا، وأولتهم عناية فائقة، ورعاية خاصة، ومن تلك الفئات الضعيفة الأيتام؛ ولأهمية هذا الموضوع، نسلط الضوء عليه في حديثنا اليوم لنناقش فيه مسألة رعاية اليتيم في الإسلام بتفصيل يغطي جميع جوانبها إن شاء الله بحيث يمكننا فهم هذا الموضوع فهمًا شاملاً. فنقول وبالله التوفيق:
يُقصد باليتيم عند الفقهاء من فقد أباه دون بلوغه مرحلة الحُلُم، فهو أحد الضعفاء وقد يكون أيضًا أحد العاجزين، فهو من أضعف الناس؛ لأنه فقد الظهر الذي كان يتقوى به ويحتمي بحماه،
وهو من أعجز الناس؛ لأنه فقد الركن الذي كان يدبر أمره ويرعى شؤونه، وربما ترك له أبوه أمًّا هي أعجز منه وأضعف وأحوج إلى من يرعى شؤونها ويحفظ عرضها ويدفع عنها وعن صغارها.
إن أمثال هؤلاء لو تركوا وأهملوا، ولم يجدوا من يربيهم ويرعاهم ويقوم لهم مقام الأب المشفق والراعي الحاني، فإن أحدهم ينشأ نافر الطبع، شارد الفكر، لا يحس بأي ارتباط بينه وبين مجتمعه، فلربما تلقفتهم أيد آثمة ونفوس قذرة فكانوا بعد ذلك آلة هدم وثمرة حنظل في حلق المجتمع، أو بؤر إرهابٍ وإفسادٍ وانحلال تقض مضجعه وتخيف أمنه.
وقد أولى الإسلام اليتيم أشد الاهتمام وعظم مكافأة الإحسان له، وجعل كفالته ورعايته من أعظم القربات إلى الله تعالى، حيث نصت النصوص الشرعية على ضرورة الإحسان إليه وحفظ حقوقه.
فما المقصود برعاية اليتيم؟
يُستخدم مفهوم “رعاية اليتيم” للإشارة إلى جميع الأفعال التي تتصل بالإحسان إليه، وحفظ حقوقه وماله، وتنشئته على دين الله.
وفي هذا السياق من الضروري الإشارة إلى أن هذه الرعاية لا تقتصر على تقديم المأكل والمشرب، بل كلمة الإحسان تشمل دلالة أوسع على مستوى الفعل والقول معًا فالإسلام، يُحرّم قهره أو ذلّه أو التعدّي عليه وعلى حقوقه بجميع أشكالها، ويحث على تربيته على القيم والأخلاق الفاضلة، وتعويضه بالقدر الكافي عما فقده من الحب والحنان بموت أبيه، مع توجيهه بالشكل السليم وتعديل سلوكه باتجاه الاستقامة، وردعه عن الخطأ والانحراف
فضل رعاية اليتيم في الإسلام
كرَّم الله سبحانه وتعالى كافل اليتيم، ووعده بالرزق والمغفرة، وجاء تأكيده في كلام رسولنا الكريم الذي وعد في حديثه الشريف من يكفل يتيمًا بالعديد من الخصال والفصائل والمنزلة الرفيعة، فله “صُحبة الرسول ﷺ في الجنة، وأجر عظيم في الدنيا، ففيه تنقية وتطهير للمال وتزكيته وبركة وزيادة في الرزق”.
حديث القرآن الكريم عن اليتيم
ذكر القرآن الكريم “اليتيم” في ثلاثة عشر موضعًا ووعد الله تعالى كافله بأجرٍ عظيم في الدنيا والآخرة، فكان لليتيم حظ موفور في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ في القيام عليه.
وكما حث الإسلام على الزكاة والصلاة والشعائر الإسلامية التي توصل صاحبها للخير والجنة، خص أيضًا “اليتيم” وكافله ومن يرعاه بخصال كبيرة فأمر الإسلام بالإحسان إليه، ونهى عن أكل حقوقه وحذر منها؛ فكان أكل مال اليتيم أحد الموبقات السبع التي أمر الرسول الكريم ﷺ بتجنبها،
١* جاء ذكر “اليتيم” في القرآن الكريم في معرض الحديث عن أركان الإيمان؛ لتكون دلالةً على أهمية البر به وحسن معاملته؛ حيث قال تعالى: (لَّیۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بالله وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱلۡمَلَـٰۤئكَةِ وَٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ …..) [البقرة ١٧٧].
٢* وأكد المولى عز وجل على أهمية الإحسان لليتيم والرحمة وأكد على أنه مما أخذ به ميثاق الأمم السابقة، فقال: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا الله وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ …)،
٣* وأنكر الله تعالى في القرآن الكريم سلوك من يسيء إلى اليتيم، وينتقص من كرامته، ورُبط ذلك بالدين، وبيّن أهمية رعايته وحفظ حقوقه، وجعل استذلال اليتيم، واحتقاره وإهانتة ودفعه من علامات التكذيب بالدين فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ*فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}، أي: يدفعه دفعًا عنيفًا بجفوة وأذى، ويردّه ردّا قبيحًا بزجر وخشونة إذا طلب منه شيئًا، فجعله الله من المكذبين بالدين، وهو الحساب والعقاب والوقوف بين يدي الله الواحد الديان.. فلو كان من المؤمنين بهذا الموقف والمصدقين لما دفع الأيتام ونهرهم وأساء إليهم وقهرهم.
٤* كفالة اليتيم من الأعمال الطيبة التي تقدسها الشرائع السماوية وتقدرها المجتمعات في مختلف الأزمان فإن الوصية بالأيتام والأمر بإصلاحهم ورعايتهم أمرٌ دعت إليه جميع الشرائع السماوية، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا الله وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ …} [البقرة:٨٣]،
ـ أنها من شيم وأخلاق جميع الأنبياء والمرسلين،
وتتضح هذه العناية في أبهى صورها في هذا التنافس الشريف الذي أنزل الله فيه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، في التنافس على كفالة مريم ابنة عمران؛ هذا التنافس الذي يدل على عظم وفضل ما يتنافسون عليه؛ حيث يقول تعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
ففاز نبي الله زكريا (عليه السلام) بكفالتة للسيدة مريم، قال تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: ٣٧]،
– وهذا نبي الله موسى والخضر (عليهما السلام) يقدمان لنا نموذجًا عاليًا في رعاية الأيتام اجتماعيًا، فيقومان ببناء جدارٍ آيل للسقوط كان ملكًا لغلامين يتيمين، وكان تحته كنزٌ لهما، يقومان بهذا على الرغم من لؤم أهل القرية معهما ومنعهما واجب الضيافة، قال تعالى: {أَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ …..} [الكهف: ٨٢].
– وها هي السيدة خديجة -رضي الله عنها- تشهد على رعاية النبي ﷺ للفئات الضعيفة في مجتمعه ومنهم الأيتام، فتقول: (… أَبْشِرْ فَوَ الله لاَ يُخْزِيكَ الله أَبَدًا، فَوَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ…) (متفق عليه).
* كما أمر الإسلام الأوصياء على الأيتام بعدم الأكل من أموالهم إن كانوا أغنياء، وإذا احتاجوا للأكل منها يأكلوا بالمتعارف عليه، بدون جور وبدون طمع، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:٦]،
* وتوعد الذين يأكلون أموال اليتامى بالباطل بالنار: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠].
وغير ذلك من الآيات كثير
وأما حديث السنة النبوية عن اليتيم فحدّث ولا حرج
فنظرًا للمكانة الرفيعة التي يتمتع بها من يكفله، فقد رتب -ﷺ- على الإحسان إلى اليتيم وعدًا بالأجر العظيم؛ ذلك أن طبيعة الإنسان ربما تستنكف أن تشغل نفسها بيتيمٍ، وربما تتركه اتكالًا منها على أن يأخذه غيره من باقي المسلمين؛ فإذا علم الشخص أن في إعالته لهذا اليتيم أجرًا وثوابًا ومقابلا مكافئًا؛ يكون ذلك أدعى للحرص على المسارعة إلى هذا الخير، وتتمثل عناية الإسلام باليتيم في التوصيات النبوية التي توليه عناية فائقة واهتمامًا به وحرصًا على الإحسان إليه، وإعالته حتى يستغني، والعمل على إدخال السرور على قلبه، مع مراعاة مشاعره وعواطفه.
* جعل ﷺ خيرية بيوت المسلمين مرتبطة بالإحسان إلى اليتيم.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: (خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ) (رواه ابن ماجه).
فأي اهتمام بعد هذا الكرم النبوي الذي يجعل خيرية بيوت المسلمين مرتبطة بالإحسان إلى اليتيم.
* بشَّر الرسول الكريم ﷺ راعي اليتيم وكافله الجنة:
فعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ﷺ: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى» رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: [قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي ﷺ في الجنة ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك] ثم قال الحافظ ابن حجر: وفيه إشارة إلى أن بين درجة النبي ﷺ، وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى. وقال أيضاً: قال شيخنا في شرح الترمذي: لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة، أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي ﷺ، أو منزلة النبي ﷺ لكون النبي ﷺ شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلاً لهم ومعلماً ومرشداً، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل، ولا دنياه، ويرشده، ويعلمه، ويحسن أدبه فظهرت مناسبة ذلك.
وسواء كان هذا اليتيم قريبًا لك أو غريبًا، فكلهم تنال به هذا الشرف العظيم، كما جاء في صحيح مسلم، قال ﷺ: (كافِلُ اليَتِيمِ، له أوْ لِغَيْرِهِ، أنا وهو كَهاتَيْنِ في الجَنَّةِ) وأَشارَ مالِكٌ بالسَّبَّابَةِ والْوُسْطَى.
إن شرف مصاحبة النبي ﷺ في الجنة من أبرز ما يُشجع على كفالة اليتيم هو الشرف العظيم الذي يناله الكافل بمصاحبة النبي ﷺ في الجنة، كما ورد في الحديث الشريف، هذا الشرف ليس مجرد مكافأة روحية بل تعبير عن المنزلة الرفيعة التي يرتقي إليها الكافل نظرًا لعظم العمل الذي يقوم به، وهذا يؤكد أن الإسلام يقدر الأعمال التي تسهم في الرفع من شأن الإنسان وتحسين مجتمعه.
* وأطيب المال ما أُعطي منه اليتيم، قال عليه الصلاة والسلام: “إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحبُ المالِ المسلم ما أَعَطي منه المسكين واليتيم وابن السبيل”.(متفق عليه).
وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله ﷺ: «هذا المال خضرة حلوة ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه اليتيم والمسكين وابن السبيل» رواه الإمام أحمد
* وبالمقابل حذر من أكل حقوقه وعواقبها
فلقد عدّ النبي ﷺ أكل أموال اليتامى من الموبقات التي توبق صاحبها في النار، ففي البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَات، قَالُوا: يَارَسُولَ الله وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: ”الشِّرْكُ بالله وَالسِّحْر، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ).
مظاهر كفالة اليتيم
الطفل اليتيم غالبًا ما يعاني من حساسية مفرطة في تفسير تصرفات الآخرين تجاهه؛ نظرًا لاضطرابات الطبع التي تتولد لديه جراء ما يعانيه، وهذه التصرفات تتجه للعالم الخارجي الذي كثيرًا ما يكون سلبيًّا في تعامله مع نفسية اليتيم؛ فيكون الزجر والعنف والقسوة؛ لذا كانت عناية الإسلام بنفسية اليتيم، والتلطف في معاملته كبيرة؛ فقد قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ}.
وكافل اليتيم يجب أن يدرك أن عمله يختلف عن الصدقة والزكاة؛ حيث إن كفالة اليتيم تحتاج منه لمتابعة ومراقبة ونصح واهتمام ولو عن بعد، وهذا يعود بنتائج إيجابية على نفسية اليتيم، ويساعده في أن يصبح إنسانًا سويًّا صالحًا، يكمل مشوار أبيه إن كان صالحًا.
ومن المفاهيم الخاطئة أن كفالة اليتيم تقتصر على الاهتمام المادي به فقط، ولكن الإسلام يرتقي بهذه المهمة من دركات الماديات والحسيات إلى درجات المعنويات والمعاملة السامية؛ فيأمر بإصلاحهم، ويحض على مخالطتهم وإشراكهم في المجتمع؛ ذلك أن العزلة لها آثارها الخطيرة على نفسية الطفل، خاصة إذا كان يعاني من هذه الحساسية التي يعاني منها من فقد أحب الناس إليه؛ حيث يقول تعالى في معرض حديثه عن منظومة القيم الأسرية والاجتماعية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، وليعلم كافل اليتيم أن إكرام اليتيم يكون بقدر مخالطته للمجتمع واندماجه فيه.
وليعلم الكثير أن هناك أيتامًا أغنياء، لكنهم يحتاجون لكفالة وإكرام معنوي، وهذه الكفالة والإكرام يحتاجهما اليتيم الغني كما يحتاجهما اليتيم الفقير، والإكرام المعنوي غالبا ما يكون أفضل من الإكرام المادي: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ}.
وليس من الضروري في كفالة اليتيم أن يعرف الكافل لليتيم من هم والدا اليتيم، وما إذا كان اليتيم ولدًا شرعيًا أم لا، فالكفالة تصح حتى لمجهول النسب بل الغالب أن أمثال هؤلاء أحوج إلى الكفالة من غيرهم؛ فهم لا ذنب لهم في أن نسبهم مجهول ولا يعرف لهم قريب ولا عصبة تعتني بأمرهم، ولهذا: إن لم يكونوا أحوج من غيرهم إلى الكفالة فليسوا بأقل حاجة منهم إليها على كل حال.
ومن مظاهر إكرام اليتيم أن يحرص على تأديبه ورعايته ومراقبته ومحاسبته، كما يفعل مع ولده؛ فقد روي عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: “أدِّب اليتيم مما تؤدب به ولدك، واضربه مما تضرب به ولدك”، وهذا نبي الله زكريا يتابع السيدة مريم ويراقبها ويسألها عن الرزق الذي وجده عندها {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ}.
فلا بد من تعليم اليتيم وتثقيفه، ومعاملته المعاملة العادية التي نعامل بها أولادنا حتى لا نجرحه، ولنحذر أن نعامله معاملة خاصة تختلف عن الآخرين.
ويجب متابعة أحوال اليتيم بما يطيق الكافل {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}؛ بحيث يكفي الشعور والإحساس بهذا اليتيم، ولو أن يمسح على رأسه، وهذا من محاسن الإسلام؛ حيث يستطيع الكافل الفقير والمجتمع كله أن يكفل اليتم.
أنواع وأنماط رعاية اليتيم
الفرق بين الكفالة والتبني وحكم التبني بالإسلام
الكفالة في الإسلام تختلف جذريًا عن التبني؛ الكفالة تعني رعاية اليتيم والإنفاق عليه دون تغيير في نسبه أو إعطائه حقوق الأبناء البيولوجيين،
أما التبني فقد نهى عنه الإسلام لأنه يؤدي إلى تغيير في الأنساب ويخل بالحقوق الشرعية كحقوق الميراث وزواج المحارم،
الكفالة تحافظ على الهوية الأصلية لليتيم وتضمن حصوله على كل حقوقه دون التأثير على نسبه.
أنواع كفالة اليتيم
وكفالة اليتيم تتخذ أشكالاً متعددة تتيح للكافلين المرونة في اختيار الطريقة التي تتوافق مع قدراتهم وإمكانياتهم، كل صورة من صور الكفالة تحمل في طياتها أبعادًا دينية واجتماعية هامة تؤكد على الدور الفعال للكفالة في تحقيق التكافل الاجتماعي وتعزيز الأمان النفسي والاجتماعي لليتيم.وتقوم بعدة أشكال،
١- أعلاها وأحسنها الكفالة التامة:
هذا النوع من الكفالة يعد الأمثل والأكمل، حيث يضم الكافل اليتيم إلى أسرته ويعتبره فردًا من أفرادها، يوفر له الطعام والملبس والمأوى والتربية، فالكافل هنا يتولى مسؤولية اليتيم بشكل كامل، مهتمًا بجميع جوانب حياته اليومية والتعليمية والعاطفية.
وتعتبر هذه الكفالة تجسيدًا لمعاني الرحمة والمودة التي حث عليها الشرع، هذا النوع من الكفالة يعزز من شعور اليتيم بالأمان والاستقرار، ويساعد في تكوين شخصيته بشكل سليم، ويمنحه الحب والعطف الذي قد يفتقده.
فاحتضانه ودمجه بين أطفالك وجعله واحدًا من الأسرة التي ستعوضه عما فقده وما يعانيه من حرمان وحنان، فيعيش ضمن الأسرة كأنه فرد منها لا يشعر بالفقد ويعامل بالمثل كباقي أولادها، ويكون هذا حتى يبلغ الطفل، وهذا النوع الذي كان شائعًا في زمن صحابة الرسول الكريم ﷺ وهذه هي الصورة المثالية والأفضل والأعلى درجةً لكفالة اليتيم
أما الشكل الثاني فهو الكفالة المالية:
في هذا النمط يقوم الكافل بتقديم دعم مالي مستمر لليتيم دون أن يضمه إلى أسرته؛ فتكون بالإنفاق عليه ضمن أسرته الأساسية هذه الأموال تستخدم لتغطية جميع النفقات الأساسية مثل الطعام، الملبس، التعليم، وأحيانًا الرعاية الصحية من خلال تلبية متطلباته في المجتمع الذي يعيش فيه، عبر نفقة أو كفالة تكون سندًا له في مواجهة خطوب الحياة عبر المنظمات أو الجمعيات الخيرية أو الأشخاص أنفسهم وهو الشائع في زماننا الحاضر.
وهذا الشكل من الكفالة وإن كان أدنى درجةً من الصورة الأولى إلّا أنّه يترتب عليه عظيم الأجر وينال الكافل به أجر الكفالة، وتلعب الكفالة المالية دورًا حيويًا في تأمين حياة كريمة لليتيم دون التدخل المباشر في شؤونه اليومية، هذا النوع يحفظ كرامة اليتيم ويعزز من استقلاليته، ويتيح للكافل فرصة لأداء واجبه الديني والاجتماعي دون الحاجة لتغييرات كبيرة في نمط حياته.
٣- ومن أشكال رعاية اليتيم الكفالة الجزئية:
وهذه الصورة تشمل مساهمة الكافل بجزء من المال اللازم لرعاية اليتيم، مثل المساهمة في تكاليف التعليم أو الرعاية الصحية، قد تتضمن أيضًا تقديم الدعم في مناسبات معينة أو حسب الحاجة.
وتوفر الكفالة الجزئية فرصة للأفراد ذوي الموارد المحدودة للمشاركة في أعمال الخير ودعم اليتامى، هذه الطريقة تعزز من قيم التعاون والمشاركة المجتمعية، وتفتح المجال لأكبر عدد من الناس لتقديم المساعدة والعون لليتامى، مما يكرس مفهوم الأمان الاجتماعي والتكافل الذي يعد من ركائز الدين الإسلامي
أيضًا المساهمة ماليًا من خلال دفع مبلغ مالي على سبيل المثال لدور الأيتام التي تتولى رعاية الأيتام وتنشئتهم ضمن برامج موحدة في مدارس أو جمعيات أو مراكز مخصصة تعتمد على الدعم الذي يصلها لتقديم الرعاية لهؤلاء الأيتام على كافة الأصعدة سواء المأكل والملبس والتعليم والتربية وغير ذلك.
٤- ولعل أبرز أشكال رعاية اليتيم احتضانه عاطفيًا وتعويضه عن الحب والعاطفة التي فقدها بخسارة أبيه ولا سيما في سن صغيرة، ويأتي على هيئة دعم نفسي، لاسيما في الأزمات والكوارث، ليتمكن اليتيم من تجاوز الواقع الذي عايشه من فقد وحرمان، ويستطيع إعادة بناء شخصيته ويكون قادرًا على تجاوز الصعاب مستقبلاً بنفسه.
وفي الختام نجد أن كفالة اليتيم تمثل التزام ديني عميق يعكس روح التكافل والرحمة التي يحث عليها الإسلام، فإن الاعتناء باليتامى استثمار في بناء مجتمع متماسك ومتوازن ينمو فيه كل فرد بأمان وسلام، كما أن المشاركة فيها تعد من أجلّ الأعمال التي ترفع من شأن الفرد في الدنيا والآخرة، مما يجعل من كفالة اليتيم ركيزة أساسية لتعزيز الأخلاق الفاضلة والقيم الإنسانية السامية، لذا، فإن الحث على تبني هذه القيم وتنشئة الأجيال على احتضانها يُعد دعوة لكل مسلم ومسلمة إلى تجسيد هذه المبادئ الراقية في أفعالهم وأحوالهم، ساعين دومًا لإرساء دعائم مجتمع مليء بالحب والتعاطف والكرم، جميعها قيم يرتقي بها الإنسان إلى أعلى مراتب الخيرية والأخلاق.
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.
أيها الإخوة المؤمنين
تلخيصًا لأشكال رعاية اليتيم في الإسلام وكفالته، يمكن وضع كل ما ذُكر تحت هذه الفئات:
الرعاية الاقتصادية والمالية
الرعاية الاجتماعية
الرعاية الصحية
الرعاية النفسية
الرعاية التعليمية والتربوية.
وأما عن آداب التعامل مع اليتيم
إن للتعامل مع اليتيم العديد من الآداب التي يُحسن التحلّي بها حين التعامل معه، يُذكر منها:
ملاطفته والبشاشة في وجهه، ولين الجانب والمزاح معه، وإدخال السرور إلى قلبه.
تعزيز الجوانب الإيجابية وغرس الثقة في نفس اليتيم، وتنمية القدرات والإبداعات لديه.
التربية الإيمانية السليمة، وتعميق فهم العقيدة الصحيحة، وتنمية القيم والأخلاق الفاضلة لديه، وزيادة حبّه وتمسّكه بكتاب الله وسنة رسوله -ﷺ-، وعرض بعض القصص القرآنية عليه التي تبيّن قدرة الله -تعالى- ورحمته، والقصص النبوية التي تجعله قدوةً لغيره في المجتمع.
التوجيه والإرشاد وتعديل السلوكات الخاطئة بالتي هي أحسن ما أمكن ذلك.
تحفيزه لأداء الأعمال النافعة والثناء عليه بعد أدائه لها، وترغيبه بالاستمرار والمداومة على الخير والبرّ والوصول إلى الدراجت الرفيعة.
التواضع لليتيم وعدم التعالي عليه بأي فعلٍ أو قولٍ، والتحلّي بالأخلاق التي تحلّى بها الرسول -ﷺ-.
الدعاء